في منتصف العام 2019 أعلنت ثلاث دول هي نيوزيلاندا وآيسلندا وسكوتلندا أنها شكلت تحالفاً يتمرد على الطريقة التقليدية التي تقيس بها البلدان نموها، حيث أقرت هذه البلدان أن موازناتها باتت تعتبر رفاهية شعوبها هي المقياس بدلاً من المقياس التقليدي "الناتج القومي الإجمالي". لم تعد هذه الدول الثلاث تعترف أن نسبة النمو هي المؤشر الصحيح لقياس تقدمها الاقتصادي، وهذا خلافاً لبقية دول العالم. بالنسبة لهذه الدول، النمو الاقتصادي المرتفع، يعني "رفاهية الشعوب" ومستقبلها، فإذا لم يواكبه استخدام للموارد المستدامة وحماية للبيئة، وانخفاض للأضرار الجانبية للنمو الاقتصادي فلا معنى له.
واليوم كذلك باتت بعض الشركات الكبرى تصحو من غفلتها، وتدرك أن الأهداف السنوية التي تقدسها وتسميها مؤشرات الأداء الأساسية "KPIs"، وتستند إلى أهداف كمية تسمى "Targets"، هي في الواقع وصفة خاطئة أدت إلى انحراف الشركات عن غاياتها وأهدافها التنموية، وخلقت ثقافة الاحتيال وعرضت المعايير الأخلاقية للاختلال في حالات كثيرة.
ولكن لماذا اختارت الدول والشركات عبر التاريخ الحديث قياس أدائها بالكم وليس بالكيف؟ رغم أن هذا السلوك يعزى عموماً إلى تفسير الكثيرين لفكرة "الربح" كمحرك اقتصادي والتي أطلقها أبو الاقتصاد الحديث آدم سميث، إلا أن هذا الفهم للربح كان قاصراً في الواقع. وبحسب الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل دانيال كانيمان فإن الجميع يعتمد القياس الكمي لأنه "الأسهل" في القياس. حيث تستطيع أن تحدد بسهولة رقم النمو ومؤشرات القياس حينما تحولها إلى أرقام وفقاً لمؤشرات يمكن قياسها، بينما يصعب أن تقيس الاستدامة وحماية البيئة والرفاه والسعادة.
وحينما نراجع الأزمات الاقتصادية أو الركود الاقتصادي عبر التاريخ، سنجد أنها حوادث هزت العالم وأودت بحياة الكثيرين أو حولتهم إلى ربقة الفقر. ورغم ذلك فقد كانت هذه الحوادث غير متوقعة، لماذا؟ لأن الأرقام كانت تشير إلى نمو اقتصادي صاعد، بينما كان الخلل الكامن في قلب هذه العملية غير مرئي للمحللين الاقتصاديين. ومازال الاقتصاديون يعتبرون أنه من الطبيعي أن يعقب النمو الاقتصادي المتصاعد ركود قاتل، لكنهم لايعرفون لماذا، بل إنهم يعتبرونه أمراً طبيعياً، ويعتقدون أن الاقتصاد سيصلح نفسه، إذ ستنتبه الدول والشركات إلى الخلل الذي أحدثه السعي المحموم نحو الأرقام، وتحاول تصحيح المسار، لكنها عملياً لا تفعل. ما الذي يجعل شركات كبرى مثل إنرون وبنك ويلز فارغو تتلاعب بالأرقام وتخرج بفضائح مدوية، وهي ذات الشبهة التي يجري فيها التحقيق حول ميزانيات عملاق الصناعة جنرال إلكتريك؟ وإذا استبعدنا احتمال وجود شبهات فساد حقيقية، فإن الجواب هو أن الجميع يشعر على الدوام بضغط من المستثمرين والمحللين وبيئة الأعمال بزيادة الأرقام.
يشعرنا كل ما يحيط بنا بدءاً من عدد الإعجابات على وسائل التواصل الاجتماعي إلى الأرقام التي يطالبنا بها مدراؤنا لتحقيق ما يسمى "التارغت"، أننا نعيش في عالم من الأرقام الكمية التي لا وقت لدينا للنظر في ترجمة تأثيرها على الإنسان. إنه فخ الأرقام الذي يجعل النجاح والسعادة سراباً نطارده على الدوام، ويعرضنا باستمرار لمتلازمة الأزمات.