أثار إعلان شركة "أمازون" عن تخطيطها لبناء مقر رئيس ثانٍ انتباه المسؤولين المحليين وخبراء التنمية الاقتصادية والنقّاد في جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا. وذلك لسبب وجيه، إذ إن المقر الذي يُطلق عليه اسم "إتش كيو 2" (HQ2) سيُوفر ما يصل إلى 50,000 وظيفة مرتفعة الأجور، وسيتسبب في ضخ مليارات الدولارات من الاستثمارات الجديدة في أي مدينة سيقع فيها. بل وستشهد المدينة التي تفوز بهذه الصفقة التاريخية تحولاً في المشهد الاقتصادي والمادي لديها، وإن كان ذلك لقاء ثمن باهظ يتمثل في إعفاءات ضريبية.
وركّز الاهتمام العام بإعلان "أمازون"، في غالبيته، على جانبين: الأول حول التكهنات حول أي واحدة من مناطق المدن الكبرى الخمسين المؤهلة في أميركا الشمالية هي الأكثر ترجيحاً لاختيارها لمقر "اتش كيو 2"، والثاني حول كمية الدعم العام الذي ستقدمه تلك المدينة لرابع أضخم الشركات الكبرى في العالم، في سبيل إتمام الصفقة.
ولكن، يترتب على هذا الإعلان آثار أعمق بكثير بالنسبة لمطوري الاقتصاد المحليين والإقليميين، سواء كانوا ممن يترقبون المقر الجديد أما لا. إذ تضع شركة "أمازون"، كما هو موضّح في طلب عروضها، قائمةً مُقنعة بالمعايير التي يجب أن تتوفر في المدن إذا كانت تطمح لأن تكون جزءاً مهماً من الاقتصاد الرقمي المتوسع لأميركا.
وكشفت أبحاثنا أن المدن الكبرى النابضة مستقبلاً هي التي ستستقطب القطاعات المتقدمة حديثة التقنيات. وذلك لأن تلك القطاعات تخلق وظائف وأجوراً جيدة في فترة ركود النمو الاقتصادي، وتحث على التداخل بين التقنيات الرقمية ونمو الأعمال التجارية المتطورة والتي يساهم فيها أيضاً كل من العمال الملمّون بالتقنيات واستثمارات البحث والتطوير. وتُعد القطاعات الرقمية دوافع رئيسة للنمو ضمن هذه القطاعات ذات القيمة المرتفعة. لكن ومع كل ما توفره هذه القطاعات من منافع وضجة، لا تزال الوظائف الرقمية تتركز جغرافياً في الأماكن المزودة بالتقنيات الحديثة، وذلك في وقت تحتاج فيه دولتنا إلى المزيد من المدن الكبرى، وخاصة في المركز الحيوي لأجل اكتساب موطئ قدم تنافسي في المستقبل الرقمي.
كيف إذاً يمكن للمدن أن تستقطب حصةً أكبر من النمو حديث التقنيات؟ وهنا، لا يكمن الحل في قيام تلك المدن بتحسين ترويج العلامة التجارية ومواد التسويق ومن ثم انتظار قدوم الفرصة التالية لاجتذاب أعمال تجارية على مستوى شركات مثل "أمازون". ولا يكمن أيضاً في التركيز بالكامل على استراتيجيات تطوير الاقتصاد التقليدية القائمة على تجميع مساحات الأراضي للأعمال التجارية المرتقبة وتقديم دعم مالي وفير (على الرغم من أنه يبدو أن شركة "أمازون" ترغب بالقليل من ذلك أيضاً). وإنما تحتاج المدن أن تقرأ بتمعن معايير شركة "أمازون" في طلب العروض، وأن تسأل عما إذا كانت قامت بما يكفي لتطوير الأصول الأساسية التي تُفضلها الشركات والقطاعات الابتكارية.
وتُعد قائمة رغبات شركة "أمازون" تأكيداً علنياً غير معتاد من واحدة من أشهر الشركات الكبرى في العالم على العوامل التي تجعل من وجود بيئة عمل متكاملة محلية أمراً مهماً في اقتصاد الابتكار المعاصر. ومن بين هذه العوامل:
- القدرة على تخريج أفراد ذوي مواهب ومهارة تقنية. إذ يركز طلب عروض شركة "أمازون" على أهمية تخريج المواهب، مع ذكر خاص لأهمية وجود نظام جامعي "قوي"، ووجود برامج علوم الحاسب ضمن نظام التعليم في مراحل التعليم الأساسي، وإتاحة فرص لشراكات خلّاقة مع كليات المجتمع والجامعات.
- سهولة الوصول إلى الأسواق المحلية والعالمية من خلال بنية تحتية حديثة. تُسهب "أمازون" في الحديث عن أهمية القُرب والاتصال بالمراكز السكنية. حيث ترغب بشبكة بنية تحتية قوية من الطرق السريعة والمطارات الدولية وخدمات نطاق عريض عالي السرعة لتيسير الخدمات اللوجسيتة وأداء الأعمال والوصول إلى تجمّعات التوظيف الكبرى.
- تصميم أماكن عامة توفر الاتصالات والاستدامة. يبدو طلب عروض شركة "أمازون" وكأنه حلم لمخطط حضري، حيث يفيض بطلبات لمبانٍ تحقق كفاءة الطاقة وخدمات إعادة تدوير وساحات عامة ومساحات خضراء وتعدد أنواع وسائط النقل المتوفرة. فبينما يبدو أن شركة "أمازون" ستفكر في المساحات غير المطوّرة وكذلك الأماكن المطوّرة القائمة بالنسبة لمقرها الرئيس الجديد، إلا أنها تُركز اهتمامها أيضاً على تعزيز إمكانية السير والاتصال بين المباني شديدة الترّاص من خلال "الأرصفة وخطوط الدراجات والترام والمترو والباصات وخطوط القطارات الخفيفة والثقيلة وغيرها من الخيارات المبتكرة".
- الثقافة والتنوع. تهتم شركة "أمازون" بتعزيز ثقافة شاملة. فينص طلب العروض بالتحديد على "وجود سكان متنوعين ودعمهم"، إلى جانب وجود مؤسسات تعليم عالي ممتازة وحوكمة محلية فاعلة.
باختصار، يُجسد طلب عروض شركة "أمازون" بوضوح شديد سلسلةً من قيم الأعمال التجارية المراعية للمستقبل التي تضم المشاركة العالمية والتنوع والإدارة البيئية الرشيدة.
كما تُشير شركة "أمازون"، علنياً وبوضوح شديد، إلى متطلبات السوق المتمثلة في التطوير الاقتصادي المعاصر والأحدث من الآن فصاعداً.
لقد كتبنا جميعاً الكثير عن أن التطور الاقتصادي الإقليمي يقوم على النمو من الداخل. ويتطلب هذا النمو، بدوره، مساعدة الشركات القائمة في التوسع والابتكار ودعم رواد الأعمال وتوليد برامج مهارات مرتبطة بالقطاعات وتقوية الأصول المحلية الأخرى التي تُحسن التطلعات الاقتصادية للقطاعات المحلية والعمال. وستحقق هذه السمات نتائج أفضل حتى من باقات الحوافز في جذب انتباه الشركات الخارجية المهتمة في الدخول في بيئة العمل المتكاملة الفريدة لإقليم ما.
لذا بدلاً من تشتيت انتباههم بالمنافسة بين المدن الناشئة عن إعلان شركة "أمازون"، يتعيّن على قادة التنمية المحليين والحكوميين صب اهتمامهم على إعادة ابتكار طريقتهم في القيام بالأعمال. ففي النهاية، سيقوم مقر "اتش كيو 2" لشركة "أمازون" في مدينة واحدة فقط، ولكن يمكن للمدن التي تستثمر في المواطنين والبنية التحتية والأماكن الجيدة أن تسير على طريق الازدهار في ظل اقتصاد عالمي فائق الرقمنة.