ملخص: إن الزعزعة (Disruption) ليست السبيل الوحيد للابتكار والنمو، فالابتكار غير المزعزع ينشئ سوقاً جديدة خارج حدود القطاع القائمة أو يوسع سوقه الحالية وله مزاياه التنظيمية والتنافسية. يحدد المؤلفون في هذه المقالة 4 مزايا للابتعاد عن الزعزعة: 1) يجنبك المواجهات المباشرة مع كبار المنافسين في السوق. 2) يُعد وسيلة فعالة للاستجابة للزعزعة الشاملة. 3) يسهّل تأمين الدعم من أصحاب المصلحة الداخليين. 4) يجنبك إلى حد كبير ردود الفعل العنيفة من أصحاب المصلحة الخارجيين.
أفلست شركة سمايل دايركت كلوب "إس دي سي" (SmileDirectClub-SDC) الأميركية المتخصصة في طب الأسنان عن بُعد في ديسمبر/كانون الأول 2023، وكانت تقدّر قيمتها بنحو 9 مليارات دولار أميركي وعلى وشك أن تُحدث ثورة في قطاع تقويم الأسنان التقليدي. قدّمت شركة إس دي سي حلاً غير مسبوق لتقويم الأسنان، ونجاحها لم يكن مفاجئاً بسبب السعر الذي قدمته (نحو 1,800 دولار أميركي مقابل 3,000 إلى 6,000 دولار أميركي للمنتجات المشابهة الأخرى)، ووقت العلاج (6 أشهر مقابل نحو عامين للمنتجات المشابهة)، والاستغناء عن زيارات العيادة، بالإضافة إلى التقويم الشفاف المتحرك الذي يمكن بسهولة ارتداؤه وخلعه، ومنذ تأسيس الشركة في عام 2014 فضلت قاعدة عملائها التي ضمت مليوني شخص استخدام تقويم أسنان إس دي سي (SDC) على تقويم الأسنان التقليدي.
ما الذي أوصل هذه الشركة المبتكرة إلى إقفال أبوابها بعد هذا النمو الهائل؟
يبدو أن نجاح شركة إس دي سي الأولي في استقطاب عدد كبير من العملاء وإبعادهم عن أطباء الأسنان المحترفين قد ارتدّ عليها، فبعد أن هددت خطوة شركة إس دي سي المزعزعة مصالح أطباء الأسنان، تحالفوا مع الجهات الرقابية وتكتلوا ضد الشركة؛ اعترض أطباء الأسنان على جودة الرعاية التي تقدمها شركة إس دي سي ومستوى سلامتها، ما أثار دعاوى قضائية وتحقيقات رقابية واهتماماً سلبياً من وسائل الإعلام، وأدت التكلفة العالية والمدة الزمنية الطويلة للنزاعات القانونية، إلى جانب النفقات الإعلانية الضخمة لتخفيف حدة الضرر الذي لحق بسمعة الشركة وجذب عملاء جدد، إلى تراكم الديون. وبعد 4 سنوات من طرحها للاكتتاب العام في سبتمبر/أيلول 2019، أدى تضخم الديون إلى سقوطها في نهاية المطاف.
تجذب الزعزعة بطبيعتها المدراء ورواد الأعمال، فالقطاع المراد زعزعته يمثل هدفاً واضحاً لأن حجم سوقه معروف وحاجة العملاء معروفة وهم مستعدون لدفع ثمنها. ومع ذلك، وكما أظهرت حالة شركة إس دي سي، فاستهداف جوهر القطاع الراسخ بحلول مزعزعة يثير مقاومة عنيفة ومواجهة مباشرة من الشركات الراسخة وأصحاب المصلحة الآخرين، ويجب أن تكون الشركات التي ترغب في إحداث زعزعة في السوق مستعدة لهذه المقاومة من الناحيتين الذهنية والاستراتيجية.
يجب أن يدرك المدراء أن الزعزعة ليست المسار الوحيد للابتكار والنمو، فالابتكار غير المزعزع ينشئ سوقاً جديدة خارج حدود القطاع القائمة أو يوسع سوقه الحالية، وله مزاياه التنظيمية والتجارية التي سنستعرضها.
الابتكار غير المزعزع يجنبك المواجهة المباشرة مع القوى الراسخة في القطاع.
تثبت حالة شركة إس دي سي أن قصص الزعزعة لا تنتهي دائماً بهزيمة القوي على يد الضعيف، فعند مواجهة هجمات مضادة قوية من مؤسسات راسخة لها شبكات معارف واسعة وموارد مالية وتسويقية قوية، قد تشعر الشركة المزعزعة بأنها مثل "دون كيشوت الذي يحارب طواحين الهواء".
ضع في اعتبارك من البداية أن ثمة طريقة بديلة للابتكار والنمو دون زعزعة؛ لنأخذ برنامج "افتح يا سمسم" (Sesame Street) على سبيل المثال، يعلّم هذا البرنامج التلفزيوني المخصص للأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة طرق العد وأسماء الألوان والأشكال والتعرف على الحروف الأبجدية من خلال الدمى المتحركة الملونة مثل غرغور ونعمان والألحان الجذابة والدروس الممتعة، كما يعلمهم مهارات أخرى مثل الإصغاء والتركيز واللطف مع الآخرين بطريقة ممتعة للغاية بحيث لا يدرك الأطفال أنه برنامج تعليمي.
لم يحل البرنامج محل دور الحضانة أو المكتبات على الرغم من شعبيته الكبيرة، ولكنه فتح سوقاً جديدة غير مزعزِعة للتعليم الممزوج بالترفيه في مرحلة رياض الأطفال، الذي لم يكن متوافراً على نطاق واسع من قبل. أتاح ابتكار برنامج "افتح يا سمسم" غير المزعزع نموه السريع دون عوائق ليصبح ظاهرة عالمية تصل إلى ملايين الأطفال في أكثر من 150 بلداً، وأدى إلى نشوء قطاع تعليمي ترفيهي لمرحلة رياض الأطفال يدرُّ ملايين الدولارات.
الابتكار غير المزعزع وسيلة فعالة للاستجابة للزعزعة الشاملة.
تقع الشركات في كثير من الأحيان أسيرة فكرة أن الزعزعة لا يمكن مواجهتها إلا بالزعزعة، لكن هذا الانتقام المباشر ليس سوى طريقة واحدة للتعامل مع الزعزعة، وهي ليست مجدية دائماً ولا هي الطريقة الفضلى.
لنتأمل تجربة شركة كونارد (Cunard) البريطانية الرائدة في قطاع النقل البحري عبر المحيط الأطلسي. عندما زعزعت الرحلات الجوية التجارية هذا القطاع في خمسينيات القرن العشرين، لم ترَ شركة كونارد أي طريقة يمكن أن تضاهي السرعة والراحة اللتين توفرهما الرحلات الجوية النفاثة عبر المحيط الأطلسي، فما بالك بالتفوق عليهما. ماذا فعلت؟ كان أول ما فعلته الشركة هو مجاراة هذه الزعزعة بخطوات مزعزعة قبل انقراض قطاع النقل البحري عبر المحيط. دخلت شركة كونارد قطاع النقل الجوي من خلال الاستحواذ على شركة إيغل إيرويز (Eagle Airways) وإعادة بناء العلامة التجارية باسم كونارد إيغل (Cunard Eagle)، لكن شركات الطيران لم تدع ذلك يمر مرور الكرام، وسرعان ما استخدمت منافستها الرئيسية، شركة بريتيش أوفرسيز إيرويز كوربوريشن British Overseas Airways Corporation (BOAC))، نفوذها في القطاع لإلغاء ترخيص شركة كونارد إيغل.
هل كان مصير شركة كونارد الزوال بفعل الزعزعة؟ بل على العكس من ذلك، إذ اتخذت شركة كونارد خطوة غير مزعزعة من خلال ابتكار "رحلات الإجازات الفاخرة عبر البحر"، معلنة ظهور قطاع الرحلات البحرية الحديثة. في هذا القطاع الجديد، لم يعد يُنظر إلى السفن العابرة للمحيطات باعتبارها وسيلة سفر إلى مقصد محدد، فالرحلة بحد ذاتها هي المقصد. كان الناس يحجزون الرحلات البحرية بهدف المتعة والترفيه الفاخر وليس الانتقال من مكان إلى آخر فحسب. تجاوزت خطوة كونارد حدود الابتكار في أي من القطاعات القائمة في ذلك الوقت، وسمح لها ابتكارها غير المزعزع بالهروب من القوة المزعزعة لشركات الطيران التي دمرت خطوط الطيران الأخرى عبر المحيطات. شركة كونارد هي اليوم جزء من شركة كرنفال كوربوريشن (Carnival Corporation)، ويحقق قطاع السياحة البحرية الذي قادته منذ نحو 60 عاماً إيرادات تبلغ نحو 30 مليار دولار سنوياً، ويخلق أكثر من مليون وظيفة.
الابتكار غير المزعزع يسهّل تأمين الدعم من أصحاب المصلحة الداخليين.
عندما ترغب الشركات الراسخة في تحقيق ابتكار ضمن قطاعها يؤدي إلى زعزعة أعمالها القائمة والإيرادات التي تصاحبها وإزاحتها عن مسارها الحالي، فهي تواجه غالباً عقبات تنفيذية كبيرة مع أصحاب المصلحة الداخليين؛ أي الموظفين والمدراء والمسؤولين التنفيذيين والمستثمرين.
لنتأمل الحالة النموذجية لشركة كوداك (Kodak) التي اخترعت الكاميرا الرقمية الأولى في العالم. في حين أدركت شركة كوداك التهديد المزعزع الذي يمثله التصوير الرقمي، لم تستطع أن تؤيد هذه الخطوة لأنها ستؤدي إلى تفكيك أعمال الشركة المربحة في مجال الأفلام والطباعة وستقضي على مصدر رزق الموظفين الذين يعتمدون عليها. أدت المقاومة والخلافات الداخلية حول طرح الكاميرا الرقمية إلى حيرة الإدارة وترددها في العمل على ابتكارها حتى فات الأوان.
وبخلاف الخطوة المزعزعة، فإن الابتكار غير المزعزع يوفر للشركات الراسخة مساراً قابلاً للتطبيق وأقل تهديداً للنمو والابتكار في السوق. لنتأمل ابتكار عقار فياغرا غير المزعزع. أنتجت شركة فايزر (Pfizer) الحبة الزرقاء في البداية لعلاج ارتفاع ضغط الدم، إلا أنها لم تنجح في تحقيق الغرض الأصلي منها في تجارب التطوير، ولكنها كشفت عن "أثر جانبي" مؤكد يعالج العجز الجنسي لدى الرجال. بشّر عقار فياغرا بطلب كبير مضمون نظراً لافتقار السوق إلى علاجات مقبولة على نطاق واسع لضعف الانتصاب، كما أنه لن يحل محل أي من أدوية الشركة وسيكون محرك نمو جديداً لها في حال نجاحه. والنتيجة: شعر أصحاب المصلحة الداخليون في شركة فايزر بالحماسة بدلاً من الخوف، وتقبّلوا المضي قدماً في إنشاء السوق الجديدة، وبعد فترة وجيزة من طرح العقار أصبح ظاهرة عالمية واحتل المرتبة الأولى في قائمة الأدوية التي تُصرف بوصفة طبية في محفظة شركة فايزر وحقق لها مبيعات تزيد على 30 مليار دولار أميركي.
يثبت نجاح عقار فياغرا أن ثمة أموالاً وفرصاً وتأثيرات كبيرة يمكن تحقيقها من خلال هذا النهج غير المزعزع والأقل تهديداً للابتكار والنمو، فهو يسمح للشركات الراسخة بالتنقل بين السياسات التنظيمية بفعالية أكبر وتخفيف قلق الموظفين، ويمكن أن يضمن الحصول على تأييد قوي بسهولة أكثر.
الابتكار غير المزعزع يجنبك ردود الفعل العنيفة من أصحاب المصلحة الخارجيين.
أصحاب المصلحة الخارجيون هم أفراد ومجموعات من خارج المؤسسة يتأثرون بخطوات الابتكار التي تتخذها المؤسسة في السوق، مثل المجتمع والحكومة والجمعيات غير الربحية وحتى وسائل الإعلام. تثير الزعزعة في كثير من الأحيان معارضة التحالفات ذات المصالح الاجتماعية والهيئات الحكومية والتحالفات غير الربحية، لأنها تزيح الجهات الفاعلة القائمة وتتحايل في كثير من الأحيان على قواعد القطاع وقوانينه، وقد تؤدي هذه المعارضة إلى حشد التأييد لتقييد الطرف المزعزع أو فرض ضرائب أو رقابة عليه.
كانت هذه هي الحال بالنسبة لشركة إير بي إن بي (Airbnb)، إذ حشدت جمعيات الفنادق التأييد ضدها لأنها لم تكن على وشك أن تزعزع القطاع فحسب، بل كانت تتجنب الضرائب المفروضة على الفنادق. وفوق ذلك شهدت المدن سحب العقارات السكنية المخصصة للإيجار من السوق وإعادة توجيهها إلى الإقامات القصيرة الأجل عبر شركة إير بي إن بي، كما شكلت هذه الخطوة المزعزعة مشكلة إسكان للعديد من بلديات المدن بسبب تقلص المعروض من المساكن. وبالنتيجة تدخلت بلديات مدن مثل نيويورك وفرضت قيوداً متزايدة على عقارات شركة إير بي إن بي للإيجار القصير الأجل.
في المقابل، يتجنب الابتكار غير المزعزع إلى حد كبير إثارة ردود فعل سلبية من أصحاب المصلحة الخارجيين. وبما أنه يحل مشاكل جديدة أو يخلق فرصاً جديدة خارج حدود القطاع القائمة فهو لن يؤدي إلى أضرار جسيمة على نطاق واسع. بالنسبة إلى برنامج "افتح يا سمسم" أو عقار فياغرا أو التمويل المتناهي الصغر أو التدريب لتحسين الحياة الشخصية، لم تدفع أي من هذه الخطوات غير المزعزعة أصحاب المصلحة الخارجيين إلى شن هجمات قانونية مكثفة أو حشد التأييد المضاد للحد من الابتكار أو تقييده أو التصدي له خوفاً من فقدان الوظائف في مجتمعهم.
لم نسلط الضوء على مزايا الابتكار غير المزعزع كي ندّعي بأنه أفضل من الابتكار المزعزع؛ فهما في الحقيقة يكمل أحدهما الآخر، وقد تجد الشركات أنه من المجدي والمفيد أن تسعى إلى الابتكار المزعزع أو غير المزعزع أو مزيج من الاثنين معاً اعتماداً على ظروف السوق الخاصة.