“لديّ حلم”، كانت تلك خطبة الدكتور مارتن لوثر كينغ الابن التي تُعد إحدى أشهر الخطب في التاريخ الحديث، وأضحت مثار اهتمام القادة الطموحين الذين عكفوا على دراستها ليروا أثر الكلمات المحفور في ذاكرة المستمع وقدرتها على رسم ملامح رؤية شاملة ومقنعة يستلهم منها المتلقي رغبة قوية في إحداث تغيير جذري.

لكن الخطبة المكوّنة من هاتين الكلمتين ليست الحسنة الوحيدة للرجل؛ فأفعاله كفيلة أيضاً بتعليمنا الكثير من الدروس. ألقى كينغ، الذي تحيي الولايات المتحدة ذكرى ميلاده بإعلان يوم الاثنين الثالث من شهر يناير/كانون الثاني كل عام عطلة رسمية على المستوى الفيدرالي، تلك الخطبة خلال مسيرة إلى واشنطن صيف عام 1963. اجتذب هذا الجمع الحاشد رقماً قياسياً من المؤيدين بلغ ربع مليون من مناصري الحقوق المدنية ومناهضي التمييز العنصري. ونجح في خلق حالة من الزخم أدت إلى تمرير تشريعات تنصُّ على المساواة في الحقوق والتخلص من الإرث البغيض للفصل العنصري في الدوائر الرسمية.

التغيير الشامل

انبرى كينغ للدفاع عن الفئات المهمَّشة من الأميركيين ذوي الأصول الإفريقية الذين لا يجمعهم سوى القليل من القواسم المشتركة، على ما أعتقد، مع معظم أولئك الذين يدرسون خطبته الآن في كليات إدارة الأعمال والبرامج التدريبية في الشركات. وعلى الرغم من ذلك، كان كينغ، الذي انتُخِب رئيساً لصفه في كلية الدراسات اللاهوتية الذي كان يهيمن عليه أصحاب البشرة البيضاء في ولاية بنسلفانيا، قادراً على التواصل مع الآخرين باستخدام الأسلوب الفكري السائد آنذاك.

فقد استخدم في خطبة “لديّ حلم” تشبيهات مستوحاة من عالم الأعمال؛ إذ قال: “بمعنى ما، لقد جئنا إلى عاصمة بلادنا لصرف شيك. عندما كتب مهندسو جمهوريتنا الكلمات الرائعة للدستور وإعلان الاستقلال، كانوا يوقعون على سند إذنيّ يتوارثه كل أميركي”. ومضى يقول إن أميركا لم تفِ بسداده، ومنحت أصحاب البشرة الملونة “شيكاً دون رصيد” أعيد لحامليه وقد كُتِب عليه “الرصيد لا يكفي لصرفه”. وأشار ضمنياً إلى أن الوقت قد حان لسداده. ولكن في حين انصب كلامه على تقديم التعويضات لضحايا العبودية، كان يركز في الغالب على إصلاح التعليم والمساواة في الأجور والحقوق بما يعود بالنفع على المجتمع بأكمله.

رأى كينغ أن تحقيق العدالة بين مختلف العرقيات من شأنه أن يساعد الجميع على استغلال إمكاناتهم كاملة؛ لأن الاستثمار في التعليم هو حجر الأساس الذي تنبني عليه الحقوق المدنية. كان حلمه أن يأتي اليوم الذي يخضع فيه أطفاله الأربعة للتقييم ليس على أساس لون بشرتهم، بل على أساس حقيقة شخصياتهم وأفعالهم. وقد منحته هذه الآراء مصداقية أخلاقية خارج حركته.

التحالفات

كان كينغ يرى أن القائد الحقيقي لا يبحث عن الإجماع، بل يصنع الإجماع بنفسه. كانت حركة الحقوق المدنية، شأنها شأن الحركات الاجتماعية كلها، عبارة عن خليط من مؤسسات مستقلة عديدة لها قادتها وطموحاتها. لم يكن كينغ وزملاؤه يشغلون مناصب قيادية، لكنهم تمكنوا من إقناع الكثير من المجموعات المنفصلة بالتحرك معاً. ونجح في النهاية تحالف من 6 مؤسسات في قيادة المسيرة إلى واشنطن، وهو إنجاز هائل في ظل الخلافات حول الأساليب الواجب اتباعها؛ حتى إن مجموعة أخرى أكثر تطرفاً سخرت من المسيرة.

دعا كينغ إلى الاعتدال وأرسى مبادئ تجاوزت حدود الاختلافات. وقد تحدّث عضو الكونغرس عن ولاية جورجيا حالياً ورئيس إحدى المجموعات الطلابية الوطنية آنذاك، جون لويس، عن الانقسام الذي كان سائداً وراء الكواليس حتى اللحظة التي ألقى فيها كينغ خطبته تقريباً والجهود التي بُذلت عقب ذلك لتوحيد الصفوف.

لم يكن كينغ ذلك النموذج المثالي المعصوم من الخطأ؛ فقد خضعت أطروحته للدكتوراة للتحقيق بتهمة الانتحال؛ وكانت حياته الشخصية تحوم حولها الشبهات، لكن الحركة لم تعتمد عليه وحده. وأدى استمرار سياسة بناء التحالفات إلى ضمان وجود حيّز للكثير من القادة وأشكال العمل تحت مظلة جامعة. في وقت لاحق، عندما تحول كينغ إلى التركيز على العدالة الاقتصادية، تغير شكل التحالف الفضفاض، ولم تسلك المؤسسات كلها المسار نفسه. ولكن حينما كان على قيد الحياة ويقود الصفوف، كان هناك أساس للعمل المشترك البنّاء.

معتقدات تستحق المخاطرة

أظهرت تصرفات كينغ أهمية معتقداته. كانت فلسفة كينغ تقوم على نبذ العنف، وأصر على الالتزام بهذا النهج وثابر عليه على الرغم من تلقيه تهديدات بالقتل والاعتداء عليه أكثر من مرة وتعرُّضه للاعتقال أكثر من 20 مرة. ولقي مصرعه برصاصة غادرة عام 1968، ولم يكن عمره يتجاوز 38 عاماً. وحتى عندما قضى نحبه، لم تلقَ إنجازاته التقدير المناسب عقب مقتله مباشرة. في عام 1983، وقّع رئيس الولايات المتحدة، رونالد ريغان، على مشروع قانون يمنح ذكرى ميلاد كينغ صفة العطلة الفيدرالية، لكن هذا القانون ظل مثار جدل. ولم تحتفل الدولة رسمياً بهذه المناسبة في الولايات الخمسين كلها إلا منذ عام 2000.

تضافر الجهود لخدمة الآخرين

دعا كينغ الجميع إلى الوقوف تحت مظلة الإيثار الخلّاق والابتعاد بكل ما أوتوا من قوة عن ظلمة الأنانية الهدّامة. وانعكست كلماته على فكر الرئيس الأميركي، جون كينيدي الذي قال: “لا تسأل ما الذي أعطاه لك بلدك؛ بل اسأل ما الذي ستعطيه أنت لبلدك”.

وقد ارتدت حركة الخدمة الوطنية عباءة كينغ وكينيدي؛ وقد اختارت مؤسسة الخدمة الوطنية والمجتمعية (AmeriCorps) الحكومية وشبكة هاندس أون نتوورك (Hands-on Network) للعمل التطوعي يوم مارتن لوثر كينغ باعتباره مناسبة وطنية للخدمة في عموم الولايات المتحدة. ويضطلع برنامج سيتي يير (City Year)، وهو أحد برامج مؤسسة الخدمة الوطنية والمجتمعية الرائدة التي أشرُف بالانضمام إلى مجلس إدارتها الوطني على مستوى الولايات المتحدة، بتنظيم مشاريع خدمية في المدارس الحضرية، ما يعمل على تضافر جهود المجتمع لإكمال مهمة تكافؤ الفرص من خلال تحسين مستوى التعليم. وتتولى شركات كبرى، مثل تمبرلاند وتي موبايل وبنك أوف أميركا وبيبسيكو وكومكاست، رعاية الفرق وإرسال الموظفين.

قد يجعلنا تأمُّل رحلة كينغ نتمهّل جميعاً برهة من الزمن لنحلم. ويتلخّص حلمي فيما يلي: لديّ حلم بأن يشتهر القادة ذات يوم ليس فقط بما يحققونه لمؤسساتهم، بل يشتهرون أيضاً بالتحسينات التي يسهمون في تحقيقها ويشجعونها في مجتمعاتهم ودولهم والعالم أجمع.