14 قاعدة ذهبية تعلّمك فن القيادة من ستيف جوبز

24 دقيقة
نهج ستيف جوبز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: كاتب سيرة ستيف جوبز، ينقل في هذا المقال أهم القواعد الذهبية التي اعتمدها العبقري الراحل في القيادة والإدارة والابتكار. نقل الكاتب والتر آيزكسون هذه القواعد من كتابه الذي حمل عنوان (ستيف جوبز) ومقابلاته الشخصية مع الراحل خلال التحضير للكتاب. إذ أصبح هذا الكتاب أكثر الكتب مبيعاً في العام الذي تلى وفاة الرئيس التنفيذي لشركة آبل في أكتوبر/تشرين الأول 2011. يحرص في هذا المقال على تصحيح ما يعدّه اهتماماً مبالغاً فيه بالجوانب الصارمة في شخصية جوبز من قبل العديد من المعلقين. كتب إيزاكسون أن شخصية جوبز كانت جزءاً من طريقته في ممارسة الأعمال التجارية، لكن الدروس الحقيقية المستفادة من تجربته نابعة مما أنجزه بالفعل. فقد بنى الشركة الأكثر قيمة في العالم، وساعد طوال مساره على تحويل عدد من القطاعات: الحوسبة الشخصية، وأفلام الرسوم المتحركة والموسيقى والهواتف وحوسبة الأجهزة اللّوحية ومتاجر البيع بالتجزئة وقطاع النشر الرقمي.

ويصف إيزاكسون في هذا المقال المبادئ الـ 14 الكامنة وراء نهج ستيف جوبز: التركيز والتبسيط وتحمّل المسؤولية الكاملة والقفزة النوعية لتدارك التأخر وأولوية المنتجات قبل الأرباح والتحرر من مجموعات التركيز وتطويع الواقع والإسناد والدفع نحو الكمال ومعرفة الصورة الكاملة والتفصيلية، وقبول أصحاب الأداء العالي فقط والتفاعل وجهاً لوجه والجمع بين العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية ثم مبدأ: “احرص على البقاء جائعاً وساذجاً”.

 

تمثل قصة ستيف جوبز أسطورة ريادة الأعمال بامتياز: حيث شارك في تأسيس شركة آبل بمرآب منزل والديه سنة 1976، ثم طُرد منها سنة 1985، قبل أن يعود لإنقاذها بعد أن شارفت على الإفلاس سنة 1997. وعند وفاته في أكتوبر 2011، كان جوبز قد بنى الشركة الأكثر قيمة في العالم. وطوال مساره المهني ساعد على تحويل 7 قطاعات: الحوسبة الشخصية، وأفلام الرسوم المتحركة والموسيقى والهواتف وحوسبة الأجهزة اللّوحية ومتاجر البيع بالتجزئة والنشر الرقمي. وهذا ما جعله ينتمي إلى مجموعة المبتكرين العظماء في أميركا، إلى جانب توماس إديسون وهنري فورد ووالت ديزني. ولم يكن أيّ من هؤلاء الرجال قدّيساً، لكن بعد فترة طويلة من نسيان شخصياتهم سيذكر التاريخ كيف طبّقوا الخيال على مجاليّ التكنولوجيا والأعمال التجارية:

“لأن الذين يستحوذ عليهم الجنون بما يكفي للاعتقاد أنهم يستطيعون تغيير العالم، هم فعلاً من يغيرونه”،

وفقاً لما جاء في إعلان شركة آبل “فكّر على نحو مختلف” سنة 1997.

في الأشهر التي تلت ظهور السيرة التي ألّفتُها عن جوبز، حاول عدد لا حصر له من المعلقين استخلاص الدروس منها عن مجال الإدارة. وكان لبعض هؤلاء الكتاب رؤية ثاقبة لكنني أعتقد أن العديد منهم (خاصة أولئك الذين ليست لهم أيّ خبرة في ريادة الأعمال) بالغ في الاهتمام بالجوانب القاسية في شخصيته. إذ يتمثل جوهر تجربة جوبز حسب اعتقادي في أن شخصيته كانت جزءاً من طريقة ممارسته للأعمال التجارية. وتصرف كما لو أن القواعد العادية لا تنطبق عليه، وكان الشغف والحيوية والانفعالية الشديدة التي أدمجها في الحياة اليومية هي نفسها التي غمر بها المنتجات التي صنعها. كما كانت فظاظته وقلة صبره جزءاً من مثاليته.

في إحدى المرات الأخيرة التي رأيته فيها، بعد أن انتهيت من كتابة الجزء الأكبر من سيرته، سألته مرة أخرى عن ميله إلى القسوة في التعامل مع الناس. فأجابني: “أنظر إلى نتائج ذلك. هؤلاء الأشخاص الذين أعمل معهم أذكياء كلهم، ويمكن لأيّ منهم الحصول على وظيفة مرموقة في مكان آخر إذا شعر حقاً بالقسوة. لكنهم لن يفعلوا ذلك”. ثم سكت بضع لحظات وقال بنبرة حنين: “ثم إننا حققنا إنجازات مذهلة”. حقق جوبز وآبل فعلاً سلسلة من النجاحات على مدار السنوات العشر الماضية، وهي إنجازات كانت أكبر من تلك التي حققتها أيّ شركة مبتكرة أخرى في العصر الحديث، فقدّما منتجات من قبيل: آي ماك (iMac) وآيبود (iPod) وآيبود نانو (iPod nano) وآي تيونز ستور (iTunes Store) وآبل ستور (Apple Stores) وماك بوك (MacBook) وآيفون (iPhone) وآيباد (iPad) وآب ستور (App Store )Store)، وأو إس إكس ليون (OS X Lion) زيادة على أفلام شركة بيكسار. وعندما واجه مرضه الأخير، كان جوبز محاطاً بمجموعة من زملائه الأوفياء، الذي استلهموا منه الكثير على مدى سنوات إلى جانب زوجته الحبيبة وشقيقته وأبنائه الأربعة.

ولهذا أعتقد أن الدروس المهمة في تجربة ستيف جوبز يجب أن تُؤخذ ممّا أنجزه فعلاً. سألته ذات مرة عن أهم إبداعاته، معتقداً أنه سيختار آيباد أو ماكنتوش (Macintosh). وبدلاً من ذلك أجاب أن أهم إبداعاته هو شركة آبل. وقال لي إن إنشاء شركة مستدامة كان أصعب وأكثر أهمية من صنع منتج رائع. فكيف حقق ذلك؟ ستدرس كليات إدارة الأعمال هذا السؤال بعد قرن من الآن. وإليكم ما أعتقد أنه مفاتيح هذا النجاح بناء على نهج ستيف جوبز.

التركيز

عندما عاد جوبز إلى شركة آبل في عام 1997، كانت تنتج مجموعة عشوائية من أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الطرفية، بما في ذلك عشرات النسخ المختلفة من جهاز ماكنتوش. وبعد أسابيع من جلسات مراجعة المنتج أدرك جوبز أن السيل قد بلغ الزّبى. فصاح قائلاً: “توقفوا! هذا جنون”. أخذ قلم التحديد السحري وهو يضغط بقدميه العاريتين على سبورة بيضاء ثم رسم شبكة مكونة من عمودين بأربع خانات. ثم قال: “هذا ما نحتاج إليه”. كتب في الخانتين العلويتين: “المستهلك” و”المنتِج”. وفي الخانتين السفليتين: “حاسوب مكتبي” و”محمول”. ثم أخبر أعضاء فريقه أن وظيفتهم تتمثل في التركيز على توفير منتَج رائع لكل مربع على حدة، وإلغاء المنتجات الأخرى كلها. ثم ساد صمت مطبق، لكن توجيه جوبز نحو التركيز على صنع 4 حواسيب فقط، أنقذ الشركة. وأوضح لي جوبز ذلك قائلاً: “إن تحديد ما لا ينبغي لنا فعله لا يقل أهمية عن تحديد ما ينبغي لنا فعله، وهذا ينطبق على الشركات، وينطبق أيضاً على المنتجات”.

وبعد تصحيح مسار عمل الشركة بدأ جوبز يأخذ “أفضل 100” موظف في شركة آبل إلى معتكف سنوي. ووقف ذات يوم أمام سبورة بيضاء (كان يحب السبورات البيضاء لأنها كانت تتيح له تحكماً كاملاً في الموقف وتعزّز التركيز)، ثم سأل: “ما هي الأمور الـ 10 التالية التي يتعين إنجازها؟”. بدأ الحاضرون يتنافسون في تسجيل مقترحاتهم على القائمة. دوّن جوبز المقترحات، ثم شطّب على تلك التي وصفها بالغبية. وبعد أخذ وردّ تمكن الحاضرون من صياغة قائمة مكونة من 10 مقترحات. فشطّب جوبز مرة أخرى على المقترحات السبع الأخيرة ثم قال: “نستطيع إنجاز 3 مقترحات فقط”.

كان التركيز متأصلاً في شخصية جوبز، كما صقله بتدرّبه على التأمل بفلسفة زن. فكان يحارب بلا هوادة ما يعدّه مشتتاً للانتباه. وكان زملاؤه وأفراد عائلته يشعرون أحياناً بالقلق وهم يحاولون إقناعه بالاهتمام بقضايا حياته الخاصة ذات الأهمية سواء تعلق الأمر بمشكلاته القانونية أو الطبية. لكنه كان يجيبهم بنظرة باردة ويرفض تشتيت تركيزه الشبيه بتركيز أشعة الليزر إلى أن يكون مستعداً.

قُبيل وفاته، زاره في منزله لاري بيج الذي كان على وشك استعادة منصب الرئيس التنفيذي لجوجل في 2011 (خلفاً لإيريك شميت)، وهي الشركة التي شارك في تأسيسها. وعلى الرغم من أن آبل وجوجل كانتا شركتين متنافستين، كان جوبز على استعداد لتقديم بعض النصائح إلى بيج. يحكي جوبز عن النصيحة التي قدمها له: “الأمر الرئيسي الذي شدّدت عليه هو التركيز”. وحينها قال مخاطباً بيج: “يجب أن تعرف الشكل الذي تريد أن تصل إليه شركة جوجل عندما تنمو. فهي شركة غير منظمة الآن. ويجب أن تعرف ما هي المنتجات الخمسة التي تريد التركيز عليها؟ ثم تخلص من باقي المنتجات الأخرى لأنها تؤخرك، وتجعل شركتك شبيهة بشركة مايكروسوفت. وتدفعك إلى صنع منتجات مناسبة لكنها ليست رائعة”. اتّبع بيج نصيحة جوبز وطلب في يناير/كانون الثاني 2012 من موظفيه التركيز على بضع أولويات إنتاجية مثل نظام التشغيل أندرويد (Android) وموقع التواصل الاجتماعي جوجل+ (Google+) وجعلهما يبدوان أكثر “جمالاً” على طريقة ستيف جوبز.

التبسيط

امتزجت قدرة جوبز على التركيز بملَكة تبسيط الأشياء من خلال الاهتمام بجوهرها وحذف المكوّنات غير الضرورية منها. وورد في الكتيّب التسويقي الأول لشركة آبل: “البساطة هي أقصى درجات التطوير”. ولفهم ما يعنيه ذلك قارنْ أيّ برمجيات من برمجيات آبل ببرمجيات أخرى كمايكروسوفت وورد (Microsoft Word)، وستلاحظ أنه يبدو دائماً أقل جمالاً وأكثر تشويشاً للمستخدم بشرائط تصفح غير منطقية وميزات مزعجة. وهذا تذكير بأمجاد آبل في سعيها نحو البساطة.

تعلّم جوبز تقدير البساطة عندما كان يعمل في وردية ليلية بشركة أتاري (Atari) خلال فترة انقطاعه عن دراسته الجامعية. كانت ألعاب أتاري تُباع دون دليل الاستخدام، فكان من الضروري أن تكون بسيطة بما يكفي حتّى يفهمها طالب مبتدئ. فعلى سبيل المثال كان الإرشاد الوحيد المتوفر في لعبة ستار تريك (Star Trek) مكوناً من عبارتين: “1. أدخلْ قطعة نقدية. 2. تجنّب الفضائيين.” كما صقل جوبز حبه لبساطة التصميم في المؤتمرات التي حضرها بمعهد آسبن (the Aspen Institute) أواخر السبعينيات داخل حرم جامعي مبني على طراز باوهاوس المعماري (the Bauhaus style)، الذي يتميّز بالخطوط البسيطة المستقيمة والتصميم الوظيفي الخالي من اللمسات الزائدة أو العناصر المشوشة.

وعندما زار جوبز مركز أبحاث بالو ألتو (Palo Alto Research Center) التابع لشركة زيروكس (Xerox) وشاهد الخطط الخاصة بصنع جهاز كمبيوتر يحتوي على واجهة مستخدم رسومية وماوس، أصرّ على جعل التصميم أكثر بديهية (مكّن فريقُه المستخدم من سحب المستندات والمجلدات ووضعها على سطح المكتب الظاهري) وبساطة. وعلى سبيل المثال كان ماوس زيروكس يحتوي على ثلاثة أزرار ويكلف 300 دولار، لكن جوبز لجأ إلى شركة محلية مختصة في التصميم الصناعي وطلب من أحد مؤسسيها ويُدعى دين هوفي، نموذجاً بسيطاً مكوناً من زر واحد ويكلّف 15 دولاراً فقط، فاستجاب هوفي لطلبه.

وكان جوبز يسعى إلى البساطة النابعة من مواجهة التعقيد بدلاً من الاكتفاء بتجاهله. فأدرك أن بلوغ هذا المستوى العميق من البساطة يمكن أن يُنتج آلة يشعر مستخدموها بإذعانها لهم على نحو ودّي بدلاً من إحساسهم أنها تتحدّى قدراتهم. يقول جوبز: “يتطلب تبسيط الأشياء الكثير من العمل الشاق من أجل فهم حقيقي للتحديات التي تكمن وراءها والتوصل إلى حلول مبتكرة”.

ووجد جوبز في المصمم الصناعي لشركة آبل، جوني آيف، توأم روحه في رحلة السعي نحو البساطة العميقة بدلاً من البساطة السطحية. وأدركا معاً أن البساطة ليست مجرد أسلوب مختزل أو ترتيب للفوضى. فعلى سبيل المثال كان التخلّص من البراغي أو الأزرار أو شاشات التصفّح الزائدة، يستوجب فهماً عميقاً للدور الذي يلعبه كل عنصر. يشرح آيف ذلك قائلاً: “البساطة الحقيقية هي التعمّق الحقيقي، على سبيل المثال يمكن أن تؤدي إزالة المسامير كلها من جهاز معين إلى منتج معقد ومركّب جداً، ويبقى الحل الأفضل إذاً هو التعمق أكثر في البساطة، لفهم كل ما يتعلق بها وكيفية تجسيدها في المنتجات”.

وخلال عملية تصميم الواجهة البينية لآيبود حاول جوبز في أثناء الاجتماعات كلّها إيجاد طرق للحدّ من تعقيد الجهاز. وأصرّ على تمكين المستخدم من الوصول إلى ما يريده بثلاث نقرات فقط. وكانت إحدى شاشات التصفح على سبيل المثال تخيّر المستخدم بين البحث بالاعتماد على اسم الأغنية أو الألبوم أو الفنان. فتساءل جوبز: “ما حاجتنا إلى هذه الشاشة؟” ثم أدرك المصممون ألّا حاجة لهم بها فعلاً. يقول قائد فريق إنتاج آيبود توني فاديل: “مرّت بنا أوقات أجهدنا فيها عقولنا بالتفكير في حل مشكلة واجهة المستخدم، ثم فاجأنا جوبز متسائلاً: “هل فكرتم في هذا؟ ثم صرخنا جميعاً: اللعنة. لقد أعاد تحديد المشكلة أو النهج المرتبط بها، فانتهت مشكلتنا البسيطة”. وفي لحظة من اللحظات الفارقة قدّم جوبز أبسط اقتراحاته على الإطلاق عندما قال لموظفيه: دعونا نتخلّص من زر التشغيل والإيقاف. فوجئ أعضاء الفريق بهذا الاقتراح في البداية، لكنهم أدركوا بعد ذلك أن هذا الزر لم يكن ضرورياً. وبدلاً من الاحتفاظ به عمل جوبز ببساطة على جعل الجهاز يتوقف عندما لا يُستخدم، ويعود لينبض بالحياة مجدداً عند إعادة استخدامه.

ثم حدث أمر مشابه عندما عُرضت على جوبز مجموعة متزاحمة من شاشات التصفح المقترحة لجهاز آي دي في دي (iDVD)، التي مكّنت المستخدمين من نسخ مقاطع الفيديو على الأقراص، فقفز نحو الأعلى ورسم مستطيلاً بسيطاً على السبورة البيضاء، ثم قال: “هذا هو التطبيق الجديد. إنه يتكون من نافذة واحدة، يمكنك سحب مقطع الفيديو إلى النافذة، ثم تنقر على زر “النسخ”. هذا كل شيء، وهذا ما سنصنعه”.

وخلال بحثه عن قطاعات أو أجهزة مهيأة لعملية الزعزعة، كان جوبز يسأل دائماً عن أسباب تعقيد بعض المنتجات أكثر مما يجب. وهذا التعقيد هو الذي كان يميز المشغّلات المحمولة للموسيقى وأساليب الحصول على الأغاني سنة 2001 ما دفعه إلى إنتاج جهاز آيبود ومتجر آي تيونز ستور الافتراضي لتجاوز هاتين المشكلتين. ثم جاء بعد ذلك دور الهواتف المحمولة عندما أخذ جوبز خلال أحد الاجتماعات هاتفاً وأبرز (بوضوح) ألّا أحد يعرف كيفية تصفّح هذا الجهاز باستخدام نصف الميزات الموجودة فيه، بما في ذلك ميزة دليل العناوين. وفي نهاية حياته المهنية كان يضع نصب عينيه قطاع التلفزيون الذي أصبح من المستحيل على مستخدميه الضغط على زر بسيط لمشاهدة ما يريدونه في الوقت الذي يفضلونه.

تحمّل المسؤولية الكاملة

أدرك جوبز أن أفضل طريقة لتحقيق البساطة هي التأكد من تكامل الأجهزة والبرمجيات والأجهزة الطرفية بسلاسة. إذ سمحت منظومة آبل المكونة على سبيل المثال من آيبود متصل بحاسوب ماك باعتماد برمجيات آي تيونز بظهور أجهزة أبسط ومزامنة أسلس واضطرابات تشغيل أندر. وأصبح بالإمكان إنجاز المهام الأكثر تعقيداً على الكومبيوتر، مثل إنشاء قوائم تشغيل جديدة، ما أدى إلى التقليل من وظائف جهاز آيبود وأزراره.

لقد تحمّل جوبز وآبل المسؤولية الكاملة عن تجربة المستخدم، وهو أمر لا تفعله إلا قلة من الشركات. وأصبحت جوانب تجربة المستخدم كلها مترابطة فيما بينها بدءاً من أداء المعالج الدقيق من نوع آيه آر إم (ARM microprocessor) في جهاز آيفون وصولاً إلى عملية شراء هذا الجهاز من أحد متاجر آبل. واتّبعت شركة مايكروسوفت في الثمانينيات وجوجل في السنوات القليلة الماضية نهجاً أكثر انفتاحاً يسمح باستخدام أنظمة التشغيل والبرمجيات الخاصة بهما من قبل مختلف مصنّعي الأجهزة. وثبت أحياناً أن ذلك يمثل نموذج عمل أفضل، لكن جوبز اعتقد جازماً أنها وصفة (وفقاً لمصطلحه التقني) خاصة بمنتجات متدنية الجودة. يقول جوبز: “الناس مشغولون، ولديهم أمور أخرى يفعلونها بدلاً من التفكير في كيفية تحقيق التكامل بين حواسيبهم وأجهزتهم”.

يمكن أن يكون الاندماج في منظومة أجهزة آبل رائعاً كالمشي في إحدى حدائق زن التي أحبّها جوبز في مدينة كيوتو اليابانية.

يعود جزء من التزام جوبز بتحمّل المسؤولية عمّا أسماه “القطعة بأكملها” إلى طبيعة شخصيته المسيطرة جداً، لكنه كان موجّهاً أيضاً بشغفه بالكمال ورغبته في صناعة منتجات أنيقة. فقد أصيب بطفح جلدي مزمن، أو بأسوأ من ذلك، عندما كان يفكر في تشغيل برنامج آبل الرائع على أجهزة متواضعة لإحدى الشركات، كما كانت لديه حساسية من احتمال تأثير المحتوى أو التطبيقات غير المعتمدة على كمال أجهزة آبل. ولم يساعد نهجه هذا دائماً على تعظيم الأرباح القصيرة الأجل لفائدة الشركة، لكنه أدّى في عالم مليء بالأجهزة غير المرغوب فيها ورسائل الخطأ الغامضة والواجهات المزعجة إلى ظهور منتجات مذهلة تتميز بتجارب استخدام ممتعة. ويمكن أن يكون الاندماج في منظومة أجهزة آبل رائعاً كالمشي في إحدى حدائق زن التي أحبها جوبز في كيوتو اليابانية، لكن أيّاً من هذه التجارب لم ينشأ بفضل تشجيع الانفتاح أو السماح بتعدّد الرؤى، لأنه من المفيد أحياناً أن تعمل تحت إمرة شخص مهووس بالسيطرة.

استراتيجية القفزة النوعية لتدارك التأخر

ليست الشركة المبتكرة هي التي تأتي بأفكار جديدة فقط، بل هي القادرة على تحقيق القفزة النوعية عندما تتأخر. وقد حدث هذا التأخر عندما صنع جوبز جهاز آي ماك الأصلي، حيث ركز على جعله مفيداً لإدارة صور المستخدم ومقاطع الفيديو، لكنه كان متخلفاً في معالجة المقاطع الموسيقية. وكان الأشخاص الذين يمتلكون أجهزة كمبيوتر يحمّلون مقاطع الموسيقى ويتبادلونها، ثم يقطّعونها وينسخونها على الأقراص المضغوطة الخاصة بهم. وتعذّر على محرك حيز آي ماك نسخ الأقراص المضغوطة. يقول جوبز: “لقد شعرت أنني غبي، واعتقدت أن ذلك فاتنا”.

وبدلاً من الاكتفاء باللحاق بالركب من خلال تطوير محرك الأقراص المضغوطة الخاص بآي ماك، قرر جوبز إنشاء نظام متكامل من شأنه تغيير قطاع إنتاج الموسيقى. وكانت النتيجة هي الجمع بين آي تيونز وآي تيونز ستور وآيباد، ما سمح للمستخدمين بشراء مقاطع الموسيقى وتقاسمها وإدارتها وتخزينها وتشغيلها على نحو أفضل مما كانوا يفعلونه بأي أجهزة أخرى.

وبعد أن حقق جهاز آيبود نجاحاً باهراً قضى جوبز القليل من الوقت في الاستمتاع به، ثم بدأ القلق يساوره مجدداً بشأن ما يمكن أن يهدد نجاح هذا الجهاز. وكان أحد هذه التهديدات المحتملة أن يبدأ صنّاع الهواتف المحمولة إضافة برامج تشغيل الموسيقى إلى أجهزتهم. فما كان من جوبز إلا أن زاحم مبيعات آيبود بابتكار هاتف آيفون. وقال عن ذلك: “إذا لم نزاحم أنفسنا فسيفعل ذلك آخرون”.

أولوية المنتجات قبل الأرباح

عندما صمم جوبز وفريقه الصغير جهاز ماكنتوش الأصلي في أوائل الثمانينيات أوعز بجعله “رائعاً إلى درجة تفوق الخيال”. ولم يتحدث قط عن تعظيم الأرباح أو مقايضة كلفة الإنتاج، بل قال ذات يوم لقائد الفريق الأصلي: “لا تقلق بشأن السعر، حدد فقط قدرات هذا الحاسوب”. وعندما اختلى في أول معتكف بفريق ماكنتوش استهل الجلسة بكتابة مقولة: “لا تتنازلوا” على السبورة البيضاء. وكلّف الجهاز الناتج عن ذلك الكثير من المال ما أدّى إلى طرد جوبز من شركة آبل، لكن ماكنتوش “خلّف أثراً في الكون” كما قال، من خلال تسريع ثورة الحواسيب المنزلية. كما حقق هذا المنتج التوازن المطلوب على المدى البعيد انسجاماً مع مقولته: “ركّز على جعل المنتج رائعاً وستأتي الأرباح بعد ذلك”.

كان جون سكولي الذي أدار شركة آبل من عام 1983 إلى عام 1993، مسؤولاً تنفيذياً للتسويق والمبيعات في شركة بيبسي (Pepsi). وكان قد ركّز على تعظيم الأرباح أكثر من تركيزه على تصميم المنتجات بعد مغادرة جوبز، فتراجعت شركة آبل تدريجياً. يقول جوبز: “كانت لي نظريتي الخاصة عن سبب تراجع الشركات، فهي تصنع منتجات رائعة ثم يسيطر مسؤولو المبيعات والتسويق عليها، لأنهم يستطيعون زيادة الأرباح. وعندما يسيّر موظفو المبيعات الشركة، تتراجع أهمية موظفي الإنتاج فيتوقف الكثير منهم عن العمل. وقد حدث ذلك في آبل عندما جاء سكولي، وكان ذلك خطئي، ثم حدث أيضاً عندما سيطر بالمر على إدارة مايكروسوفت”.

وعندما عاد جوبز حوّل تركيز آبل مجدداً نحو صنع منتجات مبتكرة مثل حاسوبي سبرايت لي آي ماك (sprightly iMac)، وباور بوك (PowerBook)، ثم أجهزة آيبود وآيفون وآيباد. وشرح ذلك قائلاً: “كنت شغوفاً ببناء شركة مستدامة يكون موظفوها متحفزين لصناعة منتجات رائعة. وما عدا ذلك كان ثانوياً. ومن المؤكد أن تحقيق الأرباح كان أيضاً أمراً رائعاً فهو الذي كان يسمح لنا بصنع هذه المنتجات الرائعة. لكن الحافز الحقيقي كان المنتجات وليس الأرباح. وقد قلب سكولي هاتين الأولويتين بالتركيز على هدف تحقيق الأرباح المالية. إنه فرق رفيع، لكنه مهم في سير العمل، إذ يرتبط بالأشخاص الذين توظفهم أو أولئك الذين ترقيهم والمواضيع التي تناقشها خلال الاجتماعات”.

التحرّر من مجموعات التركيز

عندما أخذ ستيف جوبز فريق ماكنتوش الأصلي إلى أول معتكف له سأله أحدهم إن كان عليهم إجراء بعض أبحاث السوق لمعرفة ما يريده العملاء. فأجابه جوبز: “لا، لأن العملاء لا يعرفون ما يريدونه قبل أن نريهم إياه”. واستشهد بمقولة هنري فورد: “لو كنت سألت العملاء عمّا يريدونه لكانوا أجابوني “‘نريد حصاناً أسرع'”.

إن الاهتمام البالغ بما يريده العملاء مختلف جداً عن سؤالهم باستمرار عمّا يريدونه، لأنه يتطلب توظيف الحدس والموهبة لمعرفة الرغبات التي لم تتشكل بعد. وقد شرح جوبز ذلك قائلاً: “إن مهمتنا هي قراءة الصفحات التي لم تُكتب بعد”. وبدلاً من الاعتماد على أبحاث السوق، صقل جوبز تصوّره الخاص للتعاطف، وجعل منه نوعاً من الحدس الحميم لرغبات العملاء. وقد طور تقديره للحدس؛ أي تلك المشاعر المرتكزة على حكمة تجريبية متراكمة، عندما كان يدرس البوذية في الهند بعد انقطاعه عن دراسته الجامعية. ويستحضر جوبز ذلك بالقول: “إن الناس في القرى الهندية لا يستخدمون ذكاءهم مثلما نفعل نحن، بل يستخدمون حدسهم بدلاً منه، والحدس خاصية قوية، أكثر قوة من الذكاء في رأيي”.

وكان هذا يعني استخدام جوبز أحياناً مجموعة مركزة فردية ليس فيها غيره. فصنع المنتجات التي أرادها هو وأصدقاؤه. كانت هناك على سبيل المثال العديد من مشغّلات الموسيقى المحمولة في عام 2000، لكن جوبز شعر أنها متخلفة، وأراد باعتباره مهووساً بالموسيقى جهازاً بسيطاً يسمح له بحمل 1,000 أغنية في جيبه. يروي ذلك قائلاً: “لقد صنعنا آيبود لأنفسنا، وعندما تصنع شيئاً لنفسك أو لأصدقائك المفضلين أو لأسرتك فإنك لن تشعر بالملل”.

تطويع الواقع

سمّى الزملاء قدرة جوبز الشهيرة على دفع الناس إلى فعل المستحيل مجال تحريف الواقع (Reality Distortion Field)، بعد بث حلقة من مسلسل ستار تريك (Star Trek) التي سيخلق فيها الفضائيون واقعاً بديلاً مقنعاً باستخدام القوة العقلية المطلقة. كما رأى جوبز مثالاً مبكراً على ذلك عندما كان في وردية ليلية بشركة أتاري ودفع ستيف ووزنياك لابتكار لعبة تسمى بريك آوت (Breakout). فقال له ووزنياك إن الأمر سيستغرق شهوراً، لكن جوبز حدّق فيه وأصر على أنه يستطيع فعل ذلك في غضون 4 أيام. وكان ووزنياك يعلم أن ذلك مستحيل، لكنه فعل ما طلب منه في النهاية.

سمّى الزملاء قدرة جوبز الشهيرة على دفع الناس إلى فعل المستحيل مجال تحريف الواقع بعد بث حلقة من مسلسل ستار تريك.

وفسر أولئك الذين لم يعرفوا جوبز مجال تحريف الواقع على أنه تعبير ملطف عن التنّمر والكذب، لكن أولئك الذين عملوا معه اعترفوا أن هذه الصفة المزعجة في شخصية جوبز دفعتهم على الرغم من ذلك إلى تحقيق إنجازات غير عادية. ولأنه كان يشعر أن قواعد الحياة العادية لا تنطبق عليه، فقد كان بإمكانه إلهام فريقه لتغيير مسار تاريخ الحوسبة بتوظيف جزء صغير من موارد شركتي زيروكس وآي بي إم (IBM). كانت ديبي كولمان ضمن فريق تصميم ماك الأصلي وفازت ذات عام بجائزة ساخرة تُمنح لأكثر الموظفين مقاومة لجوبز. تقول عن مجال تحريف الواقع: “كان تحريفاً ذاتي التحقق. وكنا نفعل المستحيل لأننا لم ندرك أنه مستحيل”.

ذات يوم دخل جوبز إلى حجرة المهندس لاري كينيون، الذي كان يعمل على تطوير نظام تشغيل ماكنتوش، واشتكى من استغراق انطلاق الأجهزة وقتاً طويلاً بعد ضغط زر التشغيل. فشرع كينيون يشرح سبب عدم إمكان تقليل وقت تمهيد التشغيل، لكن جوبز قاطعه متسائلاً: “إذا كان ذلك سينقذ حياة شخص ما، فهل يمكنك إيجاد طريقة لحذف 10 ثوانٍ من وقت تمهيد التشغيل؟”. فأقرّ كينيون بقدرته على فعل ذلك. توجّه جوبز نحو السبورة البيضاء وقدّم مثالاً يُظهر أن استخدام 5 ملايين شخص جهاز ماك يتطلب تشغيله كل يوم 10 ثوانٍ إضافية، سيزيد ما يصل إلى 300 مليون ساعة أو نحو ذلك سنوياً في وقت التشغيل، وهي مدة تعادل 100 مدة بقاء على الأقل في السنة. وبعد بضعة أسابيع تمكّن كينيون من تقليص مدة تشغيل الجهاز بـ 28 ثانية.

وعندما كان جوبز يصمم هاتف آيفون قرر أن تكون واجهته زجاجية صلبة ومقاومة للخدش بدلاً من أن تكون بلاستيكية. فالتقى الرئيسَ التنفيذي لشركة كورنينغ (Corning) وندل ويكس، الذي أخبره أن الشركة طورت عملية تبادل كيميائي في الستينيات أنتجت ما أُطلق عليه اسم “زجاج الغوريلا” (Gorilla glass). فطلب منه جوبز توفير شحنة كبيرة من هذا الزجاج خلال 6 أشهر. فقال ويكس إن كورنينغ لم تكن تصنع الزجاج وليست لها القدرة على إنتاج هذه الكمية. فأجابه جوبز قائلاً: “لا تخف”. فاجأ هذا الرد ويكس الذي لم يكن معتاداً على فكرة مجال تحريف الواقع التي يوظفها جوبز، فحاول أن يشرح له أن الشعور الزائف بالثقة لن يتغلب على التحديات الهندسية، لكن جوبز أكد له مراراً وتكراراً رفضه هذه الفرضية. ثم ركّز نظراته على ويكس وقال: “نعم، أنت تستطيع فعل ذلك، حاول استيعاب الأمر، تستطيع إنجازه”. يتذّكر ويكس أنه هز رأسه بدهشة ثم اتصل بمدراء مصنع كورنينغ في هارودسبرغ (Harrodsburg) بولاية كنتاكي، الذي كان يصنّع شاشات إل سي دي (LCD)، وطلب منهم التحول فوراً إلى صناعة زجاج الغوريلا بدوام كامل. يقول عن ذلك: “أنجزنا المطلوب في أقل من 6 أشهر، حيث وظفنا أفضل علمائنا ومهندسينا في ذلك، ونجحنا”. فأصبحت قطع الزجاج المستخدمة في آيفون أو آيباد تُصنع في أميركا من قبل شركة كورنينغ.

الإسناد

أرسل موجه جوبز الأول، مايك ماركيولا، مذكرة إليه في عام 1979 تحثّه على احترام 3 مبادئ: كان المبدآن الأول والثاني هما التعاطف والتركيز، بينما كان المبدأ الثالث عبارة عن كلمة غريبة هي “الإسناد”، التي أصبحت أحد مبادئ جوبز الرئيسية. فقد كان يدرك أن الناس يشكلون رأياً حول منتج أو شركة بناء على كيفية التقديم أو التعبئة. وفي هذا الإطار قال لي جوبز: “علّمني مايك أن الناس يحكمون على الكتاب من غلافه”.

وأخبرني أنه عندما كان يستعد لشحن حواسيب ماكنتوش في عام 1984، كان مهووساً بألوان علبة تعبئة الجهاز وتصميمها. كما أمضى بعض الوقت بنفسه في تصميم وإعادة تصميم علبتي تعبئة آيفون وآيباد الشبيهتين بعلب المجوهرات، وسجّل اسمه في براءة اختراعهما. وقد آمن هو وجوني آيف أن فتح العلبة كان بمثابة طقس مسرحي يعلن مجد المنتج. وقال جوبز: “أردنا أن تحدد تجربة اللمس طريقة استقبال الزبون للمنتج عندما يفتح علبة هاتف آيفون أو جهاز آيباد”.

لقد كان جوبز يستخدم أحياناً تصميم جهاز معين “لإسناد” إشارة معينة بدلاً من الاقتصار على طابعه الوظيفي. فعندما كان على سبيل المثال يطور حاسوب آي ماك الجديد والمسلّي، بعد عودته إلى شركة آبل، عرض عليه آيف تصميماً يحتوي على مقبض غائر قليلاً في الجزء العلوي من الجهاز. بدا ذلك إيحائياً أكثر من المعتاد، علماً أن الأمر يتعلق بحاسوب مكتبي. لم يكن العديد من الناس ليحملوه، لكن جوبز وآيف أدركا أن الكثير منهم ما يزال متخوفاً من استخدام أجهزة الكومبيوتر. وإذا احتوى التصميم الجديد على مقبض فسيبدو الحاسوب محبّباً ومختلفاً ورهن إشارة مستخدمه. فكان المقبض بمثابة إذن للمستخدم بلمس جهاز آي ماك. وقد اعترض فريق التصنيع على كلفة الإنتاج الإضافية لكن جوبز رفض اعتراضهم ببساطة قائلاً: “لا، سننجز ذلك”، دون أن يحاول حتّى شرح موقفه.

الدفع نحو الكمال

خلال تطوير المنتجات كلها التي ابتكرها كان جوبز يتوقف عند نقطة معينة ليعود إلى مرحلة التخطيط الأولى عندما يشعر أن المنتج ليس مثالياً. وقد حدث ذلك حتّى مع فيلم توي ستوري (Toy Story). فبعد أن اشترى جيف كاتزنبرغ وفريق ديزني (Disney) حقوق الفيلم، ودفعا فريق بيكسار إلى جعله أكثر تميزاً ودرامية، أوقف جوبز والمخرج جون لاسيتر عملية الإنتاج وأعادا كتابة القصة لجعلها أمتع. وعندما كان على وشك إطلاق متاجر آبل، قرر فجأة هو ورون جونسون الذي ألهمه فكرة المتجر، تأجيل العملية كلها بضعة أشهر لإعادة تنظيم تصميم المتاجر بناءً على الأنشطة وليس على أساس أنواع المنتجات فقط.

وانطبق الأمر نفسه على هاتف آيفون، حيث كان التصميم الأولي عبارة عن شاشة زجاجية مثبتة في علبة من الألومنيوم. وفي صباح أحد أيام الاثنين ذهب جوبز لرؤية آيف، وقال له: “لم أنم الليلة الماضية، لأنني شعرت أن هذا التصميم لم يعجبني”. تملّك الفزع آيف وأدرك فوراً أن جوبز كان على حق. يقول عن ذلك: “أتذكر أنني شعرت بحرج كبير لأنه كان عليه أن يبدي تلك الملاحظة”. وكان من المفترض أن ينصبّ التركيز على جودة عرض شاشة آيفون، لكن العلبة أصبحت تنافس الهاتف في الاستئثار بالاهتمام فسبّب ذلك مشكلة. وبدا الجهاز بأكمله ذكورياً للغاية وموجهاً بالمهام والفعالية. فقال جوبز لأعضاء فريق آيف: “يا رفاق، لقد أرهقتم أنفسكم طوال 9 أشهر من أجل هذا التصميم، لكننا سنغيّره، وسنضطر جميعاً إلى العمل ليلاً وفي أيام عطلة نهاية الأسبوع، وإذا أردتم بعض الأسلحة فسنزودكم بها لتقتلونا الآن”. فوافق الفريق دون تردد. يتذكر جوبز تلك اللحظة قائلاً: “لقد كانت إحدى أكثر اللحظات مدعاة للفخر في شركة آبل بالنسبة إلي”.

وحدث أمر مماثل عندما كان جوبز وآيف يُنهيان تصميم جهاز آيباد. ففي مرحلة من المراحل تأمل جوبز النموذج وشعر أنه غير راضٍ عنه تماماً. لم يبدُ الجهاز عادياً ومألوفاً على نحو يدفع العميل إلى اقتنائه بسهولة والانصراف به مسرعاً. وكان جوبز وآيف في حاجة إلى دفع العميل إلى شرائه فوراً دون تفكير. فقررا جعل الحافة السفلية من الهاتف مستديرة قليلاً، بحيث يكون المستخدم مرتاحاً وهو يستلّ الجهاز بدلاً من الاضطرار إلى رفعه بعناية. وكان ذلك يعني أن على فريق الهندسة تصميم منافذ الاتصال وأزراره الضرورية في شكل شفة رفيعة وبسيطة تنحدر برفق أسفل الجهاز. فأجّل جوبز إطلاق المنتج حتّى تُجرى تلك التعديلات.

وامتدّ طلب جوبز للكمال إلى الأجزاء الخفية من الأجهزة أيضاً. فعندما كان صبياً صغيراً ساعد والده في بناء سياج حول الفناء الخلفي للبيت، وقال له والده إن عليه الاعتناء بالجزء الخلفي من السياج كعنايته بالجزء الأمامي منه. فقال ستيف: “لا أحد سيراه”، لكن والده أجابه قائلاً: “ولكنك ستراه أنت”. ثم أوضح له والده أن الحِرفي الحقيقي يستخدم قطعة خشب جيدة حتى في الخلفية الحائطية للخزانة التي يصنعها، وأن عليهما أن يفعلا الشيء نفسه بالنسبة للجزء الخلفي من السياج. وكان هذا النوع من الشغف بالكمال دليلاً على عقلية الفنان. وخلال إشرافه على تصميم حاسوبيّ آبل 2 (Apple II) وماكنتوش طبّق جوبز هذا الدرس على لوحة الدارة المطبوعة داخل الجهازين. وطلب من مهندسي كلا الحاسوبين إعادة تصميم الرقائق الإلكترونية حتى تصطف بنظام كي تبدو لوحة الدارة جميلة. وبدا هذا الطلب غريباً خاصة بالنسبة إلى مهندسي ماكنتوش، لأن جوبز أمر بإغلاق الجهاز بإحكام. فاحتجّ أحدهم قائلاً: “لا أحد سيرى لوحة دارة الحاسوب”. فأجابه جوبز بطريقة والده: “أريدها جميلة قدر الإمكان، حتّى إن كانت داخل الجهاز. فالنجّار المتمكن لن يستعمل الخشب الرديء في الجزء الخلفي من الخزانة التي يصنعها، على الرغم من أنه لن يراه أحد”. يقول جوبز عن أولئك المهندسين: “لقد كانوا فنانين حقيقيين، وعليهم أن يتصرفوا كذلك”. وبمجرد أن أُعيد تصميم لوحة الدارة، طلب جوبز من المهندسين وأعضاء آخرين من فريق ماكنتوش التوقيع بأسمائهم حتى يمكن نقشها داخل العلبة، وقال: “الفنانون الحقيقيون يوقّعون أعمالهم”.

قبول أصحاب الأداء العالي فقط

اشتهر جوبز بقلة صبره وحدّة طبعه وصرامته في التعامل مع المحيطين به. لكن أسلوبه هذا الذي لم يكن جديراً بالثناء كان نابعاً من شغفه بالكمال ورغبته في العمل مع أفضل العناصر فقط. وكانت تلك طريقته لمنع ما أسماه “انفجار الأغبياء” (the bozo explosion)، الذي كان يقصد به كثرة الموظفين دون المستوى المطلوب في أماكن العمل التي يسيّرها مدراء مؤدبون جداً لدرجة أن هؤلاء الأشخاص غير الأكفاء يجدون راحتهم في البقاء فيها. يقول جوبز: “لا أعتقد أنني أحتقر الناس، لكنني أصارحهم بالحقيقة عندما لا تسير الأمور على ما يرام، ومن واجبي أن أكون صادقاً”. وعندما سألتُه بإلحاح إن كان بإمكانه تحقيق النتائج نفسها بالتعامل الطيب مع الموظفين، أجابني قائلاً: “ربّما، لكنني لست كذلك. ربما تكون هناك طريقة أفضل للتعامل معهم وكأننا في نادٍ رجالي نرتدي فيه جميعاً ربطات عنق ونتحدث لغة راقية ونستعمل كلمات رمزية مخملية، لكنني لا أعتمد هذه الطريقة، لأنني لست سوى واحد من أبناء الطبقة المتوسطة في كاليفورنيا”.

فهل كان سلوكه المزاجيّ والمتعسّف ضرورياً؟ لم يكن ضرورياً على الأرجح، إذ كان بإمكانه تحفيز فريقه بطرق أخرى. يقول المؤسس الشريك في شركة آبل ووزنياك عن ذلك: “كان بإمكانه الإسهام في العمل دون تلك القصص كلها عن ترويعه للموظفين، وأنا أحبّ أن أكون أكثر صبراً دون الدخول في صراعات عديدة معهم، لأنني أعتقد أن موظفي الشركة يمكن أن يشكلوا عائلة جيدة”. لكن ووزنياك أضاف بعد ذلك فكرة لا يمكن إنكارها قائلاً: “لو أُدير مشروع ماكنتوش بطريقتي لربّما سادته الفوضى”.

من المهم إذاً أن ندرك أن فظاظة جوبز وغلظته كانتا مصحوبتين بقدرة على إلهام الآخرين. لقد غرس في نفوس موظفي آبل شغفاً دائماً بابتكار منتجات رائدة وإيماناً بالقدرة على تحقيق ما يبدو مستحيلاً. وعلينا أن نحكم عليه من خلال النتائج. وكانت لجوبز عائلة متماسكة وكذلك كان الحال في شركة آبل حيث كان أصحاب الأداء العالي يميلون إلى البقاء في الشركة لفترات أطول، كما كانوا أكثر ولاء من نظرائهم في الشركات الأخرى، بما في ذلك تلك التي يديرها مدراء أكثر لطفاً وطيبة منه. ولذلك فإن الرؤساء التنفيذيين الذين يدرسون تجربة جوبز ويقررون تقليد صرامته دون فهم قدرته على تعزيز ولاء موظفيه يرتكبون خطأً فادحاً.

قال لي جوبز: “تعلمتُ بمرور السنوات أن المرء عندما يكون محاطاً بأشخاص طيبين، فلا داعي أن يدلّلهم. وعندما يتوقع منهم إنجازات عظيمة، فهو يدفعهم فعلاً إلى تحقيق إنجازات عظيمة. واسأل أيّ عضو من أعضاء فريق ماك، سيخبرك أن الأمر كان يستحق ذلك العناء كلّه”. وقد أخبرني أغلبهم بذلك فعلاً. تحكي ديبي كولمان عن ذلك: “لقد كان يصرخ في أحد الاجتماعات قائلاً: أيتها البلهاء، أنت لا تحسنين صنعاً أبداً. ومع ذلك فإنني أعدّ نفسي أوفر الناس حظاً في العالم لأنني عملت معه”.

التفاعل وجهاً لوجه

على الرغم من أن جوبز كائن رقمي، كان مؤمناً جداً بأهمية الاجتماعات وجهاً لوجه، وقد يرجع ذلك إلى معرفته الجيدة بتأثيرات العالم الرقمي العازلة للإنسان. يقول جوبز: “ثمة ما يغرينا في هذا العصر الشبكي للاعتقاد أن الأفكار يمكن أن تُبلور عبر البريد الإلكتروني أو تطبيقات الدردشة، وهذا جنون، فالإبداع ينتج عن اللقاءات العفوية والنقاشات العشوائية. تُقابل أحدهم صدفة، فتسأله عمّا يفعله، وتنبهر بما يخبرك به، ثم سرعان ما تتبلور في ذهنك أفكار متنوعة”.

وكان مبنى بيكسار مصمّماً لتشجيع اللقاءات وجلسات التعاون غير المخطط لها. يقول جوبز: “إذا كان مبنى الشركة لا يشجع على ذلك، فستخسر الكثير من الابتكارات والسحر الذي توقد جذوته الصّدف السارة. لذا صمّمنا هذا المبنى لإخراج الموظفين من مكاتبهم ودفعهم إلى الاختلاط في الردهة الرئيسية بأشخاص قد لا يلتقونهم بطريقة أخرى”. وكانت الأبواب الأمامية والسلالم الرئيسية والممرات جميعها تؤدي إلى تلك الردهة. وكان فيها المقهى وصناديق البريد، بينما كانت نوافذ غرف الاجتماعات تطل عليها، كما كانت قاعة المسرح التي تسع 600 مقعد وغرفتي عرض أصغر حجماً تُفضي إليها. يحكي لاسيتر عن ذلك قائلاً: “لقد نجحت نظرية جوبز منذ اليوم الأول، إذ لم أتوقف عن مقابلة أشخاص لم أرهم منذ شهور. لم أر في حياتي مبنى يحفز التعاون والإبداع مثل هذا المبنى”.

وكان جوبز يكره العروض التقديمية الرسمية لكنه كان يحبّ اللقاءات وجهاً لوجه، حيث كان يجمع فريقه التنفيذي أسبوعياً لطرح الأفكار دون جدول أعمال رسمي، وكان يفعل الشيء نفسه بعد ظهر كل يوم أربعاء مع فريق التسويق والإعلان. وكانت عروض الشرائح محظورة. يحكي جوبز عن ذلك قائلاً: “كنت أكره الطريقة التي يوظف بها الناس عروض الشرائح التقديمية بدلاً من إعمال فكرهم، لقد كانوا يواجهون المشكلات بإنجاز عروض تقديمية، وكنت أريدهم أن يتفاعلوا ويناقشوا خلافاتهم بدلاً من استعراض مجموعة من شرائح العرض، فالناس الذين يعرفون جيداً المواضيع التي يتحدثون عنها لا يحتاجون إلى برنامج باوربوينت (PowerPoint)”.

معرفة الصورة الكاملة والتفصيلية

شمل شغف جوبز القضايا الكبرى والصغرى معاً. وإذا كان بعض الرؤساء التنفيذين يتميزون بالرؤية الشاملة، فإن بعض المدراء الآخرين يهتمون أكثر بالتفاصيل. وكان جوبز يجمع بين المقدرتين. يقول الرئيس التنفيذي لشركة تايم وارنر (Time Warner) جيف بيوكيس، إن إحدى صفات جوبز البارزة تتمثل في قدرته على تصور استراتيجية شاملة ورغبته فيها، مع التركيز أيضاً على أدقّ جوانب تصميم المنتجات. فبلور في سنة 2000 على سبيل المثال تلك الرؤية العظيمة التي مفادها أن الحاسوب الشخصي يجب أن يصبح “نقطة تجمّع رقمية” لإدارة جميع مقاطع الموسيقى والفيديو والصور والمحتوى الخاصة بالمستخدم، وجعل شركة آبل تدخل بالتالي مجال الأجهزة الشخصية من خلال آيبود ثم آيباد. وفي سنة 2010 توصل إلى الاستراتيجية البديلة التي ستتحول فيها “نقطة التجمع” إلى السحابة الإلكترونية، وبدأت شركة آبل بناء مزرعة خوادم ضخمة حيث يمكن تحميل محتوى المستخدم كله ثم مزامنته بسلاسة مع الأجهزة الشخصية الأخرى. وحتّى عندما كان بصدد بلورة هذه الرؤية العظيمة، كان منشغلاً بشكل المسامير اللولبية الموجودة في جهاز آي ماك ولونها.

الجمع بين العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية

أخبرني جوبز في اليوم الذي وافق فيه على التعاون معي من أجل كتابة سيرته: “عندما كنت طفلاً كنت أعدّ نفسي متخصصاً في العلوم الإنسانية، لكنني أحببت المجالات الإلكترونية، حتّى قرأت ما قاله أحد قدواتي، العالم والمخترع إدوين لاند أوف بولارويد، عن أهمية الأشخاص الذين يمكنهم الوقوف عند نقطة التقاطع بين العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية، فقررت أن أكون منهم”. كان كأنه يصف مسار حياته، وكلما درست هذا المسار، أدركت أن هذا جوهر قصته بالفعل.

لا أحد في عصرنا كان يستطيع الوصل بين الشعر والمعالِجات الإلكترونية أفضل منه وبتلك الطريقة التي هزّت ميدان الابتكار.

ربط جوبز بين العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية وبين الإبداع والتكنولوجيا وبين الفنون والهندسة، وكان هناك خبراء كبار في مجال التكنولوجيا (ووزنياك، وغيتس) ومصممّون وفنانون أفضل منه بالتأكيد، لكن لا أحد في عصرنا كان يستطيع الوصل بين الشعر والمعالجات الإلكترونية أفضل منه وبتلك الطريقة التي هزّت ميدان الابتكار. وفعل جوبز ذلك بحس بديهي لاستراتيجية العمل. كما كان جوبز حريصاً خلال العقد الأخير في لقاءات إطلاق المنتج الجديد كلها على إنهاء عروضه التقديمية بشريحة عرض تُظهر تقاطعاً بين شوارع الفنون الحرة والتكنولوجيا.

أكثر ما أثار اهتمامي في السيرتين اللتين كتبتهما عن فرانكلين وآينشتاين هو الإبداع الذي يمكن أن يتحقق عندما يجتمع الوعي بالعلوم الإنسانية والعلوم التجريبية في شخصية قوية واحدة، وأعتقد أنه سيكون مفتاح بناء اقتصادات مبتكرة في القرن 21. فهو جوهر الخيال التطبيقي وسبب الأهمية القصوى للعلوم الإنسانية والعلوم التجريبية في المجتمعات التي ترغب في التمتع بميزة إبداعية في المستقبل.

كان جوبز يسعى إلى زعزعة المزيد من القطاعات حتّى خلال فترة مرض موته. ففكّر في تحويل الكتب المدرسية إلى إبداعات فنية يمكن لأي شخص لديه حاسوب ماك تصميمها وصنعها، وذلك ما أعلنته شركة آبل في يناير/كانون الثاني 2012. كما كان يحلم بإنتاج أدوات سحرية خاصة بالتصوير الرقمي، وطرق لجعل جهاز التلفزيون بسيطاً وشخصياً. ولا شك أن هاتين الفكرتين ستتحققان أيضاً في المستقبل. وعلى الرغم من أنه لن يكون موجوداً بيننا ليرى ثمارها، فإن قواعد نجاحه ساعدته على بناء شركة لن تبتكر فقط هذه المنتجات المزعزعة وغيرها، بل ستقف أيضاً عند نقطة تقاطع بين الإبداع والتكنولوجيا ما دامت محافظة على إرث ستيف جوبز.

احرص على البقاء جائعاً وساذجاً

كان ستيف جوبز نتاجاً للحركتين الاجتماعيتين العظيمتين اللتين انبثقتا من منطقة خليج سان فرانسيسكو في أواخر الستينيات. تمثلت الأولى في الثقافة المضادة التي عبّرت عنها حركة الهيبيز والنشطاء المناهضون للحرب، وتميزت باستهلاك العقاقير المخدرة وموسيقى الروك ومعارضة الاستبداد. أما الثانية فتجسدت في ثقافة التكنولوجيا الفائقة والاختراق الإلكتروني اللتين سادتا في وادي السيليكون، موطن المهندسين والمهووسين بالحوسبة ومخترقي الأجهزة والاتصالات الهاتفية والحواسيب وأصحاب الهوايات ورواد الشركات المؤسسة في المرائب. وعلاوة على هاتين الثقافتين، سلك جوبز طرقاً متنوعة نحو التنوير الشخصي مثل فلسفة زن والهندوسية، والتأمل واليوغا، والعلاج بالصراخ البدائي والحرمان الحسي إضافة إلى علاقته بمعهد إيسالين للوعي الإنساني (Esalen) وندوة إيرهارد التدريبية (est).

وقد عُثر على خليط من هذه الثقافات في منشورات من قبيل مجلة سيتوارت براند (Stewart Brand) كاتالوغ الأرض الكاملة (Whole Earth Catalog)، التي ظهر على غلافها الأول الصورة الشهيرة الملتقطة للأرض من الفضاء، بعنوانها الفرعي “الوصول إلى الأدوات” (access to tools). وكانت الفلسفة الكامنة وراء هذا المنشور أن التكنولوجيا يمكن أن تكون صديقة للإنسان. وكان جوبز معجباً بهذه المجلة بعد أن أصبح من نشطاء حركة الهيبيز ومتمرداً ومريداً روحياً ومخترقاً للاتصالات الهاتفية وهاوياً للإلكترونيات في آن واحد. كما تأثر كثيراً بالعدد الأخير الصادر سنة 1971 وهو ما يزال تلميذاً في المرحلة الثانوية، وأخذ هذا العدد معه إلى الكلية ثم إلى مزرعة التفاح الجماعية التي سيعيش فيها بعد انقطاعه عن الدراسة. وسيتذكر ذلك لاحقاً ليقول: “كان الغلاف الخلفي للعدد الأخير يحتوي على صورة طريق ريفي في وقت مبكر من الصباح. وكان طريقاً من النوع الذي قد تجد نفسك تعبره إذا كنت كثير المغامرة. وتحت الصورة كُتبت الكلمات التالية: احرص على البقاء جائعاً وساذجاً”. وظل جوبز جائعاً وساذجاً طوال حياته المهنية بحرصه على تكامل الوجه التجاري والهندسي من شخصيته مع البعد المتمرد غير الملتزم في حياته، باعتباره فناناً ثائراً باحثاً عن التنوير. وقد عكس سلوكه في جوانب حياته كلها، سواء طريقة تعامله مع مرض السرطان أو إدارته للعمل، تناقضات هذه العناصر المتنوعة وتشابهاتها وتركيبها المحتمل.

وتشبث جوبز بخطه المتمرد والمضاد للثقافة السائدة حتّى بعد أن أصبحت آبل شركة حيث ظهر ذلك في إعلاناتها، كما لو كان يعلن أنه ما يزال مخترِقاً وناشطاً من حركة الهيبيز. وأظهر إعلان شركة آبل الشهير سنة “1984” امرأة متمردة تفلت من قبضة شرطة الفكر لتدمّر شاشة تمثل الأخ الأكبر بالمعنى الأورويلي (Orwellian Big Brother) باستخدام مطرقة ثقيلة. وعندما عاد جوبز إلى الشركة ساعد على كتابة نص إعلان “فكّر على نحو مختلف” الذي جاء فيه: “تحية إلى المجانين، غير الأسوياء، المتمردين، مثيري الشغب، إلى الأوتاد المستديرة في الثقوب المربعة…”. وإذا كان قد لاح أي شك حينها في أنه يصف نفسه بهذه الكلمات، فقد بدّده في تتمة سطور هذا الإعلان عندما كتب: “وبينما قد يراهم بعضنا مجانين، فإننا نراهم عباقرة، لأن الذين يستحوذ عليهم الجنون بما يكفي للاعتقاد أنهم يستطيعون تغيير العالم، هم فعلاً من يغيرونه”.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .