ربما لم تسمع قط باسم رائد الأعمال الذي أسس وطوّر أكبر شركة ناشئة في العالم لتصل عائداتها إلى 10 مليار دولار ومن ثم تم طرده لاحقاً، وقام الرجل الذي حل مكانه باختراع فكرة الشركة الحديثة (modern corporation). وإذا كنت تريد أن تفهم مستقبل شركة تيسلا، ودور إيلون ماسك في ذلك – وهو شيء يحرص كثيرون على القيام به، نظراً لموجة العناوين السلبية حول الشركة مؤخراً – يتوجب عليك العودة قليلاً إلى القرن الماضي وقراءة القليل حول تاريخ صناعة السيارات.
ألفريد سلون والشركة الحديثة
بحلول منتصف القرن العشرين، أصبح ألفريد سلون أشهر رجل أعمال في العالم. وعُرف سلون بأنه بمخترع "الشركة الحديثة". كان رئيساً لشركة جنرال موتورز في الفترة من العام 1923 إلى 1956 عندما نمت صناعة السيارات في الولايات المتحدة لتصبح إحدى القوى المحركة للاقتصاد الأميركي.
واليوم، وإذا نظرت إلى الولايات المتحدة، ستجد اسم سلون في كل مكان تقريباً. فهناك مؤسسة ألفريد سلون، ومدرسة سلون للإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وبرنامج سلون في ستانفورد، ومركز سلون/كيترينج التذكاري للسرطان في نيويورك. ولا يزال كتاب سلون "سنواتي مع جنرال موتورز" (My Years with General Motors)، من أفضل الكتب من مجال إدارة الأعمال.
وكتب بيتر دراكر أنّ سلون كان "أول من عمل على كيفية تنظيم شركة كبيرة بشكل منهجي. وعندما أصبح سلون رئيساً لشركة جنرال موتورز في العام 1923، وضع التخطيط والاستراتيجية والقياسات، والأهم من ذلك، مبادئ اللامركزية".
عندما وصل سلون إلى شركة جنرال موتورز في العام 1920، أدرك أنّ هياكل الإدارة المركزية التقليدية التي تنظم الشركة بحسب الوظيفة (أي أقسام المبيعات والتصنيع والتوزيع والتسويق) غير مناسبة لإدارة خطوط منتجات شركة جنرال موتورز المتنوعة. وفي ذلك العام، كانت الإدارة تحاول تنسيق جميع التفاصيل التشغيلية في جميع تلك الأقسام، ولكن كانت الشركة على وشك الإفلاس تقريباً عندما تسبب سوء التخطيط هذا في زيادة المخزون وتراكم السيارات غير المباعة لدى التجار نفاذ الأرصدة النقدية من الشركة.
قام سلون، مستفيداً من التجارب التنظيمية الرائدة في شركة دوبونت (DuPont) التي يديرها رئيس مجلس إدارته، بتنظيم جنرال موتورز بحسب القسم بدلاً من التقسيم بحسب الوظيفة، إذ قام بنقل المسؤولية من الشركة الأم إلى العلامات التجارية للشركة (شفروليه، بونتياك، أولدزموبيل، بويك، وكاديلاك). وكان كل قسم من تلك الأقسام يركز على عملياته اليومية الخاصة والمدير العام لكل قسم مسؤول عن أرباح وخسارة قسمه. أبقى سلون موظفي الشركة الأم قليلي العدد وركز على صنع السياسات وتمويل الشركة والتخطيط، وقام في ذات الوقت بجعل كل قسم فرعي لديه يقوم بالتخطيط الاستراتيجي المنهجي. واليوم، نحن نأخذ تلك التقسيمات كأمر مسلّم فيه وكشكل من أشكال تنظيم الشركات، ولكن في العام 1920، وبخلاف شركة دوبونت، كانت كل الشركات الكبرى تقريباً مقسّمة بحسب الوظيفة.
وضع سلون نظام المحاسبة الإدارية لشركة جنرال موتورز، والذي قام باستعارته أيضاً من شركة دوبونت. وسمح هذا النظام للمرة الأولى للشركة بما يلي:
(1) إنتاج توقعات تشغيل سنوية تقارن توقعات كل قسم (الإيرادات والتكاليف ومتطلبات رأس المال والعائد على الاستثمار) مع الأهداف المالية للشركة الأم.
(2) تزويد إدارة الشركة بتقارير مبيعات الأقسام والميزانيات في الوقت الفعلي تقريباً ومع معرفة متى تنحرف عن الخطة.
(3) تخصيص الموارد والتعويض بين الأقسام على أساس مجموعة قياسية لمعايير الأداء على مستوى الشركة.
شركة التسويق الحديثة
عندما تولى سلون منصب رئيس جنرال موتورز في العام 1923، كانت شركة فورد اللاعب المهيمن في سوق السيارات في الولايات المتحدة، إذ كان طراز فورد تي يكلف 260 دولار فقط (3,700 دولار في يومنا هذا)، وهذا ما جعل شركة فورد تستولي على 60% من سوق السيارات في الولايات المتحدة، في حين كانت حصة جنرال موتورز 20%. أدرك سلون أنه لا يمكن لجنرال موتورز المنافسة في مجال السعر، بالتالي أنشأت جنرال موتورز علامات تجارية متعددة من السيارات، لكل منها هويتها الخاصة التي تستهدف شريحة اقتصادية محددة من العملاء الأميركيين. وحددت الشركة الأسعار لكل علامة تجارية منها من الأقل إلى الأعلى (شفروليه، بونتياك، أولدزموبيل، بويك، وكاديلاك). وداخل كل علامة تجارية، وكان هناك العديد من أنواع السيارات بأسعار مختلفة.
وكانت الفكرة متمثلة في إبقاء العملاء أوفياء لجنرال موتورز مع قيامهم مع مرور الوقت بالترقية من علامة تجارية إلى أخرى أفضل عندما تزداد ثرواتهم. وأخيراً، أنشأت جنرال موتورز مفهوم الطلب الدائم ضمن العلامات التجارية من خلال الاستمرار في التخلي عن نماذجها الأقدم عبر طرح نماذج جديدة كل عام (فكر في آيفون iPhone ونسخه الجديدة السنوية).
وبحلول العام 1931، مع توليفة من الإدارة المالية المتميزة واستراتيجية العلامة التجارية واستراتيجية المنتجات، كانت جنرال موتورز تمتلك 43% من حصة السوق في مقابل 20% لفورد. ولم تتمكن فورد من استعادة حصتها مطلقاً.
حوّل سلون إدارة الشركات إلى مهنة حقيقية، ومثالها الممتاز كان التنفيذ المستمر بلا هوادة لنموذج الأعمال الخاص بجنرال موتورز.
ما علاقة جنرال موتورز بشركة تيسلا وإيلون ماسك؟
بعد أن تعلمنا القليل من تاريخ شركات السيارات، ما علاقة ذلك بشركة تيسلا؟
إذا كنت تلاحق أخبار شركة تيسلا، فقد تكون مهتماً بمعرفة أنّ سلون لم يكن مؤسس شركة جنرال موتورز. كان سلون رئيساً لشركة صغيرة تصنع حوامل كرات، استحوذت عليها جنرال موتورز في العام 1918. وعندما أصبح سلون رئيساً لشركة جنرال موتورز في العام 1923، كانت جنرال موتورز شركة تبلغ قيمتها السوقية 700 مليون دولار (حوالي 10.2 مليار دولار بقيمة الدولار اليوم).
ومع ذلك، فأنت لا تسمع أبداً بمن أوصل جنرال موتورز لذاك الحجم. ومن كان صاحب المشروع الذي أسس ما أصبحت عليه جنرال موتورز خلال 16 سنة، وبالتحديد في العام 1904؟ أين المؤسسات الخيرية ومدارس الأعمال والمستشفيات التي سميت على اسم مؤسس جنرال موتورز؟ ماذا حدث له؟
كان مؤسس ما غدت عليه لاحقاً جنرال موتورز هو وليام (بيلي) ديورانت. في مطلع القرن العشرين، كان ديورانت واحداً من أكبر صانعي العربات التي تجرها الخيول، حيث كان يصنع 150 ألف عربة سنوياً. ولكن في العام 1904، وبعد أول مرة شاهد فيها سيارة في مدينة فلينت بولاية ميشيغان، كان من أوائل من رأوا أنّ المستقبل سيكون في شكل جديد من وسائل النقل وهو تلك العاملة بمحركات الاحتراق الداخلي.
سحب ديورانت أمواله من شركة النقل الخاصة به واشترى شركة ناشئة للسيارات تسمى بويك (Buick). كان ديورانت صاحب مثابرة ورؤية رائعين، وبحلول العام 1909، حوّل طراز بويك إلى السيارة الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة. ومن خلال بحثه عن نموذج أعمال في صناعة جديدة، ومع رؤيته الواضحة بأنّ على شركة السيارات تقديم علامات تجارية متعددة، قام ديورانت في ذلك العام بشراء ثلاث شركات سيارات صغيرة أخرى – كاديلاك وأولدزموبيل وبونتياك - ودمجها مع بويك، ليطلق ما بات يُعرف باسم جنرال موتورز. كما أنه آمن بأنّ نجاح الشركة بحاجة إلى التكامل الرأسي واشترى 29 مورداً ومصنّعاً لقطع غيار السيارات.
ولكن في العام 1910، حلّت المتاعب. في حين كان ديورانت رائد أعمال عظيم، كان تكامل الشركات مع الموردين أمراً صعباً، وكان الركود قد حل للتو، وتخطت ديون شركة جنرال موتورز 20 مليون دولار بسبب جميع عمليات الاستحواذ التي قامت بها، وكانت على وشك الإفلاس. بالتالي، طرد المصرفيون ومجلس الإدارة ديورانت من الشركة التي أسسها.
بالنسبة لمعظم الناس، قد تنتهي القصة هناك، ولكن ليس لديورانت. في العام التالي، أسس ديورانت شركة أخرى لصناعة السيارات مع لويس شيفروليه. وفي فترة 5 سنوات، بنى ديورانت شركة شيفروليه لتصبح شركة منافسة لجنرال موتورز. وفي واحدة من أعظم قصص العودة من الشركات التي طُرد المرء منها، استخدم ديورانت في العام 1916، شركة شيفروليه لشراء السيطرة على جنرال موتورز بدعمٍ من بيير دوبونت. واستحوذ مرة أخرى على شركة جنرال موتورز، ودمج شيفروليه فيها، واشترى شركتي فيشر بودي (Fisher Body) وفريدير (Frigidaire)، وأنشأ جي إم سي (GMAC)، الذراع التمويلي لشركة جنرال موتورز، ليطرد بذلك المصرفيين الذين طردوه قبل ستة أعوام.
عاش ديورانت أربع سنوات عظيمة أخرى على رأس جنرال موتورز. وقتها، لم يكن يدير جنرال موتورز فحسب، بل كان أحد كبار المضاربين في وول ستريت (حتى على أسهم جنرال موتورز) وكان مشهوراً في المشهد الاجتماعي في نيويورك. لكن كانت هناك مشكلة تلوح في الأفق. كان ديورانت في أفضل حالاته عندما كان لديه مال يساعده في توسعه العشوائي. (اشترى شركتي سيارات – شيريدان Sheridan وسكريبس بوث Scripps-Booth– اللتان كانتا تنافسان منتجاته). ولكن بحلول العام 1920، حلت فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتراجعت مبيعات السيارات، لكن ظل ديورانت يبني من أجل المستقبل على افتراض أنّ التدفق النقدي والعملاء سيستمران.
في غضون ذلك، كان المخزون يتراكم، وكان السهم ينهار، وكانت السيولة النقدية تنفد من الشركة. وفي ربيع العام 1920، اضطرت الشركة للذهاب إلى المصارف والحصول على قرض بقيمة 80 مليون دولار (حوالي مليار دولار بمقاييس العام 2018) لتمويل العمليات. في الوقت الذي اعترف فيه كل من حوله بأنه صاحب رؤية، كان عرض "الرجل الواحد" الخاص بديورانت يضر بالشركة، حيث لم يتمكن من تحديد الأولويات، ولم يتمكن من العثور على وقت للقاء مرؤوسيه المباشرين، وكان يطرد كل من يشتكي من الفوضى، ولم تكن لدى الشركة أي ضوابط مالية غير قدرة ديورانت على جمع المزيد من الأموال. وعندما انهار السهم، كانت حصة ديورانت في الملكية معرضة لخطر الاستيلاء عليها من قبل المصرفيين الذين يدين لهم، والذين كانوا وقتها يملكون جزءاً كبيراً من جنرال موتورز. وطفح الكيل بمجلس الإدارة وقاموا بشراء أسهم ديورانت وأدركوا أنّ الوقت قد حان لشخص آخر للإدارة.
ومرة أخرى، قام مجلس إدارته (هذه المرة بقيادة عائلة دوبونت) بطرده من جنرال موتورز (عندما كانت مبيعات جنرال موتورز تبلغ 10 مليارات دولار بمقاييس اليوم).
أصبح ألفريد سلون رئيساً لجنرال موتورز وأدارها على مدى العقود الثلاثة التالية.
حاول وليام ديورانت بناء شركته الثالثة للسيارات، ديورانت موتورز (Durant Motors)، لكنه كان لا يزال يؤمن بتعافي الأسهم، وضربت فترة الكساد الاقتصادي في العام 1929 الشركة بقسوة وتسببت في إغلاقها عام 1931. توفي ديورانت وهو يدير صالة بولينغ في فلينت بولاية ميشيغان في العام 1947.
منذ اليوم الذي تم فيه طرد ديورانت في العام 1920، على مدى نصف القرن التالي، سيقود التجارة الأميركية جيش من "المدراء على نمط سلون" الذين أداروا ونفذوا نماذج الأعمال القائمة.
ولكن روح بيلي ديورانت ستعود ثانية في مكان مختلف وهو "وادي السليكون"، حيث بعد 100 عام، رأى إيلون ماسك أنّ مستقبل النقل لم يعد موجوداً في محركات الاحتراق الداخلي وقرر بناء شركة السيارات الناجحة التالية.
الماضي يكرر نفسه لشركة تيسلا
في جميع شركاته، استخدم إيلون ماسك رؤيته المقنعة حول مستقبل انتقالي لكي يلامس خيال العملاء، واستخدم ذات الأمر في وول ستريت ليجمع مليارات الدولارات لتحقيق رؤيته.
ومع ذلك، وكما هو الحال في قصة ديورانت، فإنّ أحد التحديات أمام مؤسسي الرؤية هو أنهم غالباً ما يواجهون صعوبة في التركيز على الحاضر عندما تحتاج الشركة إلى الانتقال لمرحلة التنفيذ الدقيق. ومثلما كان لدى ديورانت اهتمامات متعددة، لم يكن ماسك فقط الرئيس التنفيذي لشركة تيسلا ومهندس الإنتاج، بل كان يشرف أيضاً على تطوير المنتجات والهندسة والتصميم. وفي شركة سبيس إكس، (شركته الخاصة بالصواريخ)، شغل منصب الرئيس التنفيذي والمصمم الرئيسي الذي يشرف على تطوير وتصنيع الصواريخ والمركبات الفضائية المتقدمة. كما أنه مؤسس شركة بورينغ (Boring) (شركة الأنفاق) وأحد مؤسسي ورئيس شركة أوبن أيه آي (OpenAI).
كل هذه الشركات تعمل على ابتكارات رائدة، ولكن لدى ماسك نفسه 24 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع. وقد لاحظ آخرون أنّ القيام بأمور متعددة مليئة بالشغف والانتقال من مجال إلى آخر يجعلك من المتميزين، ولكن لا يؤهلك لتكون رئيساً تنفيذياً.
وإحدى السمات المشتركة لمؤسس الرؤية أنه بمجرد أن تثبت خطأ الرافضين مرة، فإنك تقنع نفسك بأنّ كل تصرفاتك اللاحقة لها نفس البراعة.
على سبيل المثال، بعد نجاح الطراز "إس سيدان" (S sedan)، كانت سيارة تيسلا التالية سيارة أخرى بخمسة أبواب، وهي "النموذج إكس". ووفقاً لمعظم الحسابات، إصرار ماسك على إضافة أمور لا لزوم لها (مثل أبواب متحركة بشكل غير تقليدي وباقي التجهيزات) حوّل ما كان يجب أن يكون التنفيذ البسيط للمنتج التالي البسيط إلى كابوس تصنيعي. وانتهى المطاف بالمدراء التنفيذيين الذين خالفوا وجهة نظر ماسك (وكان لهم يد في جعل نموذج أس S ناجحاً) بمغادرة الشركة. واعترفت الشركة في ما بعد بأنّ الدرس المستفاد كان عن التعجرف.
تم تصميم نموذج "تيسلا 3" ليكون سهل التصنيع، ولكن بدلاً من استخدام خط التجميع الحالي، قال ماسك، "المشكلة الحقيقية، والصعوبة الحقيقية، ومجال الإمكانات الأكبر، يتمثل في بناء الآلة التي تصنع الآلة. بمعنى آخر، إنه بناء المصنع نفسه. أنا أفكر حقا في المصنع على أنه مُنَتج". ويمكننا رؤية كيف أنّ نموذج "تيسلا 3" كان مثالاً رائعاً على الإفراط في أتمتة خط التجميع.
لدى تيسلا الآن مجموعة من المنتجات التي تم الإعلان عنها مؤخراً، وسيارة من طراز "رودستر" (Roadster) جديدة (سيارة رياضية)، وشبه شاحنة، وسيارة رياضية يطلق عليها "الطراز واي". وسيتطلب كل منها تنفيذ واسع النطاق، لا مجرد رؤية.
وعلى عكس ديورانت، نجح ماسك في إطالة فترة ولايته، وجعل مساهميه هذا العام يمنحونه خطة تعويضات جديدة بقيمة 2.6 مليار دولار إذا تمكن من زيادة سقف الشركة السوقي من 50 مليار دولار إلى 650 مليار دولار. وقال مجلس الإدارة إنه "يعتقد أنّ الجائزة ستستمر في تحفيز وتحفيز إيلون لقيادة تيسلا على المدى الطويل.
مع ذلك، بينما تكافح تيسلا في الانتقال من شركة رائدة ذات رؤية إلى منتج موثوق به للسيارات بكميات كبيرة، يتساءل المرء إذا كان من الأفضل صرف 2.6 مليار دولار لإيجاد ألفريد سلون لشركة تيسلا.