البقاء في القمة أصعب من الوصول إليها، وفي عالم الأعمال، يصعب على الشركات الحفاظ على نجاحها؛ فكل شركة ناجحة نعرفها اليوم حلت محل شركة كانت ناجحة فيما مضى. كيف يمكن تجنب فخ الركود والتراجع الذي يبدو حتمياً، والحفاظ على مكانة الشركة الرائدة واستمرار نموها وازدهارها؟
في الوقت الحاضر، تشهد بيئة الأعمال تغيرات مستمرة وتحديات متزايدة، لذلك تجب على قادة الشركات الكبيرة إدارتها بفعالية وإعادة ابتكارها في آن معاً. يتطلب ذلك اتباع أساليب مختلفة لوضع الاستراتيجيات وتنفيذها في مجالات العمل المختلفة، فضلاً عن الاستمرار بإعادة التوازن بين استغلال النجاح الحالي (توليد الأموال لدعم النمو المستقبلي) واستكشاف الفرص الجديدة (اكتشاف منتجات ونماذج رابحة). نطلق نحن وغيرنا الكثير على هذه القدرة التي يصعب تحقيقها اسم "البراعة التنظيمية" (ambidexterity)، وقلة من الشركات قادرة على تحقيق هذه الميزة، إذ يصعب على غالبيتها الحفاظ على التوازن بين استغلال النجاح الحالي واستكشاف الفرص الجديدة. هذه المشكلة خطيرة، إذ تؤدي إلى فشل الشركة وزوالها، وهو ما نشهده اليوم بمعدلات غير مسبوقة.
يُظهر بحثنا أن الشركات الأميركية تواجه صعوبات أكثر من أي وقت مضى في الحفاظ على هذا التوازن، لا سيما في الاستمرار بالاستكشاف في أثناء نموها ونضجها. يمكن قياس ذلك من خلال تحليل تأثير القيمة الحالية لخيارات النمو المستقبلية (PVGO) للشركات المدرجة على مؤشر إس آند بي 500 (S&P 500) في أسعار أسهمها، مقارنة بالتدفقات النقدية الحالية. في السنوات العشر الماضية، انخفضت درجة استكشاف الشركات للفرص الجديدة بنسبة 7%، وانخفضت في الشركات الأكبر حجماً بنسبة 10%. ينطبق هذا الأمر بالتحديد على الشركات القديمة. بعبارة أخرى: لا ينطبق هذا الأمر على شركتي أمازون وجوجل، لكنه ينطبق على شركة آي بي إم وحتى شركة آبل مؤخراً. يمثل هذا الانخفاض الإجمالي خسارة هائلة في قيمة الخيارات المستقبلية. يقدر المستثمرون أن قيمة خيارات النمو المستقبلية لهذه الشركات أقل بمقدار تريليون دولار، وهو انخفاض كبير جداً.
يرحب بعض المستثمرين بهذا التوجه الذي يركز على استغلال النجاح الحالي بدلاً من استكشاف الفرص الجديدة؛ إذ يقدرون العائدات القصيرة الأجل التي يمكن توقعها من خلال خفض التكاليف والاستثمارات وزيادة الأرباح وإعادة شراء الأسهم. بالإضافة إلى ذلك، ربما يشعر المدراء، الذين يركزون على تحقيق العائدات الإجمالية الفورية للمساهمين، بالرضا عن الأداء المرتفع. يوضح الرسم البياني أدناه مسار الاستغلال المفرط للنجاح وتأثيراته.
تفرط الشركات التي تقع في هذا الفخ في استغلال نماذج أعمالها الحالية وتفشل في تجديد خيارات النمو المستقبلية أو توسيعها. لذلك، ينجم عن هذا الأمر عواقب طويلة المدى؛ إذ يكون أداء هذه الشركات التي تستغل نجاحها الحالي ضعيفاً مقارنة بنظرائها الذين يعتمدون على استكشاف الفرص الجديدة. هذا الاختلاف كبير جداً: تنمو الشركات التي تعتمد على الاستكشاف بسرعة أكبر، وتسجل نمواً في المبيعات أعلى بنسبة 5.7% (يشمل ذلك عمليات الدمج والاستحواذ) وتحقق أيضاً عائدات إجمالية أعلى للمساهمين على المدى الطويل تصل إلى 2.4% سنوياً، على مدى 10 سنوات.
لا تقع الشركات جميعها في هذا الفخ، ويجب على الشركات الناشئة تحقيق توازن بين استكشاف الفرص الجديدة واستغلال النجاح الحالي من أجل البقاء والازدهار. يتمكن بعض الشركات من الحفاظ على هذا النهج المزدوج في أثناء نموها، وشركتا أمازون وجوجل من الأمثلة المهمة للشركات المعروفة بدافعها الاستكشافي المستمر، مع التركيز على الكفاءة التشغيلية والتميز التجاري.
هذه الشركات نادرة للأسف؛ إذ تتبع غالبية الشركات مساراً يقودها نحو تقليل الاستكشاف ويعرّضها لخطر الوقوع في فخ النجاح. لماذا تقع الشركات الكبيرة التي تملك تاريخاً حافلاً بالنجاحات في هذا الفخ؟ تكمن المفارقة في أن اتباع هذا النهج يبدو في كثير من الأحيان الخيار الصحيح، فتحسين النماذج القائمة والناجحة يوفر مكاسب فورية أعلى بمخاطر أقل. يرتكب ثلث الشركات هذا الخطأ كل 5 سنوات، وينجم عنه انخفاضاً في النمو يعرّض مستقبل الشركة للخطر. وبعد مرور بضع سنوات، يؤدي انخفاض النمو إلى انخفاض عدد التفاعلات مع مجموعات العملاء الجدد ذات المتطلبات المختلفة، وبالتالي ينخفض الحافز للابتكار؛ وفي نهاية المطاف تصبح الشركة غير قادرة على تلبية متطلبات السوق المتغيرة. في تلك المرحلة، غالباً يكون تصحيح المسار صعباً للغاية. بمجرد وقوع الشركة في هذا الفخ، يصعب عليها الخروج منه؛ إذ تفشل نسبة 70% من الشركات في تجاوزه والعودة إلى مسار الاستكشاف والنمو في غضون 5 سنوات.
ما الخطوات التي يجب على الشركات اتخاذها لتجنب الإفراط في استغلال نجاحها الحالي وعدم استكشاف آفاق جديدة للنمو؟ ثمة 5 خطوات مفيدة:
- اعتماد النهج الصحيح لوضع الاستراتيجيات وتنفيذها في كل مجال من مجالات الأعمال. تحتاج استراتيجيتك إلى استراتيجية. يتعين على الشركات تطبيق النهج الصحيح لوضع الاستراتيجيات وتنفيذها في كل مجال من مجالات أعمالها. وهذا يعني بالنسبة للعديد من الشركات توسيع أساليبها في وضع الاستراتيجية بما يتجاوز النهج التقليدي الذي يعتمد على تأمين مكانة متميزة ومستدامة في السوق من خلال القيادة بالفعالية من حيث التكلفة أو التمايز. لكن الكلام أسهل من التنفيذ، وكي تنجح الشركات في تنفيذ استراتيجياتها الفعالة في بيئات مرنة وغير متوقعة، عليها بناء قدرات جديدة تمكنها من التكيف مع التغيرات المفاجئة في البيئة، وتشكيل هذه البيئة لصالحها.
- تعزيز القدرة على التكيف.تتطلب البيئات غير المتوقعة القدرة على التكيف. يجب على الشركات الكبرى أن تقلل اعتمادها المفرط على التخطيط والتنبؤ والدقة، وتتعلم فن التجريب المنظم من خلال 3 خطوات: التنوع والاختيار والتعزيز. تُعد شركة تاتا للخدمات الاستشارية (Tata Consulting Services) التي تقدم خدمات تكنولوجيا المعلومات، مثالاً ممتازاً على الشركات الكبيرة التي تطبق نهجاً تكيفياً في استراتيجيتها.
- تنمية القدرة على تشكيل البيئة والتأثير فيها.يجب أن تساعد عملية التوسع والنمو على التأثير في البيئات المتغيرة والقابلة للتشكيل. نجحت شركة آبل في إبرام صفقات رائدة مع أكبر 5 شركات للتسجيلات في عام 2002، ما أسهم في تأسيس نموذج أعمالها الذي قلب القطاع رأساً على عقب بفضل قاعدة مستخدميها الكبيرة ومصداقيتها التكنولوجية. يجب على قادة الشركات الكبيرة إدراك الفوائد المحتملة لهذا التأثير واغتنامها لإعادة تشكيل قطاعاتهم وبيئات العمل التعاونية.
- تنمية البراعة التنظيمية.اتباع الأساليب الصحيحة في وضع الاستراتيجية ليس كافياً، وعلى الشركات الكبرى تحقيق توازن دائم بين الأساليب الاستراتيجية المختلفة في أعمالها، وعليها تحديداً أن تحافظ على نشاطها الاستكشافي بدءاً من إنشاء مقاييس وحوافز خاصة به. تدين شركة ثري إم (3M) بجزء من نجاحها الابتكاري إلى "مؤشر حيوية المنتج الجديد"، من المفيد أيضاً التوقف عن اتباع الطرق الموحدة في تقييم أداء الأعمال التجارية، (تدير شركة فايزر أكبر شركتين تابعتين لها بطريقتين مختلفتين، وتتبع في كل منهما نهجاً استراتيجياً مختلفاً وتكليفات وثقافات مؤسسية متنوعة).
ربما يكون من الصعب إدارة كل هذا التنوع في إطار الشركة نفسها. أدت عملية إعادة هيكلة شركة جوجل مؤخراً وتأسيس شركة ألفابت إلى فصل الأعمال الأساسية (خدمات البحث على الإنترنت) عن المشروعات الاستكشافية مثل مختبرات جوجل إكس (GoogleX). ذهبت شركة باي بال/ إيباي (PayPal/eBay) إلى أبعد من مجرد إعادة الهيكلة، وذلك من خلال تقسيم الشركة بأكملها.
في ظل بيئات الأعمال المعقدة والمتطورة باستمرار، ربما يكون من الضروري اتباع أساليب التنظيم الذاتي. تعتمد شركة علي بابا على فرق ذاتية القيادة لإعادة هيكلة أعمالها باستمرار وفقاً لظروف السوق من خلال جلسات التعاون المشترك مع العملاء، وساعدتها هذه العملية، بالإضافة إلى الاستقلالية الذاتية، على بناء مكانتها الرائدة في التجارة الإلكترونية الصينية.
- توضيح متطلبات الأساليب المختلفة لوضع الاستراتيجية والعلاقة فيما بينها.يؤدي القادة دوراً مهماً في عملية التحول إلى مؤسسة تتمتع بالبراعة التنظيمية. تميل المؤسسات بطبيعتها إلى التمسك بخططها الاستراتيجية الناجحة، لذلك، يجب على القادة التغلب على هذه النزعة من خلال الحفاظ على حالة من عدم الاستقرار المدروس لدعم الابتكار والتغيير. يمكن تحقيق ذلك من خلال بناء فريق قيادي يركز على نجاح المؤسسة بأكملها، بدلاً من التركيز على نجاح الأعمال الفردية. يتطلب ذلك أيضاً توضيح المتطلبات المتناقضة لاستكشاف الفرص الجديدة واستغلال النجاح الحالي. يقول الرئيس التنفيذي لشركة أيه آي جي (AIG)، بيتر هانكوك: "أسمع دائماً أنني أرسل رسائل مختلطة، لكن هذا جزء من طبيعة العمل القيادي!".
السعي للحفاظ على ازدهار الشركة ونموها تحدٍ كبير، ونحن لا ندّعي أننا وجدنا الإجابة النهائية في هذا المقال. على الرغم من ذلك، فالشركات التي تلتزم بهذه المبادئ ستتمكن على الأرجح من تجنب الاعتماد المفرط على النجاحات السابقة وتسعى باستمرار لتشكيل مستقبلها بفعالية.