لقد تغيّرت فكرتنا عن صناع المحتوى الرقمي أو المؤثرين، التي غرسها في عقولنا مَن حققوا الشهرة بمحتوى ترفيهي غير جاد على منصات يوتيوب وإنستغرام وتيك توك. فاليوم، يقدم صانع المحتوى الرقمي للعديد من الشركات الكبرى تعريفاً جديداً للابتكار ونهجاً استراتيجياً مميزاً، ولا سيما في قطاعي السلع الاستهلاكية والخدمات، ولأنه يغير طريقة بحث المستهلكين عن المنتجات واستخدامها، فهو: 1) يوجه الطلب إلى منتجات وخدمات متخصصة أكثر؛ 2) يسرع دورة حياة المنتج الذي يروجه؛ 3) يعزز قيمة منتجات بعينها في نظر العملاء والمستهلكين.
ولا شك في أن أقسام التسويق في الشركات رصدت أساليب صناع المحتوى الرقمي، فقد أدركت منذ زمن طويل قدرة صانع المحتوى الرقمي على التأثير في المستهلكين. ومع ذلك، تغفل الإدارات العليا في أغلب الشركات عن قدرة صانع المحتوى الرقمي على إحداث تغيير كبير. يشير تحليلنا إلى ضرورة أن تعيد الشركات النظر في استراتيجيات منتجاتها وأعمالها، حفاظاً على قدرتها التنافسية في بيئة الأعمال الجديدة.
حاورنا خلال إعداد البحث المئات من صناع المحتوى الرقمي ومطوري المنتجات ورؤساء وحدات الأعمال وشركات الوساطة الإلكترونية، وحللنا مقاطع محتوى رقمي يصل مجموع مُددها إلى آلاف الساعات على منصات يوتيوب وتويتش وإنستغرام وتيك توك، وتمكّنا من تقدير حجم اقتصاد المحتوى. كذلك، نوثّق في بحثنا التغيير الجذري الذي يحدثه اقتصاد المحتوى الرقمي في شركات راسخة تعتمد في أعمالها على التعامل المباشر مع العملاء، ونحدد 4 استراتيجيات لكيفية تنافس الشركات بناءً عليه.
من هو صانع المحتوى الرقمي، وما هو المقصود باقتصاد المحتوى الرقمي؟
أحد أسباب عدم الاستيعاب الكامل لقوة اقتصاد المحتوى الرقمي هو أن تسليط الضوء على حجم هذا الاقتصاد وأثره مهمة شاقة. باستخدام بيانات من شركة تحليلات وسائل التواصل الاجتماعي، هايب أوديتور (HypeAuditor)، نقدّر عدد صناع المحتوى الرقمي ممن لهم أهمية اقتصادية، بنحو 40 مليون شخص في جميع أنحاء العالم. ويمكن تعريف صانع المحتوى الرقمي بأنه أي شخص ينشر محتواه الرقمي بغزارة ولديه أكثر من 1,000 متابع. إذا تمكن كل صانع محتوى رقمي من التأثير على الطريقة التي ينفق بها 1% فقط من متابعيه مبلغ 10 دولارات فحسب سنوياً، فإن القيمة الإجمالية لأثره على قرارات الشراء تصل إلى 130 مليار دولار كل عام.
أما ما يلفت النظر بحق فهو بروز المبدعين الأصغر حجماً. فعندما نفكر في صناع المحتوى الرقمي، نستحضر غالباً نماذج المؤثرين من الشخصيات العامة والمشاهير. لكن الحقيقة هي أن الغالبية العظمى من صناع المحتوى الرقمي ينتمون إلى فئة "النانو" (المتناهي الصغر) أو "المايكرو" (الصغير). فمن لديه أقل من 10 آلاف متابع هو من فئة النانو، أما صانع المحتوى الرقمي من فئة المايكرو فلا يتجاوز عدد متابعيه 50 ألف شخص. تمثل هاتان الفئتان نحو 76% من صناع المحتوى الرقمي على تيك توك وما يصل إلى 96% على إنستغرام، وهذا يعكس التوزيع غير المتساوي وفقاً لديناميكية قانون القوة في المنصات الرقمية. ونؤكد أن صناع المحتوى الرقمي الأصغر حجماً هم الذين يغذّون القوى المزعزعة في اقتصاد المحتوى الرقمي.
سبب بروز صناع المحتوى الرقمي الصغار هو أنهم يصنعون محتوى متخصصاً ويوقعون أثراً كبيراً. فهناك، على سبيل المثال، كريزي غلاس ليدي، التي تقدم دروساً في صنع الحلي الزجاجية والراتنجية. لديها 15,000 مشترك فقط على يوتيوب، لكن مشاهديها يطبّقون طريقتها في صب الراتنج بكل تفانٍ، ويشترون منتجات قص الزجاج أو القوالب وغيرها مما توصيهم به. وعادةً ما يسجل نحو 19% من متابعيها إعجابهم بمحتواها ويتفاعلون معه بالتعليقات، أي ما يقرب من 10 أضعاف متوسط المعدل البالغ 2%. لقد تبين بوجه عام أن صناع المحتوى الرقمي الصغار يحظون بمعدلات مشاركة أعلى بسبع مرات من مشاهير المؤثرين.
لا يمكن إنكار أثر صناع المحتوى الرقمي البارزين على سلوك المستهلكين بانتشارهم الواسع، لكننا نرى أن القوة الجماعية للعديد من صغار صناع المحتوى الرقمي، الذين يتمتعون بنفوذ كبير في المجالات المتخصصة، تحفّز تغييرات نوعية لافتة في أنماط الاستهلاك. لهذه الظاهرة تبعات مهمة على استراتيجيات الابتكار لدى الشركات الراسخة.
كيف يغيّر صناع المحتوى الرقمي سلوك المستهلكين؟
من واقع المقابلات التي أجريناها مع صناع المحتوى الرقمي، نعتقد أن القوة الجماعية لصناع المحتوى الرقمي الصغار تشكل تهديداً مزعزعاً فريداً، وذلك لثلاثة أسباب: صانع المحتوى الرقمي الصغير يولّد طلباً على منتجات عالية التخصص (مثل نموذج كريزي غلاس ليدي)، ويُكسب المستهلكين مهارات جديدة لاستخدام منتجات أشد تعقيداً، ويسرع دورة حياة المنتج.
توليد طلب على منتجات أعلى تخصصاً
ما يميز صانع المحتوى الرقمي بحق هو أنه يجعل بحث المستهلكين عن المعلومات أسهل، إذ يخلصهم من كمية المعلومات الهائلة التي يواجهونها عند البحث على الإنترنت. فهو يضطلع بدور الموجه الخبير والمعلم، الذي ينتشل المستهلك من متاهة الخيارات ويزكّي له منتجات مختارة، وبذلك ييسر له البحث. لهذا السبب، يساعد صانع المحتوى الرقمي المستهلك في العثور على منتجات واهتمامات متخصصة حقاً. ويمثل مجتمع مستهلكي لوحات المفاتيح (الكيبورد) الميكانيكية مثالاً على ذلك.
تعليم المستهلكين مهارات جديدة
يدفع صانع المحتوى الرقمي المستهلكين غير المتخصصين إلى اكتشاف قيمة أكبر تكمن في المنتجات التي يقدمها لهم، حيث يعلمهم كيفية استخدام المنتجات الجديدة أو استعمال المنتجات القديمة بطرق جديدة. فهو يزيل الغموض الذي يكتنف تعقيدات تلك المنتجات، ويعزز جاذبيتها بالعروض التوضيحية والدروس العملية. على سبيل المثال، علّمت صانعات محتوى الجمال متابعاتهن طريقة استخدام مستحضر إخفاء عيوب البشرة (الكونسيلر) بأساليب جديدة ومزج درجاته اللونية المختلفة بحيث تبرز جمال الوجنتين؛ ما يمثل ابتكاراً في أساليب "الكونتور" التي كانت من قبل حكراً على المحترفين. مثال آخر على ذلك هو شيوع استخدام أجهزة الطبخ "سو فيد" (Sous Vide)، التي لم يكن يستخدمها سوى الطهاة المحترفين، ولكنها أصبحت اليوم مألوفة في مطابخ المنازل. فبعد أن كان استخدامها يمثل مشقة في المطبخ المنزلي العادي، تحول اليوم إلى استخدام هين ومرغوب.
تسريع دورة حياة المنتج
يؤثر صانع المحتوى الرقمي في السوق بزيادة الطلب على منتجات متخصصة، وتسريع دورة حياة المنتج الذي يروجه بدرجة ملحوظة. وبغية الحفاظ على اهتمام متابعيه، يقدم صانع المحتوى الرقمي منتجات جديدة وفريدة من نوعها على الدوام. فيعرض صانع المحتوى الرقمي في سعيه المستمر هذا أحدث المنتجات والصيحات، لأن جمهوره يطلب محتوى جديداً وينسحب بسرعة ما إن يملّ العروض الرتيبة. من أمثلة ذلك، عبّرت متابعة لصانعة محتوى جمال عن تراجع اهتمامها بعد توقف المحتوى الرقمي عن تزويدها بتوصيات جديدة، مكتفياً بالتركيز على المقارنة بين منتجات العناية بالشعر، مراراً وتكراراً. تعزز هذه البيئة الديناميكية وتيرة متسارعة تكتسب بها المنتجات شعبيتها أو تفقدها. إن تزكية صانع المحتوى الرقمي لمنتج بعينه تؤدي إلى إقبال هائل عليه بين عشية وضحاها، لكن اهتمام المستهلكين به يتراجع بالسرعة نفسها. يمثل هذا الارتفاع والانخفاض السريع في شعبية المنتجات ورواجها تحدياً صعباً للشركات التقليدية، التي لن تتكيف بسهولة مع الطبيعة العابرة للصيحات الرقمية وما يصاحب ذلك من التقلب السريع في الطلب على المنتجات.
استراتيجيات مواجهة اقتصاد صناعة المحتوى الرقمي
تقف الشركات القائمة عند مفترق طرق، شاهدةً على تغيير اقتصاد صناعة المحتوى الرقمي مشهد المنتجات. ومن المستبعد أن تجد في استراتيجياتها التنافسية السابقة عوناً لها للحفاظ على حصتها في السوق. ففي السابق، اتبعت الشركات استراتيجيات استحواذ واكبت بها اتجاهات السوق السريعة التغير في القطاعات التي تتعامل مع العملاء مباشرة. ومن أمثلة ذلك، شركة بروكتر آند غامبل، التي أنشأت وحدة عمل متخصصة في مجال التجميل للاستحواذ على العلامات التجارية المستقلة الرائجة. لكننا نشك في أن تكون لاستراتيجيات الاستحواذ هذه الفعالية التي كانت عليها في السابق حتى تحقق النمو وتحفظ للشركة حصتها في السوق. ونعتقد أنه سيكون من الصعب اليوم تقدير قيمة الأصول لأي خط إنتاج معين، نظراً لما أصبحت تتسم به دورة حياة المنتج من تسارع وانتشار واسع النطاق. هذا لأن حماس صناع المحتوى الرقمي يؤدي إلى تعاقب سريع للمنتجات الشائعة التي سرعان ما تفقد زخمها وجاذبيتها لمصلحة منتجات أخرى جديدة، فيكتسب السوق إيقاعاً متسارعاً لن ينتظر أحداً.
أضف إلى ذلك التحدي المتمثل في ضمان الأصالة والمصداقية. تقوم الأسواق المتخصصة على ركيزتي المجتمع والمصالح المشتركة، وغالباً ما تنظر بعين الشك إلى ما تتلقاه من عروض الشركات الكبيرة السائدة. فعندما تحاول تلك الشركات دخول الأسواق المتخصصة، تواجه مقاومة جماعية صلبة من المستهلكين الذين يثمّنون المصداقية وينظرون إلى جهودها على أنها محاولة انتهازية لا أصالة فيها. ومن الأمثلة الجلية لهذه المقاومة سوق القهوة المختصة، حيث واجهت معامل القهوة التجارية التقليدية صعوبة في كسب قبول المستهلكين الذين يفضلون القهوة المميزة العالية الجودة.
لذلك، نقترح استراتيجيات ذات قدرة أكبر على الاستمرار، تسمح للشركات بالاستفادة من صناع المحتوى الرقمي لزيادة حصتها السوقية على المدى البعيد. لكن بعض الاستراتيجيات تكون أكثر ملاءمة من غيرها لأسواق وشركات معينة.
- تطوير نموذج تشغيل قائم على تقليل الأصول: حدد في سلسلة القيمة مجالات للشراكة أو التعاون مع عدد أقل من الموردين الذين يمكنهم العمل بسرعة (هذه استراتيجية فعالة عند دخول سوق جديدة، أو تقديم مفهوم منتج جديد).
- تنمية شراكات تعاونية مع صناع المحتوى الرقمي: يمكن للشركات تعزيز التعاون مع صناع محتوى، من خلال تصميم عروض مبتكرة تقبل عليها الأسواق المتخصصة وتهدئ مخاوف عدم المصداقية.
- استكشاف وظائف جديدة في سلسلة القيمة: حين تتعامل الشركة مع صناع المحتوى الرقمي بصفتها مورّداً أو موزعاً أو شريكاً، ستستفيد من اقتصاد المحتوى الرقمي وتستحوذ على حصة في الأسواق المتخصصة المتنامية (قد تكون هذه خطوة مهمة للشركات الكبيرة القائمة التي تفقد حصتها في السوق لمصلحة علامات تجارية مستقلة، أو التي تشهد تفكك أسواقها).
- استكشف سبل الاستفادة من الذكاء الاصطناعي والتحليل التنبؤي: تستخدم الشركات الذكاء الاصطناعي في تطوير أساليب جديدة تستبق بها اتجاهات العملاء. وبالاستفادة من هذه الأدوات، تواكب الشركات التغيرات المتسارعة في طلب المستهلكين.
يجب على الشركات الراسخة التي ترغب في الاستفادة من اقتصاد المحتوى الرقمي السريع التطور، أن تعيد تصميم استراتيجياتها وهياكلها التنظيمية حتى تحافظ على قدرتها التنافسية. وبمقدور الشركات التغلب بفعالية على التحديات الناجمة عن الزعزعة التي أحدثها صناع المحتوى الرقمي في طلب المستهلكين، إن تبنت نهجاً استباقياً مبتكراً، وعززت الشراكات التعاونية مع صناع المحتوى الرقمي، وتحولت إلى منصات داعمة لمنظومتهم. تفرض هذه التحولات المستمرة تحديات وتتيح فرصاً للاستفادة من القيمة الكبيرة التي ولدها عصر التجارة الرقمية الجديد.