تعتبر رشوة الشركات – وهي ما تقوم به الشركات من دفع أموال للمسؤولين الحكوميين للحصول على معاملة تفضيلية - غير قانونية في عشرات البلدان، إضافة إلى ذلك، تشير الدراسات إلى أنها تؤدي إلى نتائج عكسية؛ فهي تؤدي إلى انخفاض هوامش الربح وانخفاض العائد على رأس المال والتأثير على معنويات الموظفين، بالإضافة إلى التأخيرات المكلفة الناجمة عن مساومات الأطراف الفاعلة على قيمة الرشوة؛ ناهيك عن الفقر وسوء الحوكمة في الأسواق التي تُدفع فيها هذه الرشاوى. ومع ذلك، فإنه وفقاً للبنك الدولي، تستخدم حوالي ثلث الشركات في جميع أنحاء العالم الرشاوى، حيث يُدفع ما يقدر بنحو 400 مليار دولار سنوياً. فمنذ عام 2006، توصلت مئات الشركات - بما في ذلك بعض العلامات التجارية العالمية مثل نوفارتس وهيوليت-باكارد (آتش بي)، ورولز رويس - إلى تسويات مع السلطات الأميركية بتهم التعامل بالرشوة في الخارج.
إذن، لماذا تستمر الرشاوى؟ وفقاً لأبحاثي الخاصة حول العشرات من قضايا الرشوة، وعملي الصحفي لخمس سنوات في أربع قارات، يعود استمرار الرشاوى إلى أن التنفيذيين يعتقدون أن منافسيهم يستخدمون الرشوة كأداة لتحقيق السبق، لذا يجب أن يفعلوا الأمر ذاته. فقد أخبرني أحد المستشارين العاملين في مجال النفط: "[الرشاوى] مثل المنشطات، الجميع يتعامل بها، وإذا لم تفعل أنت ذلك، فسوف تتخلف عن الركب".
بطبيعة الحال، فإن اتباع وتقليد ما يفعله منافسوك، وخاصة عندما يكون غير قانوني وغير فعال، هو عكس الابتكار. فكيف تستطيع الشركات التخلص من هذه العادة؟ بعد استطلاع آراء عدد من خبراء الفساد ومدراء الأعمال التنفيذيين (بمن في ذلك شخص تم سجنه بتهمة الرشوة) حددتُ أربع استراتيجيات:
امتلاك خطة لمقاومة طلبات الرشوة. يجب تجهيز المدراء في الميدان وتزويدهم بالعبارة التالية: "لا يمكنني منحك رشوة، لكن يمكنني أن أفعل لك كذا، وكذا، وكذا"، على حد قول كنت كيدل، الشريك الرئيس في شركة الصين الكبرى وشمال آسيا (Greater China and North Asia) بقسم الرقابة على المخاطر. المفتاح هو الفهم الأفضل لما يدفع المسؤول للسعي للحصول على الرشوة. ويواصل كيدل شرحه قائلاً أن الرشوة في أغلب الأحيان لا تتعلق بالمال؛ إنها تتعلق برغبة هذا الشخص في الشعور بالاحترام. "نحن نقول للشركات: ’ما هي الطريقة الأخرى لمنح هؤلاء الأشخاص بعض الاحترام، أن تجعلهم ذوي رأي نافذ بالنسبة لك؟’" تتمثل إحدى الطرق في إتاحة الفرصة للشخص أو لموظفيه في المشاركة في المناقشات رفيعة المستوى المتعلقة بالتزامات الشركة تجاه المجتمع المحلي، ومنح ذلك المسؤول صوتاً أكبر في تشكيل تلك القرارات. وهناك طريقة أخرى، وهي توفير المزيد من فرص العمل، أو تقديم المزيد من فرص التدريب، أو الخدمات الفنية أكثر مما يقدمه ويوفره منافسوك. يمكنك تسليط الضوء على الإرث الدائم الذي ترغب في مساعدة المسؤول في إنشائه، والالتزام بإظهار مشاركته وتركيز الضوء عليها بشكل علني.
وضع تكلفة تجنب الرشوة بالاعتبار ضمن تقدير ميزانية الأعمال. إن رشوة المسؤولين الحكوميين لها تكاليفها. ولكن رفض الرشوة وقول لا يمكن أن يكون مكلفاً أيضاً: بداية من التأخير في تسليم البضائع (رفض مسؤول الجمارك تخليص البضائع على الحدود حتى يحصل على رشوة) وصولاً إلى عدم الحصول على العطاء من البداية (الوزير الذي يتوقع حصوله على حصة 10% من عقد المشتريات). يقول فريدريك ديفيدسون، الرئيس التنفيذي لشركة إنرغولد دريلينغ (EnergoldDrilling): يجب على الشركات أن تحتسب هذه التكاليف ضمن خطة الأعمال. ويقدم ديفيدسون مثالاً على ذلك فيقول: "نواجه ذلك الأمر عادة في الجمارك؛ حيث تقوم الكثير من هذه الدول بسن قواعد لا حصر لها، فإذا كنت أحد السكان المحليين، يجب عليك أن تدفع بعض المال لشخص ما، وبهذا تتجاوز كل تلك القواعد. نحن لا نتوقع عمل ذلك، لذلك، فإننا ندخل ضمن العطاء أي تكاليف عمولات إضافية، ومصاريف ورسوم قانونية، وما إلى ذلك. يمكنك بسهولة إضافة 10 إلى 20%. لنفترض أنك بصدد إجراء عقد بقيمة 300 ألف دولار. فسوف تضع في الاعتبار مبلغاً ما بين 30,000 دولار إلى 60,000 دولار في أماكن معينة لأجل التعامل مع القيود البيروقراطية الموجودة.
ويضيف ريتشارد بيسترونغ، الذين تعرض للسجن بسبب دفعه رشاوى في أنحاء مختلفة من العالم - وهو الآن يرأس شركة استشارية لمكافحة الرشوةـ ينبغي على الشركات أيضاً أن تشرح للمستثمرين أنه بدلاً من زيادة توقعاتهم ربع السنوية، فهم يقومون بتذليلها وتعديلها بحيث تأخذ في الحسبان أي تأخير ناتج عن تجنب دفع الرشاوى. ويقدم مثالاً على كيفية عرض هذا الأمر: "تبلغ عوائدنا العادية المتوقعة في منطقة معينة 18-24 شهراً، وهو رقم يمكن باعتقادنا بلوغه وتحقيقه، ولكننا نطرح بدلاً من ذلك 24-36 شهراً لتحقيق تلك الأهداف بطريقة مستدامة وأخلاقية".
تحديد "أسواق القمر" (moon markets) والابتعاد عنها. تتصف بعض الأسواق - على سبيل المثال، العديد من الأسواق في الصين – بانتشار الرشوة في أوساطها بشكل كبير، لدرجة أنه لا يمكن التغلب عليها، ولا يمكن تغيير هذه الحقيقة مهما بلغت درجة الابتكار في التعامل مع هذا الوضع. ولذلك ينصح كيدل الشركات بالتعامل مع هذه الأسواق كما لو أنها على القمر (بمعنى أنه يتعذر الوصول إليها)، وإعادة ضبط توقعاتها وفقاً لذلك. قد يعني ذلك تقلص الأرباح على المدى القصير، ولكن ذلك يعني على المدى الطويل بناء شركة أكثر مرونة، تتمتع بمعدل نمو ثابت ومطرد عاماً بعد عام. ويضيف: "وهذا هو ما يتحتم على الشركات التفكير فيه عند العمل في الأسواق الصعبة المليئة بالتحديات".
ونتيجة لذلك، قد تحتاج الشركات إلى الاستثمار في عملية جمع المعلومات لتحديد أسواق القمر، والتكاليف الأخرى المرتبطة بتجنب الرشوة. على سبيل المثال، تستخدم شركة كوكاكولا بيانات من منظمة الشفافية الدولية (Transparency International) لبناء خريطة تبين مخاطر الرشوة لديها في أسواق مختلفة كل عام، ثم تحدد أماكن تركيز جهود مكافحة الفساد الخاصة بها.
إعادة معايرة الأهداف المرتبطة بالأداء والمكافآت المتصلة بالمخاطر العالية. في الأسواق التي تنطوي على مخاطر عالية مرتبطة بالفساد، يفتقر موظفو الخطوط الأمامية إلى الحافز الذي يدفعهم لرفض الرشوة التي تعرض عليهم إن كان ذلك يؤدي إلى عدم تحقيق أهداف المبيعات المطلوبة منهم، وبالتالي عدم حصولهم على جزء كبير من مكافآتهم. يقول بيسترونغ إنه لا ينبغي أن يتم خصم مكافآت مندوبي المبيعات نتيجة لرفضهم الفساد. ويسلط بيسترونغ الضوء على أحد أفضل الممارسات، وهو إنشاء صندوق مكافآت سنوية لهذا النوع من المواقف. يقول بيسترونغ: "لنفرض أن مسؤولاً أجنبياً طلب رشوة. عندما يُثير مندوب مبيعات الخط الأمامي إمكانية أن يتسبب طلب الرشوة في حدوث تأخيرات، فإن الإدارة ستدفع لمندوب المبيعات أي مكافأة مستحقة كما لو أن البيع قد اكتمل، تؤخذ من صندوق المكافآت. عند هذه النقطة، سوف يتكاتف الجميع في حل هذه المشكلة بطريقة أخلاقية ومتوافقة مع القوانين، حتى لو استغرق الأمر وقتاً أطول إلى حد كبير، وهذه إدارة مستنيرة".
في عام 2016، وبعد أن دفعت شركتا نوفارتس وغلاكسو سميث كلاين غرامات بملايين الدولارات عقب التحقيقات التي خضعت لها حول الرشاوى التي زُعم دفع الشركتين لها حول العالم، غيرت الشركتان الطريقة التي تعمل بها فرق المبيعات لديهما. حيث ذكرت قناة "سي إن إن" أن شركة غلاكسو سميث كلاين تخلت عن أهداف المبيعات لديها، وهي تكافئ الآن مندوبي المبيعات بناء على معرفتهم باحتياجات المرضى والأطباء. كما حددت شركة نوفارتس مكافآتها القائمة على الأداء عند معدل 35%، ويتم تقييم ممثلي المبيعات لديها من 1 إلى 3 بناء على قيمهم وسلوكياتهم، وليس وفق أهداف كمية معينة يجب تحقيقها؛ فالحصول على مكافأة يتطلب إحراز تقييم أعلى من 1، وفقاً لوكالة رويترز.
في عالم اليوم، فإن الشركة التي تصنع أحدث المنتجات، وتضع استراتيجيات حديثة لبيع هذه المنتجات دون رشاوى، ليست شركة مبتكرة فحسب، بل هي شركة تساعد في إحداث التغيير في العالم؛ فهي تساعد على تفكيك نظام استمر لمدة قرون من الزمن، يديم الفقر في الخارج ويخنق الإبداع في الداخل.