من التجارب الإدارية التي يعتز بها ويرويها الإداري والمفكر السعودي الراحل غازي القصيبي، هي فلسفة التوظيف والإدارة التي طبقها في شركة سابك. وكان القصيبي قد تولى منصب أول رئيس لمجلس إدارة هذه الشركة بعد تأسيسها عام 1976. وكانت هذه الشركة تبدو منذ تأسيسها بأنها عملاق سيتولى التصنيع في مجال الكيماويات وبناء صناعة تحويلية لمشتقات معتمدة على النفط والغاز. ولكم أن تتخيلوا ولادة شركة حكومية ضخمة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي؛ شركة يبدو أن لديها الكثير من الأموال، ولديها القدرة على تقديم أعلى الرواتب في المنطقة لجذب أفضل العقول وأفضل أصحاب المهارات.
لكن غازي القصيبي يقول في كتابه "حياة في الإدارة"، إن قرار تقديم الرواتب الخيالية لم يفضله كرئيس لمجلس الإدارة لسببين؛ الأول أنه كان سيسبب خللاً في سوق العمالة المؤهلة، والسبب الثاني، هو أن الرواتب الخيالية ستجذب كل العناصر النشطة وغير النشطة، الصالحة وغير الصالحة. ولذلك اختار أن تكون فلسفة سابك مشابهة للفلسفة التي تحكم عمل الشركات اليابانية، وهي "لن نغريك بالدخول، ولكن إذا دخلت فسوف نغريك بالبقاء". وكان هدفه أن تكون الحوافز متدرجة ومتصاعدة ومتماشية مع مستوى الأداء. ويذكر أن عدداً لا يحصى من الشباب الجامعيين كانوا يدخلون مكتبه بقصد التوظيف، ثم يخرجون مذهولين وربما ساخطين، بعد أن يسألوه عن "المزايا"، وهو يجيبهم: "مزايا؟ لا يوجد مزايا سوى الإرهاق".
إذاً هذا هو المبدأ الأول في فلسفة سابك؛ يجب أن تعلم قبل الدخول للعمل في سابك، بأنها شركة حكومية، ولكنها لا تشبه أي مؤسسة من مؤسسات الحكومة. عليك أن تعلم أن العمل سيكون جاداً وجدياً، وأن تقييم عملك مرتبط بمؤشرات أداء دقيقة وذات مستوى عالمي. وبأنك لن تكون ذلك الموظف الحكومي المترهل الذي يتكئ على كرسيه ويتسلى بالألعاب ورسائل الواتساب. وفلسفة سابك حسب ما عرضها رئيس مجلس الإدارة الأول، كانت تَعِد من يدخل الشركة ويعمل بجد لتطوير أدائه بأنه لن يفكر بترك العمل في سابك، لأنها ستغدق عليه المزايا والمكافآت التي يصعب أن يجدها في مكان آخر.
وكان المبدأ الثاني الذي اعتمده القصيبي في فلسفة سابك -والتي أرادها كما يكرر دوماً شركة حكومية لا تشبه أي مؤسسة حكومية- هو أن التوظيف فيها سيعتمد على النوعية وليس على الكمية. وكان يؤكد أنه لا يريد لسابك أن تكون كياناً حكومياً مترهلاً يعج بالآلاف من الموظفين. ويقول لاحقاً إن سياسته نجحت في اختيار أفضل الموظفين السعوديين بأعداد نوعية قليلة، لكنهم عملوا على مشاريع ضخمة. وكان يؤكد بأن كل من رأى ضخامة المشاريع والعدد المحدود من الموظفين، كان يصاب بالذهول.
ما الذي نستنتجه اليوم من فلسفة سابك، وإدارة الدكتور غازي القصيبي لها كرئيس لمجلس الإدارة في وقت توليه منصب وزارة الصناعة؟ يتضح أمامنا أن المشكلة التي وضع القصيبي حلاً لها عام 1976 في شركة سابك، والتي هي البطالة المقنعة والترهل في المؤسسات الحكومية، هي ذاتها المشكلة المستعصية التي تحاول الدول العربية وعلى رأسها دول الخليج حلها اليوم. فاليوم، تسعى دول الخليج وتتمنى أن تجد طريقة تعيد فيها هيكلة التوظيف في مؤسساتها الحكومية، بحيث لا ينظر إليها الشباب من المواطنين كمكان للراحة والرواتب العالية، بل يجب أن يشعروا بأنها مكان للعمل الجاد، وأن الدخول إليها صعب، ولكنك إن دخلت وأثبتّ جديتك فستغريك بالبقاء.
كما نستنتج أن الاعتماد على النوعية بدل الكمية في التوظيف ضمن المؤسسات الحكومية، هو أمر طبقه القصيبي في السبعينيات، وهذا قرار جريء خلال تلك الفترة وخاصة في الدول العربية، ومازال إلى اليوم قراراً صعباً على بعض الحكومات.
الاستنتاج الأخير الذي أقدّمه من قراءتي لتجربة القصيبي مع سابك في مجال التوظيف، بأن الذريعة التي يتخذها بعض المسؤولين الحكوميين -بأنهم يطبقون التوجهات العامة للحكومة، وبأن الوزير أو رئيس مجلس الإدارة في المؤسسة الحكومية لا حول له ولا قوة- غير دقيقة، فقد كانت قرارات القصيبي تنبع من قناعاته وخبرته، وعلى الرغم من أنه دفع ثمن بعضها عبر موجة من الكراهية طالته من متضررين ومنافسين وبعض وسائل الإعلام، لكنه كان شخصاً صاحب رؤية وعزيمة.
وفي الختام، قد يشكك بعضنا في مصدر هذه الأفكار والعزيمة، وربما يعزونها لدور المستشارين والخبراء الأجانب في سابك. والجواب عن هذا التشكيك، هو أن القرار الأول الذي اتخذه القصيبي، كما يقول، في سابك عندما تولى مجلس إدارتها، هو أن تكون القرارات محصورة بيد الشباب السعودي العامل في سابك، وليس بيد الخبراء والمستشارين، لدرجة أن المهندس السعودي الذي يشرف على مشروع ما، كان لكلمته وزن لا يقل عن وزن كلمة الوزير حسب تعبيره.