تصاعدت الأزمة في فنزويلا على مدار السنوات القليلة الماضية مع تزايد حدة نقص المنتجات والاضطرابات الاجتماعية والخلافات السياسية. وفي أغسطس/آب عام 2017، شكَّل الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لجنة تأسيسية لإعادة صياغة دستور البلاد (ضد رغبة البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة والمنتخب ديموقراطياً)، ولاقى إدانة العديد من الدول في أميركا الجنوبية والاتحاد الأوروبي، التي رفضت الاعتراف بشرعية اللجنة الجديدة. وألمح الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه لا يستبعد إمكانية اللجوء لخيار عسكري في فنزويلا، وفرضت إدارته عقوبات اقتصادية على الدولة اللاتينية.
ومع ذلك، من غير المرجح أن تشغل أزمة فنزويلا اهتمامات المسؤولين التنفيذيين الإقليميين ومراكز الشركات في أميركا الجنوبية، على الأقل من وجهة نظر تجارية. ويعود السبب وراء ذلك إلى أن معظم الشركات متعددة الجنسيات هجرت السوق الفنزويلية بدءاً من العام 2015، وسط صعوبات متزايدة في إعادة الأرباح إلى الوطن، واستيراد المواد الخام والسلع تامة الصنع، والحصول على الأموال من الشركاء المحليين والحكومة الفنزويلية، ومؤخراً، بسبب المصادرات الكاملة للملكية ومصادرة المصانع. وجميعها مشكلات ناجمة عن الانخفاض المفاجئ في احتياطي الدولار الأميركي بالاقتصاد الفنزويلي منذ أن بدأت أسعار النفط في الانخفاض في أبريل/نيسان 2014.
يمثل النفط 96% من صادرات فنزويلا. كما يشكِّل المصدر الرئيسي لتدفقات الدولار الأميركي في البلاد. ومنذ عام 1958، لم تتمكن الحكومة الفنزويلية من تنويع الإنتاج، وربطت مستقبل البلاد بمكاسب النفط. علاوة على ذلك، أدى سوء إدارة شركة النفط الوطنية الفنزويلية "بي دي في إس أيه" (PDVSA) إلى تخفيضات إضافية في إنتاج النفط، مما أدى إلى انخفاض احتياطي النقد الأجنبي.
هجرة الشركات متعددة الجنسيات
استطلعت شركتنا، "فرونتير استراتيجي غروب" (Frontier Strategy Group)، آراء 20 مديراً عاماً في أميركا اللاتينية حول مساهمات فنزويلا في عائداتهم الإقليمية. حيث شكّلت فنزويلا 1% فقط من إجمالي العائدات. إنها ثاني أصغر سوق في أميركا اللاتينية، وهو اختلاف حاد مقارنةً بحالها منذ بضع سنوات قليلة فقط عندما كانت تتنافس مع أسواق مثل الأرجنتين وتشيلي وكولومبيا، باعتبارها ثالث أكبر سوق في المنطقة بعد البرازيل والمكسيك. يمكن تفسير جزء من هذا الهبوط بالانخفاض الحاد في قيمة البوليفار (عملة فنزويلا)، ولكنه يعكس في معظمه قرارات استباقية اتخذتها الشركات متعددة الجنسيات للخروج من السوق الفنزويلية.
اتخذت هجرة الشركات من فنزويلا أشكالاً مختلفة، بما في ذلك الخروج الكامل من جانب شركات مثل كلوركس، التي كانت واحدة من أولى الشركات التي أوقفت عملياتها في السوق عام 2014 (قبل أن تستولى عليها الحكومة الفنزويلية لاحقاً). وباعت شركات مثل "بريدجستون" (Bridgestone) أعمالها في فنزويلا لمجموعات صناعية محلية، و"جنرال ميلز" (General Mills) التي باعت أعمالها إلى مستثمرين من القطاع الخاص عام 2016. لكن هذا الخروج يشمل أيضاً الشركات التي خفضت عملياتها في فنزويلا بشكل كبير، والشركات التي استبعدت قيمة أعمالها في فنزويلا من نتائجها التجارية والمالية في أميركا اللاتينية. وتشمل أسباب ذلك انخفاض قيمة العملة الفنزويلية، مما أدى إلى خسائر بمليارات الدولارات الأميركية لشركات مثل بيبسي، والتدخل السياسي وضبط الأسعار، وتعطل سلاسل التوريد، وعدم القدرة على إعادة الأرباح إلى الوطن.
وبنهاية عام 2016، نشرت ما لا يقل عن 64 شركة من قائمة أكبر 500 شركة مالية أميركية حسب مؤشر "ستاندرد آند بورز" (S&P 500) - نحو 13% من إجمالي الشركات في القائمة - وثائق تنظيمية لإبلاغ المستثمرين بإمكانية التعرض لانخفاض قيمة الأصول أو شطب الديْن في ظل استمرار انخفاض قيمة البوليفار أمام الدولار. إذا نظرنا فقط إلى الشركات الأميركية، فإن قائمة الشركات التي خرجت من السوق الفنزويلية نهائياً، أو أوقفت الإنتاج مؤقتاً أو ألغت عملياتها في فنزويلا منذ عام 2014 تشمل شركات مثل "موندليز" (Mondelez) و"ليبرتي ميوتشوال" (Liberty Mutual) و"كولغيت" (Colgate) و"بروكتر آند غامبل" (Procter & Gamble) و"فورد" (Ford) و"كيمبرلي كلارك" (Kimberly Clark) وجنرال موتورز وكوكاكولا. بالإضافة إلى كلوركس وبريدجستون وبيبسي وجنرال ميلز المذكورة أعلاه، وشركات الطيران مثل "دلتا" (Delta) و"يونايتد" (United) و"أميركان" (American).
قادت الشركات الأميركية هجرة الشركات متعددة الجنسيات من فنزويلا. لكن من المرجح أن تحذو حذوها شركات من دول أخرى شريكة لفنزويلا في التجارة والاستثمار إذا لم تتحسن ظروف التشغيل في البلاد قريباً. تملك إسبانيا وحدها ما يُقدر بنحو خمسة مليارات يورو على المحك، من استثمارات تمت خلال الفترة من عام 1993 حتى عام 2017 من قبل 100 شركة مختلفة في قطاعات تتراوح من البنوك والتأمين، إلى الاتصالات والبناء، والنفط والغاز والطاقة المتجددة، والفنادق والملابس والأغذية والمشروبات. بعض هذه الشركات من الشركات متعددة الجنسيات الكبرى مثل شركة "ريبسول" (Repsol) للنفط و"مابفري" (Mapfre) للتأمين ومصرف "بي بي في أيه" (BBVA).
بعض الشركات مستعدة للمخاطرة
لا تزال شركات مثل "شيفرون" (Chevron) و"فاليرو إنيرجي" (Valero Energy) و"فيليبس 66" (Phillips 66) تراهن على السوق الفنزويلية لتحقيق أرباح طويلة الأجل. وتتمتع شركات الطاقة بظروف تشغيل أفضل، إذ تحاول الحكومة الفنزويلية حماية صناعتها الرئيسية، وترتبط هذه الشركات باستثمارات رأسمالية طويلة الأجل وأكبر حجماً، وهي بطبيعتها أقل عرضة لتأثير التحولات السياسية.
كذلك، تكتسب المنتجات المصنوعة محلياً حصة سوقية سريعاً نظراً لتراجع العملة المحلية وارتفاع كلفة السلع المستوردة. ويمتد هذا الاتجاه ليشمل جميع فئات المنتجات من المواد الغذائية إلى لوازم التنظيف. حيث تزدهر سلاسل المتاجر الصغيرة، مثل متجر "ديا ديا" (Día Día)، التي وجدت طريقة لزيادة المبيعات إلى الحد الأقصى من خلال الجمع بين ميزة قرب المسافة التي تتمتع بها المتاجر الصغيرة، وميزة الأسعار المنخفضة الموجودة في المتاجر الكبرى.
تراهن الشركات الصينية المملوكة للدولة أيضاً على الاستثمارات في فنزويلا، وخاصةً في قطاع التعدين. وعلى الرغم من إدراك الشركات الصينية تماماً للمخاطر الاقتصادية والتجارية المتأصلة في فنزويلا، ما زالت العديد من هذه الشركات تتلقى قروضاً بأسعار فائدة منخفضة من البنوك الصينية، وتتمتع بأفضلية الوصول إلى السوق والموارد مثل الصندوق الصيني الفنزويلي المشترك. كذلك تعكس الاستثمارات الصينية العلاقات الثنائية الودية بين البلدين، وحقيقة أن فنزويلا لا تزال مدينة للصين بقروض قيمتها 19 مليار دولار تُسدد بالنفط. وبالتالي، فإن الصينيين يملكون دافعاً للحفاظ على استقرار الاقتصاد الفنزويلي.
متى ينبغي للشركات متعددة الجنسيات أن تستأنف استثماراتها في فنزويلا؟
نظراً لكونها سوق جذابة ومربحة للشركات متعددة الجنسيات فيما مضى، ونظراً لمواردها الطبيعية الهائلة وتركيبتها السكانية المناسبة - من حيث عدد السكان من البالغين الشباب والمستويات العالية من التعليم العالي- نتوقع أن تستعيد فنزويلا قوتها في المستقبل.
ولكن بسبب الاختلالات العميقة الحالية في الاقتصاد الكلي والانشقاق الاجتماعي في فنزويلا، من المرجح أن تكون العودة إلى النمو طويلة وشاقة، وستتطلب إصلاحات هيكلية كبيرة في اقتصادها ونظامها السياسي ومعظم مؤسساتها الأساسية، التي كانت تعاني لسنوات من التدخل الحكومي المفرط منذ عام 2001 مع الرئيس الراحل هوغو تشافيز. ويعني ذلك أنه حتى لو افترضنا سيناريو إيجابي، فمن غير المرجح أن تكون هناك عودة إلى النمو حتى عام 2020 على الأقل.
إذن، متى سيكون الوقت المناسب للشركات لإعادة تخصيص الموارد لفنزويلا؟ ننصح عملاءنا بالنظر في السيناريوهات السياسية والاقتصادية المختلفة:
على سبيل المثال، إذا افترضنا سيناريو سلبي، يتشابه فيه وضع فنزويلا مع كوبا، كان يمكن للحكومة الحالية أن تقرر إلغاء الانتخابات الرئاسية التي أُقيمت في ديسمبر/كانون الأول 2018 إلى أجل غير مسمى والسيطرة على أنشطة القطاع الخاص بمساعدة الجيش. في هذه الحالة، كان من المرجح أن تحدث مواجهة مدنية يتبعها حصار تفرضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مما يجعل من المستحيل على الشركات الغربية متعددة الجنسيات أن تتاجر مع فنزويلا طالما استمر الحصار، ويتركها مع خيار وحيد وهو الخروج من السوق.
وفي سيناريو أقل تشاؤماً، ستجري حكومة الرئيس مادورو الانتخابات الرئاسية في 2018، فقط للسماح للمرشحين المختارين بعناية من صفوفها ومن المعارضة بالترشح للرئاسة. سيسعى الرئيس الجديد بعد ذلك لإجراء إصلاحات اقتصادية جزئية لاستعادة إمكانية الوصول إلى أسواق رأس المال - وخاصةً من خلال إجراء تعديلات على نظام سعر الصرف الأجنبي الحالي وضوابط الأسعار- لكنه سيتجنب اتخاذ الإجراءات الاقتصادية الشديدة اللازمة لكبح العجز المالي والتضخم، مثل التخفيض الحاد للإنفاق الحكومي. في هذه الحالة، سيكون هناك فرصة لحدوث الانتعاش الاقتصادي في عام 2020، ولكنه سيكون ضعيفاً، وستظل ظروف التشغيل صعبة بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات.
سيكون تمكين الوصول إلى الأسواق المحلية وفرق العلاقات الحكومية عاملاً أساسياً في هذا السيناريو لتشجيع الإصلاح وللتأكد من اهتمام الحكومة الفنزويلية بمصالح القطاع الخاص. ولن تكون الاستثمارات الكبيرة خطوة حكيمة حتى يظهِر الاقتصاد علامات الاستقرار على خلفية المزيد من الإصلاحات، أو إذا ارتفعت أسعار النفط العالمية بشكل غير متوقع.
وفي سيناريو إيجابي، ستسمح حكومة فنزويلا بإجراء انتخابات حرة، وستتبع الحكومة المؤلفة من المعارضة حزمة إصلاح اقتصادي أكثر صرامة. والتي قد تشمل إعادة هيكلة ديون فنزويلا الخارجية بمساعدة مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي. في هذه الحالة، سيزداد الركود الاقتصادي سوءاً على المدى القصير، ولكنها ستسمح بحدوث إصلاح أقوى في أوائل عام 2020 على خلفية انتعاش الاستثمار. في هذا السيناريو، ستُنصح الشركات متعددة الجنسيات باتباع نهج استباقي واستئناف الاستثمارات في أقرب وقت ممكن، مع التفاوض في الوقت نفسه مع الحكومة على المستحقات غير المسددة والأصول التي جرت مصادرتها.
تشير الأحداث الأخيرة إلى أن فنزويلا تميل تجاه السيناريو السلبي الأول أكثر من السيناريو الإيجابي الأخير. وينبغي للشركات أن تأمل في الأفضل وتستعد للأسوأ.