تشهد معدلات الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة والعالم ارتفاعاً ملحوظاً. وتشير جميع أنماط التصويت واستطلاعات الرأي والنقاشات على تويتر إلى أننا نتفق الآن على مسائل أقل ونحب بعضنا الآخر أقل وأقل. كشفت دراسة، أجريت عام 2015، أنّ الأميركيين كانوا أكثر شعوراً بالراحة إزاء زواج أبنائهم من أسرة من عرق آخر مختلف مقارنة بحزب آخر مختلف. وعلاوة على ذلك، فقد أصبح السياسيون الأميركيون من الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية أكثر استقطاباً في طريقة تصويتهم وكيفية حديثهم في ساحة الكونغرس، ما أدى إلى نسبة أقل من التسويات ونسبة أعلى من النزاعات التي يتعذر تجاوزها. فما هي أهمية التنوع السياسي في العمل حول العالم؟
أصبحت الأيديولوجيا السياسية بمثابة مشكلة تتفاقم في مختلف الفرق والمؤسسات التي لا بد أنّ يتنافس فيها المدراء اليوم، ولكن النتائج التي توصلت إليها الأبحاث تشير إلى أننا نميل إلى عدم التعامل مع هذه الانقسامات أيضاً.
اقرأ أيضاً: أربعة أنواع من القادة يرسمون المستقبل
ومع ذلك، فقد وجدت أبحاث العلوم الاجتماعية، التي أجريت على مدى عقود من الزمان، أنّ وجود وجهات نظر مختلفة يعود بالفائدة على المستوى الإبداعي لدى الشركات والفِرق. وتُمكّن وجهات النظر المختلفة المجموعات من البحث في فضاء أوسع من الحلول لمشاكلها، حتى إذا كانت تلك العملية الإبداعية شاقة وغير مريحة. في المرحلة التي سبقت بحثنا، درسنا ملايين عمليات الشراء المشتركة للكتب عبر الإنترنت، ووجدنا أنّ اليمينيين واليساريين من السياسيين، الذين اشتروا كتب المحافظين في مقابل الذين اشتروا الكتب الليبراليين، اشتروا كتباً متباينة تماماً في مجالي العلوم والأدب. وهذا ما قد يجعل الحوار بين النظم السياسية المختلفة أكثر صعوبة، لأنّ الحديث لم يجذب "الحقائق" نفسها، ولكنه زاد أيضاً احتمال أنّ تفتح الحوارات السياسية الباب أمام وجهات نظر متعددة حول المزيد والمزيد من القضايا.
في بحثنا، الذي نُشر مؤخراً في مجلة طبيعة السلوك البشري (Nature Human Behaviour)، حاولنا استكشاف ما إذا كان بالإمكان تحقيق فوائد التعددية المحتملة بشكل عملي. وللقيام بهذا، توجهنا إلى بيئة مهمة على نحو خاص، تتعاون فيها الفرق على صناعة منتجات معرفية جماعية يستهلكها المليارات حول العالم: ويكيبيديا، الموسوعة الرقمية التي يبنيها الجمهور. يقف خلف كل مقالة منشورة على موقع ويكيبيديا، كل منتج معرفي، فريق من المحررين المتطوعين الذين كتبوها، وغالباً ما يتم ذلك بجهود فردية جبارة وتنسيق جماعي. عندما يكتب المحررون المقالات عن مواضيع خلافية بشكل خاص، مثل الإجهاض أو قوانين الحد الأدنى للأجور أو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هل تزيد التعددية السياسية فعاليتهم أم تخفضها في إنشاء معالجات متوازنة عالية الجودة؟ وإضافة إلى ذلك، كيف يؤثر الاستقطاب على توافقهم الجماعي حول المحتوى الذي يتعين تضمينه أو حذفه، وكيف يتعين صياغة ذلك؟
أولاً، قدّرنا الانتماءات الحزبية لأكثر من 600,000 مساهم في ويكيبيديا من خلال كثافة مساهمتهم بمقالات ليبرالية بالمقارنة مع المقالات المحافظة. وافترضنا أنّ المحررين الذين يساهمون باستمرار في صفحات مرتبطة بالليبرالية الأميركية سيحملون أفكاراً ذات ميول يسارية، والعكس صحيح. كانت هذه فرضية مثيرة للجدل، وشعر كثيرون في مجتمع ويكيبيديا أنّ العكس قد يكون صحيحاً، لأن ما يحدث أن الليبراليين يُصحّحون صفحات المحافظين، ويرد المحافظون لهم الجميل. ومع ذلك، وجدت استبانة، أجريناها لمحرري ويكيبيديا النشطين، أّنّ الملايين من مساهمات المحررين في الصفحات الليبرالية في مقابل الصفحات المحافظة كانت عامل تنبؤ يُعتد بە إحصائياً عما إذا كانوا ليبراليين أو محافظين وكيفية تصويتهم.
أهمية التنوع السياسي في العمل
وعلى إثر هذا التحقق، قسنا التعددية أو الاستقطاب السياسي لكل فريق من المحررين الذين يقفون خلف 232,000 صفحة مختلفة على موقع ويكيبيديا، باعتبار أنّ مجموعات المحررين ذات النطاق الواسع من الانحياز الأيديولوجي أكثر "استقطاباً". عندما استُخدم مقياس الاستقطاب هذا للتنبؤ بالتقييمات الداخلية لجودة مقالات ويكيبيديا (التي تتراوح بين "بذرة مقالة" إلى "مقالة مختارة")، وجدنا أنّ ارتفاع الاستقطاب السياسي للفريق كان يرتبط بشدة بجودة أعلى للصفحة، تتفوق إلى حد كبير على جودة فرق المحررين المنحازين أو الحياديين أو المعتدلين من الحجم نفسه. وكان ذلك صحيحاً بشكل خاص بالنسبة للمقالات السياسية، ولكن أيضاً بالنسبة للمقالات عن القضايا الاجتماعية والعلوم.
اقرأ أيضاً: "كيمياء" الفريق هي علم المستقبل
ولفهم الدوافع خلف هذه الزيادة في الاستقطاب، حللنا مناقشة الفريق لمقالة "صفحات النقاش"، إذ يتحاور المحررون حول ما يتعين تضمينه وكيف يتعين كتابة المقالة. بالنسبة للمواضيع الشهيرة، تبدو هذه النقاشات كنصوص من مؤتمر أكاديمي أو اجتماع لتطوير المنتجات بالغ الأهمية. وبتحليل محتوى هذه النقاشات، وجدنا أنّ الفرق المستقطبة تُشارك في نقاشات أكثر، ولكن بنزاع مسموم أقل من الفرق غير المتوازنة أيديولوجياً، إذ أسفرت جهود المحررين الوحيدين العنيدين في كتابة مقالات "تزيل الانحياز" أحياناً عن خلافات مشحونة. وعلاوة على ذلك، ركزت الفرق المستقطبة على محتوى مماثل لمحتوى المعتدلين، ولكنها ناقشتها بكلمات أكثر بكثير، وبطرق كثيرة مختلفة. وأخيراً، عادة ما نادت الفرق المستقطبة بالالتزام بمعايير ويكيبيديا المدمجة في السياسات والتعليمات الثابتة، مثل أنه يتعين على المقالات أن تُظهر وجهة نظر محايدة، وأن تشير إلى موارد محترمة للدعم، وأن تتجنب تضارب المصالح أو تكشفه. واجه التمسك بهذه المعايير العواطف الفجّة وإساءة الاستخدام الموجودة لدى الكثير من المجتمعات الإلكترونية الأقل تنظيماً. وفي استطلاع آراء المحررين المشاركين في فرق مستقطبة، وصف المحررون العمل الشاق والطويل الذي أدى إلى منتجات متفوقة.
هذه النتائج مذهلة. عادة ما يعتبر الاستقطاب السياسي سلبياً، ولكننا نكشف أنه إذا كان بالإمكان إطلاق العنان لقوة وجهات النظر المتنوعة والمستقطبة، فبوسعها أن تؤثر إيجاباً على إنتاجية الجودة. وفيما يتجاوز توثيق "إثبات المفهوم"، من الصعب فهم سبب نجاح ويكيبيديا في مكان فشلت فيه الكثير من المنصات الأخرى. وهذا يرجع جزئياً إلى أنّ ويكيبيديا تمتلك احتكاراً موسوعياً، وإذا أراد الأشخاص صوتاً على الويب، فهم بحاجة إلى العمل معاً. ولكن الأنماط الأخرى واضحة أيضاً.
يشير النداء المتكرر لتطبيق تعليمات ويكيبيديا وسياساتها في أوساط الفرق المستقطبة، والتي قد يؤدي انتهاكها إلى قمع تحريري على مستوى المشاركة، إلى أنّ المراقبة والبيروقراطية المتزايدة قد تكون مفيدة. في مجتمع أو بيئة إعلامية لا تحكمها القوانين، أو مع معايير ضعيفة أو مُخفّفة، فإنّ الزيادة المحتملة في أن تتحول تلك البيئة إلى بيئة مسمومة، مع محادثات أقصر، وتعاون أقل، تؤدي إلى جودة أقل. والطريقة الثانية التي تتميز بها ويكيبيديا تتمثل في التزامها الشهير بالمناقشة وتوافق الآراء، وهو التزام يحظى بدعاية واسعة. وقد تستدعي الإشارة القوية إلى مثل هذه الرسالة مسبقاً حالة من الاختيار الذاتي لدى الأفراد المستعدين للتعاون من أجل تحقيق المصلحة العامة. لا تنتج تعليمات ويكيبيديا وسياساتها مقالات عالية الجودة فحسب، بل ثقافة تعاونية مستدامة. التعليمات والسياسات ليست ببساطة قوانين تتعلق بما يمكن أن يُكتب، بل تشكل ثقافة من خلال تحديد سلوك اجتماعي ملائم، مثل كيفية تعامل المحررين لبعضهم البعض في الحوارات في صفحات النقاش، وحتى أننا كباحثين علينا التفاعل مع المجتمع، تطلب ذلك جهوداً جبارة لكسب الحق في عقد هذه الدراسة، كان علينا أن نصبح أعضاء في المجتمع كي نفهم المجتمع، ولكن عناصر الحماية هذه حافظت على مساحة أطلقت العنان لقوة التعددية.
اقرأ أيضاً: هل يغالي فريق عملك في التنسيق؟ أم أنه لا ينسق بما يكفي؟
وربما تمثل أعظم الدروس التي تعلمناها من عملنا في وجهة نظر جديدة حول الانحياز. على المستوى الشخصي، الانحياز غير مرغوب بشكل عام، فهو يؤدي إلى استثمارات سيئة واستنتاجات خاطئة، ولكن الانحياز قد تتسبب فيه العاطفة أحياناً، ما يؤدي إلى قيام من نعتبرهم منحازين بالعمل لمدة أطول وبجد من أجل شيء يؤمنون به. كما يمكّن الانحياز من الوصول إلى معلومات مفيدة ووجهات نظر تكونت بشكل عميق داخل الغرف الأيديولوجية. وعلى المستوى الجماعي، يمكن للفرق التي تضم مزيجاً من الانحياز، والمستعدة للمشاركة والتعاون، أن تحقق أداء فائقاً. ويكشف هذا عن "الجانب المشرق" لموضوع التنوع السياسي في العمل وللتعددية السياسية والاختلاف في هذه الأوقات المستقطبة. وحتى لو نشأ الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة وحول العالم، إذا أدركنا أنّ الجانب الآخر لديه شيء ما يستحق أن يُقال، تصبح المناقشات أذكى من المساهمين.
اقرأ أيضاً: هل تحاول الاستعانة بفرق صغيرة لحل مشاكل شركتك الاستراتيجية؟