لكل واحد فينا "أنظمة إنتاجية" خاصة به نتجت عن جهد مقصود أو كبرت ونمت بداعي الحاجة. ويمكن تعريف نظام الإنتاجية بأنه مجموعة من السلوكيات التي تُعاد بانتظام وترتيب محدد، إضافة إلى الأدوات التي يستعان بها لتحقيق الأهداف المرجوة.
وكثيراً ما نسمع أحدهم يقول: "أنا لا أملك نظام إنتاجية، فهذا سيستغرق مني وقتاً كثيراً بوسعي استخدامه لقضاء مهامي". وهذا الكلام فيه خلط واضح بين مجرد النشاط والإنتاجية. فليس أسهل من أن تكون دائماً في "حالة عمل"، حيث تمثل "حالة العمل" نظاماً بحد ذاتها، لكنه نظام يرتكز على ردود الأفعال. فتصبح على الدوام مشغولاً من دون أي ضمان بأنك تسير في الاتجاه الصحيح لإنجاز أعمالك.
معظم عادات الإنتاجية هي وليدة الحاجة بغير تخطيط أو قصد، الأمر الذي يجعل تحقيق الإنجاز رهناً للصدف. وهذا ما وضع تحسين الإنتاجية في بؤرة الاهتمام. لكن التحدي الحقيقي يكمن في تغيير الأنظمة.
وبحسب خبرتنا في العمل مع زبائننا، فقد شهدنا العديد منهم يخفقون في الالتزام الدائم بنظام الإنتاجية الذي يحاولون تبنيه، على الرغم من الوقت والجهد المبذول في ممارسة السلوكيات المقترنة به. وهذا بدوره ألقى الضوء على عوامل ثلاثة وهي تمثل العوائق الأكثر شيوعاً في وجه إعادة تشكيل الالتزام طويل الأمد بأنظمة الإنتاجية، ما يعيق زبائننا عن بلوغ ما يطمحون إليه.
- على الرغم من معرفتهم بانعدام فاعلية النظام القديم، فإن قناعتهم راسخة حول ضرورة الالتزام ببعض العادات القديمة لتحقيق النجاح.
- غياب البيئة الداعمة لهم في السلوكيات الجديدة التي يحاولون صقلها أو الأدوات التي يحاولون استخدامها.
- تقودهم المستويات العالية من التوتر لمراجعة رأيهم في النظام الجديد، ما يؤدي إلى تدهور أدائهم تحت وطأة الضغط الذي يعانون منه.
الاعتقاد بفاعلية العادات القديمة
يوضح تشارلز دويغ، في كتابه "قوة العادة" (The Power of Habit)، أهمية الاعتقاد كعنصر فاعل في تحويل العادة إلى سلوك دائم. فعدم الاعتقاد بعادة ذات أهمية أو الاعتقاد بعادة أقل فاعلية لن يسهم إلا في تضليلنا عما ينفعنا.
على سبيل المثال، مرّ معظم الناس بفترات إنتاجية لا يتخللها مقاطعة، حيث شعروا بالإنجاز والرضا الكبير عن أنفسهم، وهذا ما تؤكده الدراسات حول قصر العمل ما أمكن على مهمة واحدة في أي وقت بصفته الأسلوب الأمثل والأكثر فاعلية. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن التقلب بين المهام، أو ممارسة أكثر من مهمة في وقت واحد يساعدنا في إنجاز أمور أكثر، كما أن ترك بريدنا الإلكتروني مفتوحاً طوال الوقت أمام ناظرينا يبدو أنه الطريقة المثلى في منع الرسائل من التراكم خلال اليوم، أما السماح للتنبيهات والتحذيرات بقرع أسماعنا بين الحين والآخر من الأدوات المحيطة بنا فيبدو أنها الطريقة الوحيدة لعدم تفويت أي موضوع مهم لنا. وعند النظر بتجرد، تبدو نتائج الدراسات المتعلقة بتركيز العمل في مهمة واحدة منطقية. لكننا عند النزول إلى الواقع العملي يغلب علينا تصور أن هذه الدراسات لا تنطبق علينا. فالاعتقاد المستمر بأهمية التقلب بين المهام – أو ضرورته على الأقل – هو اعتقاد راسخ يصعُب التغلب عليه.
تكمن أحد أسباب تلك العوائق الداخلية في نقص تقديرنا للإنجاز مقارنة بالتقدير الزائد الذي نوليه لأهمية مقاطعة أعمالنا بأمور أخرى جانبية من حين لآخر. وتأتي هنا قصة وائل (أحد المتدربين لدينا) كمثال نموذجي على ذلك، حيث يروي لنا أنه أغلق بريده الإلكتروني ذات مرة ليتمكن من إتمام مشروع مهم، ما جعله يغفل الرد الفوري على رسالة من مديره حول أحد الزبائن. وحين سألناه عما حصل، أخبرنا أن مديره حصل على الإجابة من زميله في العمل. سألناه إن واجه مشكلة مع مديره بسبب ذلك (فأجاب أنه لم يحدث)، وإذا ما استطاع إنهاء مشروعه المهم (وهو ما حصل فعلاً)، وإذا ما كان الانكباب على المشروع أكثر أهمية للعمل من الرد الفوري على مديره (وهو ما أكده وائل). لكن وائل أحس في نفسه وكأن زميله "تغلّب عليه" هذه المرة، ما يوحي إليك وكأن هناك سباقاً بينهما لتحديد الأسرع في الرد على البريد الإلكتروني، أو كما يرى وائل الموضوع بالنسبة إليه: "من كان الأكثر تجاوباً" مع رسائل المدير. حتى تأكيدُ مدير وائل بأن ما فعله كان الأصوب لم يكن كافياً لتغيير قناعة وائل حول هذا الأمر.
على الصعيد الفكري، فإن حجة الاقتصار على مهمة واحدة في أي وقت والدراسات المؤيدة لها متينة ومنطقية إلى أبعد حد. لكن الاعتقادات الراسخة والنظرات المناقضة لذلك تغُلّ من قدرتنا لنكون منتجين على الدوام.
البيئات غير الملائمة لتكوين العادات
في كتابه "التغيير الذكي" (Smart Change)، يناقش آرت ماركمان، السياق المادي والمعنوي الذي يحفز سلوكياتنا: عندما تعتاد سلوكاً معيناً، فإن هذا السلوك يغدو "جزءاً" من البيئة والظروف التي اعتدت ممارسته فيها. ورجوعاً إلى المثال السابق، يبرز لدينا سبب آخر يجعل التخلي عن التقلب بين المهام صعباً ألا وهو أننا أصبحنا نألف التشتت والالتهاء كجزء من بيئتنا التي نعايشها، سواء كان مصدره هواتفنا الذكية التي نحملها بأيدينا أو الحواسيب القابعة في مكاتبنا أو نظام المكاتب المفتوحة الذي صار نمطاً شائعاً في هذه الأيام. وصار الموظف العادي غارقاً في المشتِتات من رأسه إلى أخمص قدميه طوال يومه إلى درجة أصبح معها الحصول على فرصة للتركيز شيئاً مستغرَباً.
وبناءً على ذلك، يصعُب تغيير نظام إنتاجية من دون تغيير البيئة التي يعمل فيها، ويصح العكس أيضاً حيث يصعُب الحفاظ على فاعلية نظام قائم إذا ما تغيرت البيئة التي تحتضنه فجأة. على سبيل المثال، إذا تغيرت بيئة عملك من مكتب خاص إلى مكتب تشاركي مع غيرك من الموظفين، فستفاجأ بأن "ما اعتدته" من عمل لفترات طوال دون مقاطعة قد تم استبداله بـ "عادة" الدردشة مع زملائك المجاورين لك في المكعب.
كما يصعُب الحفاظ على نظام إنتاجية فاعل إن افتقدْتَ البيئة المنتظمة وفق نسقٍ معروف. فأيامُك ستكون مختلفة عن بعضها طوال الوقت. وافتقاد نظام مستقر يشكل مانعاً من تكوين ذلك الرابط بين البيئة والسلوك المرغوب مما يجعل ترسيخ العادات أكثر صعوبة مقارنة بتجاوزها أو تجاهل العمل بها. وفي هذه الحالة عليك النظر بعمق وتفصيل إلى روتين يومك ومحاولة رصد تلك الأمور التي تحصل معك أو تزاولها أنت باستمرار لتتخذ منها مرتكزاً تربط به سلوكياتك الجديدة التي تود ترسيخها. وبذلك تقلل من احتمال انهيار نظام إنتاجيتك الجديد.
خذ مثالاً على ذلك، أحد العناصر في نظام الإنتاجية الذي ندرّسه، وهو الاحتفاظ بلائحة أولويات منسقة بحسب موعد الإنجاز المطلوب اعتماداً على ما ينظر المتدرب إليه أولوية ويحرص على إنجازه لا على أهداف الآخرين. حيث يمكننا اعتبار مجرد الوصول إلى المكتب "مرتكزاً" يقود إلى التفكير بمعاينة لائحة المهمات وجعلها تملي أولويات الصباح الباكر على مدار الثلاثين دقيقة التالية عوضاً عن فتح البريد الإلكتروني والانشغال به. وعند الارتباط باجتماعات مبكرة يمكن تبكير الوصول إلى المكتب بثلاثين دقيقة لضمان عدم الإخلال بالفترة المحجوزة لممارسة أولويات المتدرب.
التوتر والتفكير الزائد عن اللزوم
بمجرد اعتياد سلوك محدد، تنتفي الحاجة إلى اتخاذ قرار يتناول تفاصيله حيث يصبح العمل به تلقائياً. ومع ذلك، فقد يحصل أن تشتد حِدة أحد مرتكزات هذا السلوك سواء على صعيد البيئة المحيطة أو الجانب المادي أو الذهني، حتى يخيّل للدماغ أنه أمام موقف مستجد يتطلب منك التوقف وبذل المزيد من إعمال الفكر والعقل عن قصد.
لكن ذلك يعني تمهلاً أكثر وفاعلية أقل مقارنة بالانطلاق، اعتماداً على سلوكك وعاداتك. يعبّر مالكولم غلادويل عن هذه الحالة بـ "الاختناق" ويشرحها في كتابه "الأفذاذ" (Outliers)، مستعيناً بما حصل مع جانا نوفوتنا في مباراة عام 1993 ضد شتيفي غراف في الجولة الأخيرة من "ويمبيلدون" (Wimbledon). فحين شارفت المباراة على الانتهاء زادت حدة الضغط وبدأت نوفوتنا بمعاناة التفكير المفصل أكثر من اللازم. وبدلاً من الاعتماد على تلقائية حركات عضلاتها والسلوكيات الذهنية التي طورتها خلال عدد لا يحصى من ساعات التدريب، بدأت نوفوتنا بمحاولة تخمين كل حركة قادمة. وفي منافسة من هذا المستوى، فإن إعمال العقل والتخمين في كل حركة يقود إلى نتائج كارثية.
قد يكون العمل مرهِقاً، وقد نندفع بتأثير من ضغط العمل إلى التفكير بأن سلوكيات الإنتاجية التي مارسناها وأثمرت نجاحاً في السابق ستأخذ وقتاً طويلاً أو أنها لن تكون ملائمة لمعالجة الوضع الراهن. وفي هذه الحالة، ستقوم بتحويل كل سلوك اعتدته إلى عمل يحتاج إلى قرار، علماً أن هذه هي الأوقات المثلى للاستفادة من نظام الإنتاجية التلقائي الذي وضعته.
تتمثل الإنتاجية الحقيقية عندما تنجح بتحقيق أهدافك الكبرى على نحو مستمر. وللوصول إلى ذلك، عليك بتطوير وتهذيب نظام الإنتاجية الخاص بك والحرص على الاعتماد عليه دوماً. فإذا لم تشعر ببلوغك مستوى الإنتاجية الذي تطمح إليه باستمرار، أو كنت تحاول الارتقاء بإنتاجية مؤسستك، فانظر أياً من العوائق الآنف ذكرها يؤخرك عن إحراز التقدم المنشود.