وُجدت الموسيقى قبل نشوء المؤسسات ومهام الإدارة بآلاف السنين، ومن المعروف أنّ أول مقطوعة موسيقية مكتوبة في العالم كانت باللغة المسمارية وتعود إلى أكثر من 3,400 سنة، وقد تم اكتشافها في مدينة أوغاريت السورية على وجه التحديد. هذا وظلت الموسيقى - كفنّ مؤلف من الأصوات والسكوت عبر فترة زمنية محددة - تطرب النفس وتبهج القلب على مر العصور.
لا يمكننا أمام هذه الاستدامة إلّا أن نتساءل: ما الذي يمكن للمدراء أن يتعلموه من الموسيقى لينجحوا في مهامهم، وينالوا ثقة موظفيهم على مر الزمن؟
تتميز الموسيقى المبدعة بتركيبة من عدة خصائص كطبقة الصوت، الإيقاع، الزخرفة، العذوبة، وغيرها. ولكل من تلك الخصائص مجموعة ضوابط تساهم في إنجاح المقطوعة الموسيقية وزيادة تأثيرها ونجاحها. وسنحاول من خلال إسقاط خصائص الموسيقى على تصرفات المدراء في المؤسسات، أن نتلمّس الطريق إلى زيادة فعاليتهم في العمل، وتحسين قدراتهم القيادية.
طبقة صوت المدير
في الموسيقى، هناك أصوات مقسّمة إلى مستويات من الأكثر حدة وأعلى طبقة وهو ما يسمى السوبرانو، إلى الأقل طبقة وهو ما يسمى الباس، ولكل مستوى صفات وخصائص، ومدى محدد. وإذا كان لكل شخص طبقة صوت محددة، فإنّ الأمر ينطبق كذلك على المدراء، فكل مدير لديه مساحة صوتية خاصة يشعر بالارتياح عندما يستخدمها للتواصل مع موظفيه، بعض المدراء يفضلون لقاء الموظفين كل على حدة والتحاور معهم في شؤون العمل، البعض الآخر يفضل الاجتماعات المصغرة لفريق العمل، حيث يكون صوتهم أعلى قليلاً، البعض الآخر يشعر بالسعادة عند تحويل تواصله مع موظفيه إلى مؤتمر أو ندوة رسمية، وآخرون لا يفضّلون التواصل المباشر ولكن يلجؤون إلى وسائل أخرى مكتوبة أو من خلال الهاتف أو الفيديو. وكما أنّ النصيحة تعطى لمن يريد الغناء باكتشاف طبقة صوته، ومن ثم التدرب على الغناء بطبقات أخرى، كذلك على المدير أن يتدرب على التواصل مع موظفيه بطرق مختلفة وعدم الاكتفاء بالطبقة التي يراها مريحة بالنسبة له، فللموظفين تفضيلات أخرى، وبالتالي، لن يطربوا لطبقة غير مناسبة لهم. يشير ديفيد بيتس من جامعة ولاية بنسلفانيا في المؤتمر العالمي للعلوم النفسية إلى أنّ المدراء الناجحين يلجؤون إلى خفض طبقة صوتهم عن إصدار الأوامر، ورفعها عند طرح الأسئلة، كذلك، فإنّ الموظفين ينظرون إلى المدراء الذين يتحدثون بطبقة صوت منخفضة كقادة، ويحترمونهم بشكل أكبر. وخلص كذلك بحث أجراه عدة باحثين من جامعة ديوك وجامعة كاليفورنيا إلى أنّ الرؤساء التنفيذين الذين يتحدثون بطبقة صوت منخفضة وأكثر عمقاً يديرون شركات أكبر حجماً ويحققون عائداً أعلى.
الإيقاع القيادي
الإيقاع الموسيقي مرتبط بتوقيت النغم، وقد وصفه الفارابي بأنه تحديد لأزمنة النغمات وفق نسب ومقادير معينة، وبذلك يصبح لدينا تكرار من الصوت والصمت. والمثير للاهتمام ما وجده الباحثون ومنهم نينا كراوس في دراسة نشرتها في دورية نيوروسينس من أنّ تطوير الإنسان لقدراته في مجال الإيقاع الموسيقي، يساعد على تحسين أدائه في المجالات الأخرى غير الموسيقية.
ربما حان الوقت لكي يتنبه المدراء إلى فائدة الصوت والصمت في أدائهم الإداري، ففي بعض المواقف، قد يصح القول أنّ صمت المدير من ذهب، بحيث يكون امتناع المدير عن التدخل أو التعليق أفضل سلوك يمكنه أن يقوم به. ويمكن لإيقاع المدير أن يحدث أثراً كبيراً في أداء فريق العمل، فلكل مدير صفات وطباع شخصية تدفعه نحو سلوك معين، ولكن فترات من الصمت هي الخيار الأمثل في بعض الظروف، ويدعم هذا الطرح مفهوم القيادة الصامتة، والتي تعكس الثقة الهادئة عوضاً عن الأنا والغرور، وكذلك الميل إلى حل مشاكل العمل بصمت من خلال التعاون والتشجيع عوضاً عن الضغط وفرض الرأي. نشرت هارفارد بزنس ريفيو نتائج تجربة قامت بها لبيان أثر القيادة الصامتة، وذلك بأن قامت بتشكيل مجموعات من الطلبة، يرأس كل مجموعة قائد، وطلبت من المجموعات التسابق في طي أكبر عدد من قطع الملابس خلال عشر دقائق، ووضعت باحثاً مساعداً في كل مجموعة لمراقبة العمل، وتشجيع قادة بعض المجموعات على ممارسة القيادة الصامتة، وكانت النتائج أنّ المجموعات التي ترأسها قادة صامتون حققت نتائج أفضل بـ28% من البقية، هذا بالإضافة إلى أنّ أعضاء تلك المجموعات شعروا بتحفيز أكبر لتنفيذ توجيهات قائدهم.
ليس المطلوب أن يمارس المدراء الصمت المستمر، ولكن أن يكونوا موسيقيين إيقاعيين قادرين على تقرير متى يجب عليهم الكلام، ومتى يجب عليهم الصمت. الصمت الذي يبقيهم قادة مسيطرين ولكن مع ترك انطباع لدى الموظفين بأنهم من يقودون أنفسهم، الصمت الذي يمنح فرقهم الاستقلالية، ولكن للعمل ضمن المسار الذي قاموا هم أنفسهم برسمه.
الزخرفة في الإدارة
لزيادة جمالية وطرب الموسيقى، يلجأ الموسيقيون إلى ما يعرف بالزخرفة، وهي مجموعة من العُرب والحليات التي تصاحب اللحن أو الغناء، وذلك بالاستعانة ببعض النغمات خارج حيز المقام ومن ثم العودة إليه، وبعض الأحيان تكون الزخرفة بالارتجال في الأداء، حيث يقدم العازف أو المغني أداء تلقائياً من دون إعداد سابق. من المعروف أنّ الرتابة والروتين من مساوئ القيادة، ودليل على ترهل الممارسات الإدارية. يفترض بالمدير أن يلجأ إلى الزخرفة والارتجال، ويكون ذلك بعدة أشكال، فالخروج المنظّم عن السياسات والضوابط الإدارية يكون مفيداً في بعض الأحيان، ومن شأن ذلك شحن همم الموظفين ومنحهم دفعة من التحفيز، والأمثلة على ذلك كثيرة، ففي دولة الإمارات العربية المتحدة، قامت بعض المؤسسات بمنح إذن خروج غير مقرر مسبقاً لنصف يوم للموظفات بمناسبة يوم المرأة العالمي، وكذلك قام مجلس الوزراء باستضافة أحد المواطنين وتعيينه باحثاً اجتماعياً في وزارة تنمية المجتمع بعدما أوصل احتياجات أصحاب الدخل المحدود من خلال أحد البرامج الإذاعية.
الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالارتجال قد يكون مطلوباً من المدير لحل مشاكل العمل المستعصية، يشير مايكل ليبسون في مقال منشور في هارفارد بزنس ريفيو العربية إلى أنّ ارتجال حلول جديدة أمر ضروري للتعامل مع التحديات التي تتكرر، والتي لا تجدي معها الحلول التقليدية. وينطبق ذلك بشكل خاص على المواقف التي تتطلب اتخاذ قرارات سريعة ولا مجال للتروي والتفكير ملياً في الخيارات المتاحة لأجلها. الأمر لا يتوقف عند المدراء، حتى على مستوى المؤسسات، أصبح الارتجال أمراً محتّماً في الصناعات المتطورة والقطاعات الجديدة، حيث لا يوجد ممارسات سابقة يمكن الرجوع إليها عند الحاجة، وهذا ما أيده كل من جورج لويس وبنجامين بيكوت في كتابهما "كتيّب أكسفورد لدراسات الارتجال النقدي" (The Oxford Handbook of Critical Improvisation Studies).
العذوبة في الأداء
الموسيقى العذبة هي تلك التي تتضمن الأصوات ذات الجودة العالية بشكل عام. نستطيع أن نقرر ما إذا كانت مقطوعة موسيقية عذبة أم لا من خلال النظر إلى عدد الأصوات والعلاقة في ما بينها أو ما يعرف بالنسيج الموسيقي، والذي يمكن وصفة بنسيج سميك أو خفيف، خشن أو ناعم، ذو طبقة واحدة أو متعدد الطبقات.
لا يخفي أي مدير رغبته في أن يكون عذباً في أدائه الإداري، وأن يتبع ممارسات إدارية ذات جودة عالية. تعتبر العذوبة الموسيقية مصدراً ملهماً لتحقيق ذلك، وهنا على المدير أن يحدد النسيج الإداري الأنسب للتطبيق في وحدة العمل التي يشرف عليها، هل يذهب إلى النسيج الخفيف الذي يعطي حيزاً كبيراً للموظفين ومرونة في أداء العمل؟ أم إلى النسيج السميك الذي يضع القواعد والأهداف المفصّلة المدعّمة بنظام صارم لمتابعة الأداء؟ أم يلجأ إلى نسيج هجين من هذا وذاك حسب الموضوع والمهمة؟
على المدير أن يكون قادراً على صناعة المزيج المناسب لإدارته، بل يجب عليه أن يجد العذوبة المناسبة لتصرفاته مع الموظفين، وهذا التحدّي أوجد حاجة لأن يتحول المسؤول إلى مزيج من مدير وقائد في نفس الوقت لا أن يكون قائداً حيناً ومديراً حيناً آخر، وقد أصبحنا نرى مصطلح (Leadager) في بعض القواميس وكذلك المقالات الإدارية للدلالة على المهني المحترف الذي يبقى على مسافة متساوية من المبادئ التقليدية للإدارة، وما تطلبه الإدارة الحديثة في القرن الحادي والعشرين.
وأخيراً، ليس على المدير الذهاب إلى معهد لتعليم الموسيقى والصوتيات لتحسين أدائه الإداري، ولكن بلا شك يمكنه الاستفادة من خصائص الموسيقى في تطوير الممارسات الإدارية في وحدة عمله، وذلك باستخدام طبقة الصوت المناسبة للتواصل مع زملائه وموظفيه في المواقف المختلفة، والاستمتاع بالصمت عندما يتوجب عليه ذلك، وعدم التردد بالارتجال وتجربة ممارسات جديدة في الظروف الصعبة، مع الحرص على بناء نسيج إداري هجين يمكنّه من موائمة جهود موظفيه مع توجهات المؤسسة بعذوبة.