هل يمكن أن يكون الفساد والبيروقراطية فرصة لرواد الأعمال والمبتكرين؟

4 دقيقة
الحملات
shutterstock.com/StockTom

إذا كنت تشعر بالصدمة من عنوان المقال، دعني أصدمك أكثر، وأضع لك عنوان فصل من آخر كتاب للعالم البروفيسور في جامعة هارفارد كلايتون كريستنسن؛ كان عنوان الفصل: "الفساد ليس المشكلة، إنه الحل". أعلم أن هذا العنوان مستفز أكثر، ولكن ما رأيكم لو حدثتكم بالتفصيل عن هذه الفكرة، والتي شكلت نظرية جديدة طرحها كريستنسن في كتاب ساهم بتأليفه مع باحثين آخرين حمل عنوان "إشكالية الازدهار". تجيب هذه النظرية عن السؤال الذي نطرحه يومياً عندما نرى الفساد متجذراً والبيروقراطية متأصلة، وخاصة في بلداننا النامية، والسؤال هو: هل أنتظر الحملات المزعومة لمكافحة الفساد والإصلاح الإداري التي تقدمها الحكومات؟ أم أن هنالك طريقة أخرى تبدأ بالإصلاح خارج الجهاز الحكومي؟

الجواب يطرحه هذا العالم الذي هو بالمناسبة صاحب نظرية "الابتكار المزعزع" (Disruptive Innovation) التي يتبناها العالم حالياً، ولا سيما في قطاع الشركات الناشئة والابتكار؛ يذكر كريستنسن وشركاؤه في الأبحاث التي ضمّنوها في الكتاب، أن انتظار الحكومات حتى تقوم بمكافحة الفساد هو ببساطة رهان خاسر، لأن بعض الحكومات لن تستطيع ذلك حتى لو أرادت. وبهذه المناسبة، هنالك عبارة تكررها "منظمة الشفافية الدولية" تقريباً كل عام عندما تصدر الترتيب السنوي لدول العالم حسب الشفافية، وهي العبارة التي يمكنكم أن تجدوها فعلاً في آخر تقرير، ومفادها أن "نصف دول العالم تقريباً مازالت في حالة ركود، ولم تتقدم في الشفافية ومكافحة الفساد منذ نحو عشر سنوات". كما يذكر البنك الدولي في ورقة بحثية نشرها في عام 2017، أن حوالي 60% من دول العالم لم تحقق نتائج في الإصلاح الإداري والاقتصادي رغم المحاولات.

يمكنك أن تنتظر إلى ما لانهاية، ويمكنك أن تجادل بلا توقف عن أيهما يأتي قبلاً؛ هل هي البيضة أم الدجاجة؟ ولكن بإمكانك أن تؤمن بأن الفساد والبيروقراطية، مشكلتان لهما جذور اقتصادية، ويمكن أن تحلهما الشركات الناشئة المبتكرة. وهو الأمر الذي بدأنا نشعر به من حولنا، وإليك بعض الأمثلة؛

هل لديك خدمة بريد حكومية سيئة؟ حسناً، فقد ظهرت وبدأت تظهر شركات ناشئة مثل "أرامكس"، وشركات التوصيل الأخرى في مختلف الدول العربية لتزعزع هذا القطاع الحكومي، وتخلق خدمة بريد محترمة.

هل لديك نظام مصرفي بليد وتقليدي جعل أكثر من نصف سكان المنطقة العربية خارج أنظمة البنوك؟ حسناً، لقد جاءتك شركات التكنولوجيا المالية "فنتك" لتملأ الفراغ، ولذا فقد بدأتم ترون التطبيقات الجديدة تدخل إلى كل بيت، وتقدم خدمات إلى القرى والأرياف التي بقيت مهملة لسنوات طويلة جراء البيروقراطية الحكومية وربما الفساد.

وإذا كنت تعاني من قطاع النقل الحكومي البالي، ونظام تاكسي الأجرة الذي عجزت الحكومات عن تنظيمه، والذي شكّل ظاهرة منفرة في معظم دولنا العربية. حسناً جاءتكم شركات النقل الناشئة مثل "كريم" و"أوبر" و"سويفل" وغيرها، ليس لتنظّم هذا القطاع وتعيد له احترامه فقط، بل ولتنظم أخلاق السائقين الذين باتت تقييماتهم من قبل الركاب جزءاً من نظام إصلاح الفساد الأخلاقي الذي كان ينتج عنه ربما جرائم من قبل بعض السائقين، أو إساءة لسمعة السياحة في بعض البلدان، وغيرها من التداعيات.

هذه الطريقة في الإصلاح هي الأكثر جدوى أمام العجز الحكومي، وهي الطريقة التي يسميها البنك الدولي طريقة "The Best Practice"، أي التغيير عبر تطبيق أفضل الممارسات. ويمكنكم أن ترسموا خريطة للتطبيقات التي قدمتها الشركات الناشئة لإصلاح الفوضى والفساد في بلدانها، وتلاحظوا التطبيقات التي بدأت توظف في كل بلد تقريباً أصحاب المهن من سباك ونجار وكهربائي وغيرها، وتقدم لهم أعمالاً مستمرة، وتقييمات تجعلهم يلتزمون بوعودهم وإنجازاتهم بدقة، كتلك التجربة الشهيرة في الأرجنتين والتي تحولت إلى حالة دراسية أكاديمية، وذلك عبر شركة اسمها "IguanaFix"، حيث تجري اليوم أبحاث عن التأثير الذي أحدثته هذه الشركة في نقل المهنيين في الأرجنتين من العمل في السوق غير النظامية إلى السوق المنظمة، وجعلتهم يحصلون على التأمين الصحي ويدفعون الضرائب، ويلتزمون بجودة الأعمال والأخلاق في التعامل. لقد ساهمت هذه الشركة في إصلاح جزء كبير من الفساد في المجتمع، وخفضت مستوى الجريمة.

ويمكننا أن نجمع قطع الأحجية، ونرى كيف ساهمت شركات ناشئة عديدة في منطقتنا ومازالت تساهم في إصلاح ما عجزت عنه الحكومات، وهذا ما يسميه كريستنسن "Market Creation Innovations" أي الابتكارات المنشئة للأسواق. وهذه الابتكارات لا تكتفي بعمل "بزنس" أو عمل تجاري، بل تغير البيئة المحيطة بها. وإذا بحثت منذ بداية الثورة الصناعية، ستجد بأن التكنولوجيا هي التي أصبحت تقود التغيير في الدول والمجتمعات وليس الحكومات، وستجد أن هنري فورد على سبيل المثال لم يكتف بصناعة أول سيارة، بل طور معها شبكة الطرق بنفسه لكي تسير عليها السيارات. وفي اسكتلندا على سبيل المثال هنالك محطة قطارات تحمل اسم "سنجر" حتى اليوم، وهي المحطة التي أسستها شركة سنجر لماكينات الخياطة عام 1907 لتنقل عبرها بضائعها لأماكن أخرى. واليوم أيضاً يعزى لشركة (تاتا) التقنية في الهند والتي لديها 400 ألف موظف، أنها ساهمت في تطوير التعليم في الهند من خلال التأثير الذي أحدثته، وجعلت الحكومة وباقي المؤسسات تقارن بين مستواها التعليمي ومستوى موظفي تاتا الذين تدربوا في أكاديميتها الخاصة. وفي نيجيريا، جرت دراسات في جامعات عالمية عن شركة دخلت نيجريا عام 1988، في هذا البلد الذي يعاني حوالي 78% من سكانه الفقر ونقص التغذية، حتى جاءت هذه الشركة الأندونسية التي تدعى "تولارام"، وبدأت بإنتاج غذاء رخيص ومغذٍ يسمى معكرونة "أندومي" لأنهم كانوا يخلطونه مع البيض. ويمكنكم الاطلاع على دراسات عالمية ومنها كتاب "إشكالية الازدهار" لكي تعلموا كيف غيرت هذه الشركة تاريخ وحاضر نيجيريا عبر التأثير الممتد الذي أحدثته في هذا البلد الذي كان يعاني من حكم عسكري وفقر وجوع وفساد. والنتائج كانت مدهشة؛ فقد توسعت الشركة لتؤسس 13 مصنعاً لمعكرونة أندومي، ووظفت نحو 42 ألف موظف، و2,500 موزع و290 سوبر ماركت للبيع في الأسواق، وقد كانت بحاجة لتأمين البنية التحتية واللوجستية لأعمالها، فلم تنتظر الحكومة، بل بنت الطرق ووصلت الكهرباء للعديد من القرى والمدن، وأنشأت محطات تحلية للمياه، وأنشأت مراكز تعليم وتدريب، وساهمت بذلك في إحداث نقلة نوعية للمجتمع والدولة.

دعونا نتأمل؛ لو لم تأت الشركات الناشئة وأصحاب الابتكارات من رواد الأعمال، كم كنا سننتظر حتى تقدم الحكومات خدماتها إلكترونياً؟ لقد تحركت الحكومات بفعل طريقة "أفضل الممارسات"، والمقارنة التي باتت تحدث في أذهان العملاء من المواطنين بين القطاع الخاص والعام.

ولولا الشركات الناشئة ورواد الأعمال المبتكرون، كم كنا سننتظر حتى يبدأ استخدام الدفع الإلكتروني على نطاق واسع؟ ولولا رواد الأعمال من كان سيغير العقليات الحكومية المتحجرة؟ ومن سيقنعها بإصدار تشريعات تقبل نموذج عمل أوبر وكريم وأير بي إن بي وغيرها، والتي ظهرت وبقيت تعمل بلا قوانين في معظم دول العالم حتى فرضت نفسها من القاعدة إلى القمة؟ عندما تقدم ابتكارات الشركات الناشئة حلولاً لمشكلات الناس، فإنها ستفرض نفسها ولو كره البيروقراطيون. وهذا ما ستجدونه في العملات المشفرة وغيرها من التقنيات القادمة التي مازالت بعض الحكومات مترددة في قبولها وتشريعها.

قبل ثلاثة أعوام تقريباً، كان الباحث في جامعة هارفارد إيفوسا أوجومو يلقي محاضرة عن الكتاب الذي ساهم بتأليفه مع كلايتون كريستنسن، وكان الكتاب قد صدر حديثاً آنذاك. فقام أحد الحضور غاضباً ليسأله: "هل تشجعون على الفساد؟ كيف تقولون في هذا الكتاب إن الفساد فرصة، وليس هو المشكلة"؟ أذكر يومها وقد كنت حاضراً هذه الجلسة، أن إيفوسا وهو من أصل نيجيري، كان قد ابتسم، وأجاب بأن عنوان الفصل في الكتاب والذي هو "Corruption is Not the Problem; It’s a Solution" يعكس كيف يرى المبتكرون مشكلة الفساد المتجذر، وأنك في هذه الحالة أمام خيارين؛ فإما أن تنتظر معجزة ما لتحله، أو تطبق ما طبقته تجارب عالمية غيرت المجتمعات والدول، وهي قصص حصلت وتحصل كل يوم من خلال رواد الأعمال الذين يغيرون مجتمعاتهم، وحتى حكوماتهم بقوة التكنولوجيا والابتكار.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي