انضم الشريك في تأسيس "فيسبوك" كريس هيوز مؤخراً إلى مجموعة من الأصوات التي تنادي بوجوب تطبيق الهيئات التنظيمية الأميركية لسلطة مكافحة الاحتكار على شركة التكنولوجيا الرقمية العملاقة أو حتى "تفكيكها". علماً أن هذه الأصوات تضم المرشحة الرئاسية إليزابيث وارين، والسيناتور في ولاية تكساس تيد كروز، ووزير العمل السابق روبرت رايخ. وقد صنّف هيوز هذه الخطوة بالضرورية من أجل إبطال الآثار الأكثر خطورة التي شهدنا ظهورها بسبب "فيسبوك" والمنصات المماثلة، مثل انتشار المعلومات المضللة وخطابات الكراهية. لاقى هيوز دعماً شعبياً كبيراً من الجمهور العريض، إلى جانب انتقادات حادة من مؤسسات السياسة المنافسة. وقاومت الشركة نفسها هذه النداءات، إذ كتب المدير التنفيذي الجديد للسياسة العامة في الشركة نيك كليغ رداً لاذعاً يقول فيه إن تفكيك شركة "فيسبوك" لن يكون إلا عقوبة لشركة مبتكرة حققت قيمة اقتصادية هائلة، فماذا عن موضوع فيسبوك كمرفق للخدمة العامة تحديداً؟
الأهم هو أن تفكيك الشركة ليس الطريقة الوحيدة لتخفيف آثارها المدمرة، ولذا أقترح نهجاً أكثر حسماً. برأيي، أصبحت شركة "فيسبوك" والشركات المماثلة احتكارات طبيعية تستوجب مجموعة قوانين جديدة صارمة تقف في وجه تجاوزاتها الرأسمالية وتحمي الجمهور من الاستغلال الاقتصادي المتأصل فيها. ورغم عدم استبعاد هذا الخيار لإمكانية إجراءات تفكيك للشركة، إلا أنني أعتقد أنه الهدف الأهم، ويجب أن يحظى بالأولوية. ولكي نفهم السبب في ذلك، يمكننا تطبيق القوانين الأساسية للمنافسة التقليدية وتحليل سياسة مكافحة الاحتكار التي يفكر أصحاب القرار فيها بحركيات القطاع تدريجياً.
اقرأ أيضاً: كيف يحاول فيسبوك منع سياسة الوصولية في العمل؟.
فيسبوك كمرفق للخدمة العامة
تتمثل الخطوة الأولى بالنظر في ما إذا كان القطاع الذي تعمل الشركة ضمنه "تنافسياً". ومن أجل القيام بذلك، تنظر شعبة مكافحة الاحتكار ولجنة التجارة الفيدرالية في وزارة العدل عادة في الحصة السوقية للشركة المعنية. (ويعتمد تحديد الهيئة التي تتخذ القرار على الظرف المحدد). ليس هناك عتبة واضحة لمقدار الحصة التي يمكن أن تمتلكها شركة ما في السوق كي تُعتبر شركة احتكارية، رغم أن لجنة التجارة الفيدرالية لا تدقق عادة على أي شركة بشأن القوة الاحتكارية إذا كانت تشغل أقل من نسبة 50% من السوق، في حين تعتبر المفوضية الأوربية أن الحد الأدنى لحصة السوق التي تؤدي إلى وجود قوة احتكارية يبلغ 39.7%. إذا بدت لك السوق تنافسية ستدعها وشأنها، أما إذا لم تكن تنافسية (كما هو الحال بالنسبة لأبرز شركات وادي السيليكون الرقمية العملاقة برأيي)، ستنتقل إلى الخطوة التالية من التحليل.
فلنطبق ذلك على شركة "فيسبوك". يمكن أن يكون تحديد القطاع الذي تعمل ضمنه الشركة صعباً، لأن ممتلكاتها وميزاتها التقنية تتغير بسرعة كبيرة، كما يتغير القطاع بأكمله. ويمكن أن يُقال الشيء ذاته عن شركات الإنترنت الاستهلاكية الكبيرة الأخرى. ونظراً لامتلاك "فيسبوك" لعدد من المنصات، بما فيها "ماسنجر" و"واتساب" و"إنستغرام" وتطبيق "فيسبوك" (الذي يسمى التطبيق الأزرق الكبير)، فهي تشمل وسائل إعلام اجتماعية ومشاركة الصور والمراسلة من بين غيرها من القطاعات. ونظراً لهذا، أقول إنه في الولايات المتحدة تحظى شركة "فيسبوك" بحضور مهيمن في كل مجالات نشاطات مستهلكيها. ويشير ذلك في الواقع إلى أن الأسواق الرئيسية التي تعمل ضمنها خدمات الشركة لم تعد قادرة على المنافسة.
اقرأ أيضاً: كيف يحافظ فيسبوك على سلامة بيانات المستخدمين؟.
ثانياً، لدفع التحقيق في سياسة المنافسة قدماً في الولايات المتحدة يجب إثبات امتلاك الشركة المعنية حصة سوقية أكبر مما ينبغي، إضافة إلى وجوب إثبات أن هذه الشركة تستخدم موقعها هذا في السوق من أجل استغلال المستهلك، عن طريق معيار يستخدمه النظام القضائي منذ زمن للاستدلال على الزيادات التي تطرأ على متوسط سعر المستهلك.
قال العديد من الخبراء إن شركات مثل "فيسبوك" و"جوجل" لا تشارك في هذا الاستغلال، لأن المستهلكين لا يدفعون المال مقابل الحصول على أكثر الخدمات إدراراً للربح مثل وسائل الإعلام الاجتماعية والبحث. ولكن هذا الاستنتاج يسير في الاتجاه الخاطئ، فأشكال العملات المختلفة تساعد في تسيير الأعمال في الأسواق المختلفة منذ زمن طويل، والعملة المستخرجة من الأفراد في ظل الإنترنت الاستهلاكي ليست نقوداً اعتيادية، وإنما مزيج جديد معقد من بيانات الأفراد الشخصية واهتماماتهم. ونظراً لتركيز السوق الذي تُمثله شركات مثل "فيسبوك" و"جوجل" في قطاعاتهما الفردية، يمكننا الإشارة إلى أنها شركات شبه احتكارية تجمع الكثير من البيانات وتستغل الكثير من اهتمامنا بطرق متعدية مشبوهة تضع المستهلكين في وضع حرج على نحو منهجي حتمي. وكما ناقشتُ في دراسة أجريتها مؤخراً، فهذه الشركات هي منصات ثنائية الجانب احتكرت جانب المستهلك. وبناء على ذلك فهي تستخرج عملة المستهلكين النهائيين على أحد جانبي المنصة بمعدلات احتكارية فاحشة، وتستبدلها بأرباح نقدية ذات هوامش شديدة الارتفاع على الجانب الآخر. وهذا شكل دقيق، ولكنه مدمر، من أشكال الاستغلال، ويجب أن يعتبره أصحاب القرار مرفوضاً بدرجة كبيرة.
والخطوة الثالثة هي دراسة السوق من أجل معرفة ما إذا كان بإمكان أصحاب المشاريع الناشئة والشركات الأخرى المنافسة في هذا القطاع يوماً. وإذا كان ذلك ممكناً، يجب علينا عندئذ القيام بسلسلة من الإجراءات المؤيدة للمنافسة. وقد تتنوع هذه الإجراءات بدءاً من إصدار قوانين هادفة تحمي المستهلكين على نطاق ضيق من أشكال محددة من الأذى وصولاً إلى تفكيك الشركات فعلياً. وهذا ما اقترحه هيوز والآخرون فيما يخص "فيسبوك".
اقرأ أيضاً: كيف يحافظ فيسبوك على سلامة بيانات المستخدمين؟.
ولكن إذا لم تر إمكانية تنافس أي رجل أعمال بشكل طبيعي مع هذه الشركة الراسخة، سيختلف الأمر تماماً. ففي هذه الحالة، تكون هذه الشركة شركة "احتكار طبيعي". كانت شركات السكك الحديدية والطرق والاتصالات تعتبر في الماضي احتكارات طبيعية، لأن تكاليفها من البنى التحتية وغيرها من الحواجز التي تعيق الدخول إلى السوق تستوجب عدم وجود أكثر من لاعب واحد في كل من تلك الأسواق المحددة. وعندما يصل أصحاب القرار إلى مثل هذا الاستنتاج عن شركة ما عادة، يحاولون أولاً تأسيس مجموعة من القوانين الشبيهة بقوانين "المرافق" الصارمة، فتتم حماية المستهلكين من الاستغلال قبل النظر في الأشكال الثانوية من السياسة التنظيمية. مثلاً، تقوم الحكومة الفيدرالية بتنظيم الحد الأدنى من مستويات خدمة مكالمات الطوارئ في شركات الاتصالات، وتقدم المبادئ التوجيهية لتعاملهم مع بيانات المستهلكين.
أعتقد أن الإنترنت الاستهلاكي هو نوع من الاحتكار الطبيعي. إذ تظهر الشركات الرائدة المكونة لهذا القطاع آثار الشبكة باستمرار، وهي زيادة قيمة خدمات الشبكات التي تديرها "فيسبوك" و"أمازون" و"جوجل" عند زيادة عدد مستخدميها. وهذا في الوقت نفسه يصعب على الداخلين الجدد تقديم مستويات تنافسية من الفائدة للمستهلكين منذ بداية عملهم. وكما كان الحال مع الاتصالات الهاتفية سابقاً، يضع هذا القطاع اليوم حواجز مرتفعة للغاية يستحيل تجاوزها. لقد أسست شركات الإنترنت الرائدة بناها التحتية المادية والرقمية المعقدة تدريجياً، من خلال وضع شبكات مادية جديدة وتوفير سبل وصول تفضيلية لمزودي النطاق العريض ومالكي المحتوى، وإنشاء نظام حصري "لتتبع المستهلك واستهدافه" يمكنه منع المنافسة تماماً من الوصول إلى السوق للحصول على بيانات المستهلكين واهتمامهم. وعلاوة على ذلك، إذا تمكن صاحب مشروع ناشئ من تطوير فكرة مبتكرة تحقق قدراً معيناً من النجاح، يمكن لشركة إنترنت احتكارية شراؤها أو صنع نسخة عنها بسهولة وإدماجها في بنيتها التحتية القائمة. وبناء على ذلك، أعتقد أنه ليس هناك إمكانية لوجود شركة ثانية تنافس "فيسبوك" بقوة في الأسواق التي تُسيطر عليها بصورة فردية، ولا أن تنافس شركات الإنترنت العملاقة الأخرى في أسواقها.
اقرأ أيضاً: ما الذي يريد "فيسبوك" أن يصرف انتباهك عنه من خلال تحويل تركيزه المزعوم نحو الخصوصية؟.
ولذا، رغم أن تفكيك الشركات قد يبدو فكرة لا بأس بها، إلا أن الحدس الأول يجب أن يتجه نحو المعالجة المباشرة لنموذج العمل الذي يمنح هذه الشركات إمكانية الهيمنة بهذه الدرجة الكبيرة، عن طريق قوانين واضحة وصارمة تهدف لحماية نشاط الأسواق والمستهلكين أنفسهم، ناهيك عن حماية تكامل بيئة الإعلام وانفتاح التحقيق الصحفي. وإلا، ستستمر الشركات مثل "فيسبوك" في الحفاظ على مواقعها الاحتكارية وتعزيزها، ومواصلة بناء هيمنتها على بيانات المستهلك والذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية والمادية.
إذا اتفقنا على أن الشركات مثل "فيسبوك" هي شركات احتكارات طبيعية، يجب أن نبدأ بالتفكير في قوانين مرافق الخدمات العامة، والتي يمكن أن تُخضع هذه الشركات للمساءلة بفعالية أمام الجمهور. في الماضي، أطلقت الولايات المتحدة هذه التصنيفات على شركات احتكارات خاصة وعامة (بما فيها المرافق الكهربائية مثلاً) مما أدى بطرق مختلفة إلى إنشاء هيئات تنظيمية جديدة لمعالجة التجاوزات الاحتكارية. وفي حالة شركات الإنترنت الاستهلاكي، يمكن أن تتطلب القوانين ما يلي: إيجاد معايير أكثر صرامة فيما يتعلق بخصوصية المستخدم ومعالجة البيانات، وتحقيقات واضحة ومتسقة في أي عملية اندماج أو استحواذ أو نمو شركة في الصناعات الموازية، وخصوصاً في الحالات التي يمكن أن تؤدي إلى التركيز المفرط أو اختناق السوق، وتوفر الشفافية الكاملة في طرق نشر خوارزميات هذه الشركات للإعلانات والمحتوى، وتحديداً نشرها للفئات المهمشة من السكان، ووضع ضرائب أو أحكام تنهض بالمصالح العامة كالصحافة المستقلة ومحو الأمية الرقمية، والحد الأدنى المطلوب من الاستثمارات في التقنيات التي يمكنها الكشف عن الحالات الواضحة من خطابات الكراهية والتضليل وغيرها ومكافحتها بصورة استباقية.
وفي نهاية الحديث عن موضوع فيسبوك كمرفق للخدمة العامة تحديداً، ليس من الضروري أن يعني ذلك كله عدم وجوب السعي لتفكيك هذه الشركات، ولكن تفكيكها قد لا يكون علاجاً فعالاً للأضرار الناجمة عن شركات الإنترنت الاستهلاكية ذات الأثر الفوري، وبالتالي تصبح ضرورته أضعف. ما يجب أن تسعى حكومة الولايات المتحدة لملاحقته في الواقع هو تجاوزات نموذج العمل الذي قام بتخريب منهجي للصالح العام، وكرس سلسلة من العوامل الخارجية السلبية في وسائل إعلامنا ونظام معلوماتنا البيئي. يمنح التصميم الاقتصادي في الولايات المتحدة السوق الرأسمالي حق حرية الابتكار. ولكن عندما يوّلد هذا الاستغلال التجاري استغلال الفرد، تتخذ بلادنا دوماً إجراءات لحماية مصالح ديمقراطيتنا قبل حماية حرية الأسواق. ويجب ألا يختلف الأمر بالنسبة لشركات الإنترنت الاستهلاكي.
اقرأ أيضاً: ما مدى الفائدة التي تحققها شبكات التواصل الاجتماعي لشركتك؟.