طبَّقت شركات كثيرة سياسة العمل عن بُعد بدلاً من العمل في المقرات المكتبية، وكان لهذا التحوُّل فوائد عديدة، لكن إحدى أخطر سلبياته هي عدم رؤية الإدارة لجهود الموظفين العاملين عن بُعد؛ فعندما يعمل الموظف من المنزل، لا يرى مدراؤه ما يفعله ولا يستطيعون تكوين فكرة عن أنشطته اليومية المعتادة.
توصلت دراسة تحليلية للبيانات نُشرت مؤخراً حول عادات العمل لدى 61,182 موظفاً في شركة مايكروسوفت بالولايات المتحدة وجداول مواعيدهم في أثناء جائحة كوفيد-19 إلى أن العمل عن بُعد يؤدي غالباً إلى انقطاع التواصل بدرجة كبيرة، ويؤدي التواصل اللاتزامني إلى مواجهة الموظفين صعوبة في توطيد علاقاتهم بزملائهم والتقدم بحياتهم المهنية وتعزيزها.
قد يكون هذا محبطاً جداً، خاصة إذا كان مديرك نفسه جزءاً من المشكلة، وفي عملي مدربة أسمع كل يوم مهنيين ناجحين يقولون: "لقد سئمت عدم ملاحظة جهودي المبذولة في العمل". يغفل المدراء في كثير من الأحيان عن موظفيهم الذين لا يحتكُّون بهم مباشرة، حتى إن ثمة مصطلحاً يصف هذا السلوك، وهو انحياز القرب المكاني (Proximity Bias)، عندئذ يشعر المرء بأن جهوده لا تلقى التقدير المناسب، بل وقد يشعر بالإحباط.
لكن المشكلة أننا جميعاً نشعر بالإرهاق؛ فأنت وكل مَن تعمل معهم، ومنهم مديرك نفسه، مطالبون بإنجاز قدر أكبر من العمل بأقل الموارد المتاحة. وقد أثبتت الدراسات الاستقصائية أن الغالبية العظمى من القادة يشعرون بالإعياء والإرهاق، وربما تكون قد اختبرت هذا الشعور بنفسك عندما ألغى مديرك اجتماعاتكما الثنائية أو عندما قلص أحد المسؤولين التنفيذيين وقت عرضك التقديمي إلى النصف.
الحقيقة هي أن مديرك لا يملك الوقت ويتعرّض هو أيضاً لضغوط خاصة يتعين عليه التعامل معها؛ لذلك من المهم جداً أن تحرص على إطلاعه على مسؤولياتك وإنجازاتك من خلال ممارسات الشفافية التشغيلية.
ما هي الشفافية التشغيلية؟
في عام 1967، كشف بنك باركليز عن أول ماكينة صراف آلي (ATM) في العالم، وسرعان ما حققت هذه الماكينة نجاحاً منقطع النظير بسبب سهولة التعامل معها والراحة التي تتيحها لعملاء البنك. وعلى الرغم من تفضيل المستهلكين حالياً استخدام ماكينة الصراف الآلي على التعامل مع موظف البنك بنسبة 3 إلى 1، فقد تراجع رضاهم العام عن تجربتهم المصرفية. لماذا؟ لأن العملاء لم يطلعوا على مجريات سير العملية بالقدر الكافي.
توصّل الأستاذ بكلية هارفارد للأعمال، ريان بيول، إلى أن حجب عمليات الشركة عن عملائها يُضعِف فرصهم في فهم القيمة المتحققة وتقديرها. ونتيجة لذلك يقل رضاهم عن منتجات الشركة أو خدماتها واستعدادهم لدفع المال لشرائها، وتتراجع ثقتهم فيها ويقل ولاؤهم لها على مرّ الزمن. من ناحية أخرى، عندما يرى المستهلكون العمل الجاري خلف الكواليس، سيزداد تقديرهم للخدمة المقدَّمة وينظرون إلى مزود الخدمة على أنه أكثر خبرة واهتماماً بتلبية رغباتهم، ما يعزز الحافز لمواصلة التعامل معه والرضا عن خدماته.
يمكنك تطبيق الشفافية التشغيلية على حياتك المهنية من خلال إطلاع مديرك باستمرار على آلية سير أعمالك والتقدم الذي تحرزه. سيساعد هذا مديرك على فهم القيمة التي تقدمها وتقديرها، كما يؤكّد له حرصك على إنجاز مهامك، وهو أمر مفيد جداً إذا كان مديرك من نوعية المدراء الذين يتدخلون في التفاصيل أو إذا كنت تعمل عن بُعد.
وإليك بعض الأساليب العملية التي يمكنك من خلالها تطبيق هذا المفهوم في عملك.
1. اعمل على بناء الثقة من خلال أساليب التواصل البسيطة والخفيفة
فكِّر في عقد اجتماع يومي قصير لإطلاع مديرك على ما فعلته بالأمس وما تخطط لفعله اليوم والعراقيل التي تقف في طريقك (إن وجدت). يمكنك إضفاء الطابع الرسمي على هذه التفاعلات من خلال تخصيص وقت محدد للتواصل، أو تزويد مديرك بتحديثات دورية بضع مرات في الأسبوع ببساطة.
إذا كان مديرك يعاني ضيق الوقت، فاقترح عليه إرسال تحديث قصير عبر إحدى منصات الرسائل الفورية، مثل سلاك (Slack) أو تيمز (Teams). أوضح له أنك تريد أن تظلا على وفاق فيما يتعلق بأولوياتك وأطلعه على كيفية عملك نحو تحقيق أهدافك والأهداف العامة للفريق. بالإضافة إلى خلق الشفافية حول عملك، سيكون لديك أيضاً سجل مكتوب لإسهاماتك في حال احتجت إلى تقديم أدلة تعزز موقفك عند طلب ترقية أو زيادة الراتب في المستقبل.
كان من أهم أسباب نجاح الكثير من عملائي إرسالهم رسالة تأكيدية إلى مدرائهم في أول أيام أسبوع العمل تحدد أولوياتهم طيلة أيام الأسبوع، ثم رسالة متابعة في نهايته تلخص الإنجازات الرئيسية التي حققوها؛ فقد أثبتت الدراسات أن المزج بين المعلومات العالية الجودة (أي المعلومات الآنية والدقيقة) والكمية (التي تزوّد المتلقي بالسياق الكافي لفهم المعلومات المقدَّمة) يزيد مستوى الثقة لأنه يقلل الغموض.
2. اغتنم كل لحظة من اجتماعاتكما الثنائية
غالباً ما تكون الاجتماعات الثنائية أطول من الاجتماعات اليومية (من 30 إلى 60 دقيقة عادةً)، وتوفر لك ولمديرك فرصة للتواصل الآني والتحدث حول موضوعات تخص العمل، فضلاً عن مناقشة تطورك ونموك على المستوى المهني، وأنت مسؤول عن توجيه النقاش في هذه الموضوعات، ويمكنك تحقيق أقصى استفادة من هذه الاجتماعات من خلال الحديث عن "الإنجازات الأخيرة".
يمكنك على سبيل المثال إعداد تقرير عن نتائج المهام أو المشاريع التي ناقشتماها في اجتماعاتكما اليومية؛ لخّص الإجراءات التي اتخذتها والمهارات التي استخدمتها لتحقيق أهدافك، واستفد من قوة السرد القصصي لإبراز قوة أدائك.
على سبيل المثال، لا تكتفِ بذكر إنجازاتك قائلاً: "لقد نجحت في زيادة عدد متابعينا على إنستغرام بنسبة 10% هذا الشهر".
احرص بدلاً من ذلك على توضيح جهودك المبذولة لتجاوز العقبات أو تسليط الضوء على استثمارك لعلاقاتك مع الأقسام الأخرى أو زملائك للتقدم في مشروع معين من خلال قول شيء على غرار: "لاحظت تباطؤ الحركة على وسائل التواصل الاجتماعي في الشهر الماضي، لذلك بحثت عن الأوقات التي يتصفّح فيها جمهورنا إنستغرام بكثافة خلال اليوم، واخترت هذه المواعيد لنشر محتوانا اليومي، كما تعاونت مع فريق التصميم لإنشاء قوالب جديدة تمنح علامتنا التجارية مظهراً جديداً وتتيح لنا مشاركة المعلومات بأسلوب ممتع وسهل الفهم. ويبدو أن الإجراء لاقى استحسان الجمهور؛ فقد ازداد عدد متابعينا بنسبة 10%!"
3. أتح الفرصة لمديرك ليطلع على عملك
ما لم يستطع مديرك الاطلاع على عملك فسيبقى ما تفعله غامضاً بالنسبة له، وذلك يخلق مجالاً للافتراضات السلبية بأنك مقصّر في العمل، يمكنك تلافي هذا الموقف من خلال مشاركة قواعد البيانات أو وثائق التخطيط التي تسمح لمديرك برؤية أدلة واضحة على تقدمك. تستطيع تحقيق هذه الغاية باستخدام لوحة متابعة تحتوي على مقاييس آنية، أو ملخص أسبوعي لملاحظات العملاء، أو بمشاركة ملف إلكتروني يوضح التقدم المُحرز وفقاً لمؤشرات الأداء الرئيسية.
يمكنك تطوير هذه الفكرة من خلال إعداد تقرير شهري أو ربع سنوي حول إنجازات الفريق وتعميمه على مختلف أقسام المؤسسة أو إرساله إلى القيادة العليا، ويمكنك فعل ذلك بعدة طرق، منها عقد اجتماع شهري مع أصحاب المصلحة وإطلاعهم على آخر مستجدات مشاريعك. ثمة خيار آخر يتمثل في إرسال نشرة بريدية داخلية بهدف أساسي هو إطلاع الجميع على آخر المستجدات. سيساعدك كلا الخيارين على مشاركة النتائج التي تحققها أنت وفريقك.
4. أوضح النتائج المستقبلية الإيجابية المترتبة على تواصلكما
يحب أي مدير أن تزيل عن كاهله الضغوط وأعباء العمل الثقيلة، وحينما يعلم مديرك أن بمقدوره الاعتماد عليك في تنفيذ المهام دون توجيه أو بقليل من التوجيهات، فستزداد قيمتك في نظره. إذا كنت تعلم أن فريقك أو مديرك يواجه مشكلة ما، فبادر بتقديم الحلول (لا المشكلات) لمديرك إلى جانب شرح تفاصيل الخطوات التالية التي تعتزم اتخاذها بدقة متناهية في حال موافقته على خطتك.
على سبيل المثال، إذا كلفك مديرك بمهمة ما، فحدد الإجراءات التي ستتخذها لتنفيذها، بالإضافة إلى أسباب السير في هذا الاتجاه، وأبلغه بأي عقبات أو مخاطر تتوقع مواجهتها وكيف تخطط لمعالجتها، مع دعم موقفك بأدلة مستمدة من الأبحاث أو أمثلة لمشكلات أخرى أثبت حلها بأساليب مماثلة فعاليته. سيُثبت هذا النهج امتلاكك رؤية شاملة للمؤسسة وأهدافها وأهمية عملك في تحقيقها، والأهم من ذلك أنه يوضح قدرتك على التفكير من منظور استراتيجي.
تذكر أن مديرك لن يستطيع قراءة أفكارك، وأنك مسؤول عن توضيح جهودك في العمل له. ويجدر بك ألا تعتبر هذه الإجراءات عبئاً، بل فرصة لإظهار ذكائك ونجاحاتك.