فرضت الجائحة الحالية على الكثيرين ضرورة العمل من منازلهم في عزلة ذاتية شبه تامة، وثمة تحد كبير أمام هؤلاء لإيجاد الحافز لمواصلة العمل بجد، حيث بات الكثير من الموظفين يعانون الآن أكثر من أي وقت مضى من أجل إنجاز عملهم بكفاءة في مكاتبهم المنزلية والتركيز خلال اجتماعات الفيديو وتبادل رسائل البريد الإلكتروني، ولكن من السهل إغفال مصدر رئيسي آخر للتحفيز، والذي غاب عن أذهان الكثير من الموظفين في ظل الظروف الحالية: ألا وهو العمل برفقة زملائهم.
فقد توصل علماء علم النفس الاجتماعي إلى أننا نزداد إقبالاً على العمل بجد عندما نعمل تحت سمع وبصر الآخرين، فعندما يكون عملنا تحت الملاحظة، فإننا نقبل على أداء العمل بشكل أسرع وأكثر إبداعاً ونفكر في المشكلات بمزيد من الإمعان، وتحدث هذه الآثار لعدة أسباب، أحد أهم هذه الأسباب أننا نحب إثارة إعجاب الآخرين بأدائنا، ومن ثم نحاول بذل جهد أكبر، وهي الظاهرة التي يلمسها كل من بقي في مقر العمل لوقت متأخر عندما كان مديره لا يزال موجوداً.
لكن وجود الآخرين له أثر أعمق وأكثر أهمية على الموظفين، فهو لا يؤثر على ما يفعله الموظفون فحسب، بل يؤثر أيضاً على طريقة تفكيرهم في تصرفاتهم، فعندما يعملون تحت سمع وبصر الآخرين، يشعرون أن ما يفعلونه ذو أهمية كبرى، وهو ما يشعل حماسهم. تُعزى هذه الظاهرة إلى أن الموظف الذي يعمل تحت سمع وبصر الآخرين يمزج بين منظورهم ومنظوره هو نفسه، وبالتالي يعمل هذا المنظور المزدوج على تضخيم أهمية عمله في ذهنه لأن استثمار الوقت والطاقة والجهد في أمر يبدو عظيماً وذا قيمة أكثر تحفيزاً من استثمارها في أمر يبدو ضئيلاً، ومن ثم فإن تضخيم أهمية عمل الموظف يحفزه على الإقبال على إتمام المزيد من العمل بمزيد من الجدية.
وقد توصلنا، على سبيل المثال، في بحث أجريناه إلى أنه كلما ازداد عدد الجماهير في مباريات تنس الريشة، ازداد شعور اللاعبين أن جهودهم تسهم في فوز فرقهم. وفي دراسة أخرى، عندما وضعت مجموعة من الأشخاص تحت سمع وبصر الآخرين، شعروا أنهم عملوا على حل المسائل الرياضية بجد أكبر مما كانوا عليه عندما كانوا بمفردهم. بصفة عامة، كلما زاد عدد مَنْ يراقبون ما نقوم به، ازداد شعورنا بقيمة أعمالنا وأهميتها.
ولعل هذه الأبحاث توضح سبب صعوبة استدعاء الحافز على إتمام العمل في العزلة الاجتماعية، إذ نشعر أن إنجازاتنا، سواء كانت الرد على جميع الرسائل الواردة في البريد الإلكتروني أو مشروع انتهينا منه في الوقت المحدد، أقل قيمة دون وجود الآخرين، وبما أن الوحدة تضعف نشوة الإحساس بالإنجاز، فإن الحافز على العمل بجد يتلاشى في العزلة الذاتية.
قد يبدو من الوهلة الأولى أن أبحاثنا تشير إلى حاجتنا الماسة إلى وجود الآخرين بلحمهم ودمهم من أجل إيجاد الحافز على العمل، وهو ما قد ينذر بأجواء قاتمة خلال الأشهر القليلة المقبلة التي ستشهد بعض أشكال التباعد الاجتماعي، غير أن أبحاثنا أثبتت أيضاً أن هناك طرقاً أخرى لإشعار الموظفين بأهمية ما يفعلونه بخلاف وضعهم تحت الملاحظة، فمجرد إحساسهم أنهم تحت الملاحظة يحقق الأثر نفسه أيضاً، فقد توصلت إحدى الدراسات إلى أن مجرد وجود رموز لأعين مراقبة يشير إلى أن ما يجري على شاشات الموظفين مُسجّل بالصوت والصورة قد دفعهم إلى الاعتقاد أنهم عملوا بجد، كما كان لكاميرات مراقبة الموظفين الأثر نفسه الذي تحدثه المراقبة الحقيقية للإنسان. تشير هذه النتائج إلى الوسيلة التي تتيح لنا إمكانية استغلال حافز وجود الآخرين حتى في العزلة الذاتية عند العمل من المنزل، حيث يمكننا دعوة الغير لإلقاء نظرة على عملنا ووضع استراتيجيات لاستدعاء الحافز المتمثل في وجود الآخرين دون انتهاك قواعد التباعد الاجتماعي.
وإليك بعض الأمثلة العملية على كيفية استخدام هذه الوسيلة:
1- لا تغلق خاصية اجتماعات الفيديو مع زملائك حتى بعد انتهاء الاجتماعات واجعلها تعمل خلال النهار، حتى يشاهد كل منكم الآخر وهو ينجز عمله الخاص به، فهذا يماثل تقريباً وجود زميل حقيقي في المكتب المجاور.
2- تبادل رسائل البريد الإلكتروني مع زملائك من أجل إجراء مكالمات فيديو سريعة لكي تتأكد أن الآخرين يمكنهم سماعك ورؤيتك وأنت تعمل.
3- أنشئ مجموعة مع زملائك عبر الإنترنت للتعرف على مدى تقدم كل منكم في مشروعه وليلزم كل منكم الآخر بمسؤولياته.
4- استخدم تطبيقات الإنتاجية التي تتيح لك نشر نتائج مجهوداتك.
5- التقط صورة لعملك وشاركها مع زملائك أو رؤسائك أو حتى أصدقائك.
6- أرسل مستجدات عملك أولاً بأول إلى زملائك ورؤسائك الذين يشاركونك العمل في المشروعات ذاتها.
7- اكتب قائمة بالمهارات التي تريد أن تكتسبها أو تصقلها بالتعاون مع زملائك، وشارك ما تحرزه من تقدم فيها.
8- اكتب قائمة "الإنجازات" في نهاية كل يوم وشاركها مع أصدقائك أو أفراد أسرتك، ولا تنسَ أن تدرج بها كل المهمات وإن بدت تافهة، مثل تنظيف مجلداتك وكتابة بريد إلكتروني مريع والاطمئنان على زميل التقيته في أحد الاجتماعات.
يجب ألا نفقد حافزنا على إنجاز العمل، على الرغم من كل المتاعب التي تسببت فيها هذه الجائحة وطالت مختلف جوانب حياتنا العملية اليومية وجعلتها أكثر صعوبة. ويمكننا الانتفاع بفوائد الدوافع التحفيزية لوجود الآخرين حتى في ظل العزلة الذاتية بفضل التقنيات التكنولوجية الحديثة التي تربط بيننا.