من الطبيعي أن تساورك الشكوك في مغزى عملك إبان الأوقات العصيبة، فعندما يتزعزع عالمك بسبب اضطراب هائل، فقد تبدو وظيفتك غير ذات أهمية بل وعديمة الجدوى. من ناحية أخرى، فقد تؤدي الأزمات أيضاً إلى تغذية الشعور بسمو الغرض ووحدة المصير، وهو ما شهدناه في دراسة الاستجابة لأحداث 11 سبتمبر/أيلول في نيويورك وتفشي فيروس "سارس" عام 2003 في تورنتو، حيث أخبرنا أحد مدراء وحدة الرعاية المركزة الذين عايشوا تفشي هذا الوباء، قائلاً: "شعرت بأن شيئاً مهماً يمكن أن يحدث في أي لحظة وبأنني يجب أن أكون في العمل". ونوهت ممرضة في وحدة الرعاية المركزة إلى هذه المسألة بقولها: "ساورنا شعور بأننا وحدنا المنوط بنا القضاء على هذا الوباء. صحيح أننا كنا قلة، لكن الكثيرين توحدوا حول هذا الهدف بطرق غير عادية". وهكذا تحمل الأزمات الكثير من الأشخاص على إيجاد قيمة عميقة في أعمالهم وتطوير أدائهم المهني وتحقيق النمو على المستوى الشخصي.
وها نحن اليوم لا يؤدي معظمنا أي دور يذكر في الخطوط الأمامية لمكافحة فيروس كورونا بطبيعة الحال، ولكن لا يزال بإمكاننا جميعاً اكتشاف طرق للإسهام في هذه الجهود من خلال أعمالنا اليومية، وذلك باتباع الخطوات الثلاث التالية:
1. اشحذ همتك بالإقدام على فعل أشياء بسيطة
إذا شعرت بالعجز، فلا تصر على تنفيذ الأشياء الكبيرة التي لا تستطيع الإسهام فيها، وإلا تأثرت رفاهتك العقلية سلباً. حاول بدلاً من ذلك فعل أي شيء من شأنه أن يؤثر ولو بدرجة بسيطة في أي من جوانب الموقف التي لا تزال تحت سيطرتك، وبذلك ستنمي شعورك بالفاعلية الشخصية وتسهل على نفسك الانتقال إلى أهداف ذات مغزى أكبر للتفكير فيما يمكنك القيام به خلاف ذلك لتحسين الوضع بما يعود بالنفع عليك أو على زملائك أو مجتمعك ككل.
شعرت نيكول بلاكمان المقيمة في مانهاتن بالضياع إثر هجمات 11 سبتمبر/أيلول كسائر أهالي المدينة. لم تكن مدربة على القيام بأعمال الإنقاذ ولم يسبق لها الانضمام إلى أي من منظمات إدارة الطوارئ، لكنها شعرت بالحاجة إلى تقديم يد العون بأي طريقة ممكنة، لذلك قررت التبرع ببعض الشطائر لعمال الإنقاذ في "غراوند زيرو"، ومن هذه النقطة سرعان ما تصاعدت الأمور: فبعد تقديم الشطائر، مكثت لبعض الوقت في منطقة وصول المتطوعين. وما إن غادر المسؤول عن عمليات الإنقاذ في نهاية اليوم حتى كُلِّفت بلاكمان بالاضطلاع بمهمات منصبه، ولم تكد تمضي بضعة أسابيع حتى كانت تقود منظمة تطوعية أنشئت خصيصاً لهذا الغرض تضم مئات المتطوعين بمسميات وظيفية رسمية وأقسام للعمل ومهمة إنسانية موسعة، كما جاء على لسانها في قصة ديمون ديماركو الشفوية تحت عنوان "قصص البرجين" (Tower Stories)، حتى أن معظم الهيئات الحكومية في المنطقة افترضت أن مجموعتها تنتمي إلى منظمة غير ربحية عريقة مثل الصليب الأحمر.
لم تكتفِ نيكول بالمكوث في شقتها تتساءل عن كيفية الإسهام في جعل العالم مكاناً أفضل، بل أخذت زمام المبادرة وفعلت شيئاً بسيطاً، ونتيجة لذلك وضعت نفسها على خطوط التماس مع المسؤولين عن عمليات الاستجابة للطوارئ وتعرفت على ما يحتاجه عمال الإنقاذ وأصبحت ملاذاً يلجأ إليه الآخرون.
الفكرة هنا هي أخذ زمام المبادرة والتحرك: جرب عدداً من الأشياء وانظر ما يفيد منها، فنحن نفترض أن أهدافنا تحدد أفعالنا، لكن العكس صحيح أيضاً، إذ إن أفعالنا الصغيرة تؤدي إلى ردود فعل تتيح لنا اكتشاف أهداف ذات مغزى أكبر.
2. فكر في كيفية استغلال مهاراتك الفريدة في التعامل مع التحديات المتولدة عن الأزمات
يُكثِر الموظفون الاستباقيون من استخدام "تصميم الوظائف" للإسهام بصورة إيجابية في إعادة تصميم عملهم بما يتناسب مع نقاط قوتهم ومواطن شغفهم ودوافعهم على نحو أفضل. ووفقاً لما نُقل عن إيمي جشنيفسكي، الأستاذة بجامعة "ييل"، فإن جزءاً من هذا المنهج ينطوي ببساطة على إعادة النظر في رؤيتك لعملك. فقد شكك الكثير من موظفي شركات الخدمات المالية، على سبيل المثال، في قيمة وظائفهم بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، في حين اكتشف آخرون غرضاً جديداً فيها: كان الحفاظ على سير العمل في شركاتهم وسيلة لتحدي الإرهابيين ومساعدة بلادهم على التعافي من الأضرار الاقتصادية التي حاقت بها وتكريم أرواح زملائهم الذين لقوا حتفهم، وكما قال أحد المصرفيين الذين التقاهم ديماركو: "لست طبيباً، لذا لم أستطع الإسراع إلى المستشفى وإنقاذ الأرواح. ولست عامل بناء، لذلك لم أستطع المساعدة في الحفر. حاولت التبرع بالدم، ولكن طابور المتبرعين كان يمتد أمامي لأربع ساعات كاملة... لذا لم يكن أمامي سوى التأكد من عدم تأثر شركتنا سلباً كطريقة لتقديم يد العون".
وبالمثل، يمكنك محاربة الركود الذي يتوقع أن تتسبب فيه الجائحة الحالية ببساطة عن طريق الحفاظ على دوران عجلة الإنتاج في عملك، وتذكر أن مؤسستك توفر الأجور التي تتكفل بإطعام أسر كاملة وتساعد الباعة على فعل الشيء نفسه.
ولكن الأهم من كل ذلك أنك تستطيع تصميم عملك بما يسهم في تقديم حلول للمشاكل التي يمر بها مجتمعك حالياً. ابدأ بوضع قائمة بمهاراتك ومواردك، ثم فكر بشكل إبداعي في الموضع الذي يمكن استغلالها فيه أحسن استغلال، فإذا كنت خبيراً في الاستثمار، على سبيل المثال، فيمكنك تخصيص بضع ساعات لتقديم المشورة المالية لرواد الأعمال الذين تأثروا سلباً أو الذين فقدوا وظائفهم، وإذا كنت مهندساً معمارياً، فيمكنك إعادة تصميم مقار العمل والمطاعم والمدارس بحيث تكون أكثر قدرة على مقاومة انتشار الفيروس، وإذا كنت خبيراً في التسويق، فيمكنك مساعدة المنظمات غير الربحية في تقديم خدماتها الحيوية من خلال الإسهام في تنظيم حملات جمع التبرعات، فقد تأثرت كافة أطياف المجتمع بالأزمة الحالية، وبالتالي فهناك طرق لا حصر لها لتقديم يد العون، ويمكنك زيادة تأثيرك من خلال الشراكة مع الآخرين، لكن إذا لم تستطع التوصل حتى الآن إلى فكرة محددة عن كيفية تقديم هذه الإسهامات، فبوسعك البدء بالمشاركة في إحدى فعاليات الهاكاثون التي يتم الإعلان عنها والتي تحاول فيها فرق متنوعة ابتكار طرق لمساعدة المتضررين من الأزمة.
عندما ابتُلي العالم بهذه الجائحة، لاحظ صامولي كوكي، مدير حساب مبيعات الخدمة في شركة "سيسكو"، تأثُّر الأوضاع المالية للكثير من أصدقائه ومعارفه الذين تعتمد أجورهم على إجراء مقابلات شخصية مع العملاء. وبحكم منصبه، كان كوكي على دراية واسعة بحلول الاجتماعات الرقمية، فخصص بعضاً من ساعات عمله وجزءاً من وقت فراغه لتوجيه العديد من المؤسسات خلال مراحل تحولها إلى التقنيات الرقمية، فساعد شركة تسويق عقاري، على سبيل المثال، على تصميم وإنشاء خدمة لعرض المنازل وبيعها عن بُعد، كما ساعد مدرسة لتعليم الفنون للأطفال على تنفيذ عملياتها عن بعد للسماح للأطفال بمتابعة دروسهم من المنزل.
3. استغل الأزمة كفرصة لصنع مستقبل ذي مغزى أكبر
إذا كنت في وضع صعب، فقد يعز عليك إيجاد ما يمكنك فعله الآن لتعزيز مغزى عملك. ربما فُصلت من العمل أو تشعر بالإرهاق الشديد نتيجة محاولاتك المضنية للحفاظ على وظيفتك لدرجة أنك لا تجد وقتاً لأي شيء آخر، ولكن لا يزال بإمكانك إيجاد مغزى من خلال التركيز على المستقبل، فالبشر يمتازون عن غيرهم من الكائنات الحية بقدرتهم على التحليق بعقولهم، ونحن لا نعايش الحاضر فقط، بل يمكننا أيضاً استرجاع الماضي وتصور المستقبل، وهو ما أكده بحث بقيادة آدم وايتز من "كلية كيلوغ للإدارة" أثبت فيه أن ممارسة هذه القدرة تعزز مقدار المغزى الذي نشعر به في الوقت الحاضر،
حيث تؤدي الأزمات إلى تكشف المعاني السلبية لحياتنا وتجعلنا أكثر وعياً بالجوانب ذات الأهمية الحقيقية، وبالتالي نصبح أكثر استعداداً في أثنائها لاكتساب رؤى ثاقبة حول الحياة وتقلباتها، ومن هنا يمكن أن تساعدك الأزمة على إدراك أن ما تريده من حياتك المهنية يتطلب تغيير اتجاهك فيها، فقد ينظر الكثيرون إلى الوراء بعد عقد من الآن ليجدوا أن هذه اللحظة كانت نقطة تحول في حياتهم بدأ عندها طريقهم نحو حياة ذات مغزى أكبر.
ضع ذلك في اعتبارك، وفكر فيما يمكن أن تكون عليه وظيفة أحلامك المحتملة بعد 10 سنوات، لكن لا تتخيل وظيفة واحدة فقط، بل تخيل عدة وظائف. والآن انظر إلى الوراء لتتخيل المسارات التي أخذتك إلى تلك النقطة، وحاول في الوقت نفسه استكشاف المستقبل الذي يمكن أن تقودك إليه مشاريعك المؤجلة حالياً وإلام يمكن أن يوصلك شغفك غير المستغل.
في عام 2001، كان جيريمي بومان يمتلك شركة للاتصالات على بعد خمس بنايات فقط من "غراوند زيرو" والتي عُرفت بنجاحها المشهود، لكنها لم تلبث أن فقدت عملاءها نتيجة للهجمات حتى اضطر بومان إلى إغلاقها في الربيع التالي. وعلى الرغم من أن تلك الأشهر كانت مرهقة للغاية، فإن الأحداث كشفت لبومان أنها كان من حسن حظه: "دفعتني أحداث 11 سبتمبر/أيلول إلى التفكير في مغزى حياتي بصفة عامة، وكيف سأسهم في سبيل تحقيق الصالح العام بخلاف بيع وصلات الإنترنت مقابل المال" حسب ما جاء على لسانه في كتاب ويندي هيلي مؤلف كتاب "الحياة أقصر مما تتخيل: قصص التحول والتجديد بعد 11 سبتمبر/أيلول" (Life Is Too Short: Stories of Transformation and Renewal After 9/11). ومن هنا اهتدى بومان إلى فكرة العمل في وظيفة لجمع التبرعات في مؤسسة "الخدمات الاجتماعية اللوثرية في نيويورك" (Lutheran Social Services of New York) حيث التقى بزوجته المستقبلية. في نهاية المطاف دخل عالم الريادة الاجتماعية، وأسس منظمة "رايز" (RISE)، وهي منظمة غير ربحية توفر تدريباً على ريادة الأعمال والتوظيف وتنمية السمات الشخصية للسجناء الحاليين والسابقين، رجالاً ونساءً. وقال إن تفكيري العميق عقب وقوع الأزمة: "قد هداني إلى اكتشاف مَنْ أكون وإيجاد مغزى لحياتي والعثور على حياة مهنية تلبي شغفي".
لا يمكن اعتبار إيجاد غرض أسمى في أثناء الأزمات مجرد عملية تحول فيها الموقف المؤقت إلى آخر محتمل. صحيح أنك لم تختر الظروف، ولكن بوسعك اختيار ما تريد استخلاصه منها. ابدأ بأفعال صغيرة وحدد كيف يمكن استغلال مهاراتك الخاصة بأفضل صورة ممكنة. وباتخاذ خطوة أو خطوتين إلى الأمام، لن تقدم إسهاماً لحل مشكلات اليوم فقط بل ستصل أيضاً إلى مستقبل ذي مغزى أكبر.