كثيرون منا يبدؤون العمل في منصب جديد وهم مفعمون بالطاقة ولديهم رغبة في إحداث تأثير. نبذل جهداً كبيراً، وينتقل شغفنا إلى مَن حولنا، ويساعدنا حماسنا على التفوق بسرعة. لكن بالنسبة للبعض، يصبح العمل مملاً وتكرارياً وروتينياً، ويفقدون بعضاً من شغفهم. في نهاية المطاف، يدخل بعض هؤلاء المسؤولين التنفيذيين، الذين كانوا يحبون وظائفهم في البداية، البُعد الذي نسميه "السجن النهاري". فعندما يدخلون مكان عملهم، يشعرون أن القضبان "المجازية" تُغلَق من حولهم في منطقة يفتقرون فيها إلى الحماس ويشعرون بعدم الرضا وأنهم أقل إنجازاً بكثير مما يمكن أن يكونوا عليه.
لفهم هذه الظاهرة بصورة أفضل، فحصنا بيانات مستقاة من 970 شخصاً من هؤلاء الأشخاص في مؤسسة واحدة. كانت أعمارهم تتراوح بين 35 و44 عاماً (وهو النطاق النموذجي لبداية أزمة منتصف الحياة المهنية)، وقيّموا جميعاً مستوى اندماجهم في العمل ضمن أدنى 10%.
إذاً، ما الفَرق بين هؤلاء "السجناء" وبقية موظفي المؤسسة؟
- بالمقارنة مع تركيبة المؤسسة ككل، كان هناك عدد أقل قليلاً من الذكور (-3.7%) وعدد أكبر من الإناث (+2.4%).
- وكان هناك عدد أقل من خريجي المدارس الثانوية (-5.9%) وعدد أكبر من الخريجين (+2.5%) والحاصلين على شهادات دراسات عليا (+2.2%).
- وكان 30% منهم يعملون في الشركة من 5 إلى 10 سنوات، وكان 36% منهم يعملون فيها منذ 10 إلى 20 عاماً، لكن عينة الفئة العمرية شملت جميع المستويات والمناصب في المؤسسة، بما في ذلك المسؤولون التنفيذيون، ووجدنا أشخاصاً في "السجن النهاري" من جميع فئات مدة تولي الوظيفة. في الواقع، وجدنا أن 3 مسؤولين تنفيذيين كانوا في السجن النهاري مع موظفيهم.
فما الذي كان يزعجهم؟ عندما أجرينا تحليلاً عاملياً للعناصر الواردة في استطلاعات رأي الموظفين التي حصلت على الردود السلبية للغاية، حددنا 8 مشكلات مهمة موضحة فيما يلي بالترتيب من حيث الأهمية:
1. انعدام الفخر بالمؤسسة وعدم الرضا عنها
نبع معظم شعور الموظفين بالاستياء من المواقف التي أساءت فيها المؤسسة معاملة العملاء بطريقة هزت ثقتهم وجعلتهم يشعرون أنهم لم يعودوا فخورين بها. كان هؤلاء الموظفون أقل ميلاً إلى التوصية بالمؤسسة لصديق، ووصفوا أنفسهم بأنهم أكثر ميلاً إلى مغادرة المؤسسة.
2. الحد الأدنى من التقدير
لم يكن هذا مجرد شعور لدى الموظفين بأنهم بذلوا قصارى جهدهم ولم يحصلوا على التقدير، بل كان شعوراً قوياً بوجه خاص بين أولئك الذين شعروا أن المؤسسة لم تُعرب عن تقديرها لأي موظف.
3. غياب التحديات والشعور بالمعنى في العمل
ثمة وظائف تكون مليئة بالتحديات في البداية، ولكن بعد أدائها 10 آلاف مرة تصبح رتيبة ومملة. شعر هؤلاء الأشخاص أنهم غير قادرين على الاستفادة من مهاراتهم وقدراتهم في أدوارهم الحالية، وأنهم في معظم الأيام لم يحققوا أي شيء ذي قيمة، ولم يعودوا على الطريق نحو التقدم الوظيفي.
4. عدم الرغبة في تجاوز المتطلبات الأساسية
يتخذ الموظفون قرارات بشأن جهودهم الاختيارية كل يوم. هل يؤدون الحد الأدنى من العمل المطلوب للحفاظ على وظائفهم، أم أكثر منه بقليل، أم أنهم على استعداد لبذل كامل جهودهم؟ لم نُفاجأ عندما عرفنا أن هؤلاء الأفراد غير المندمجين في العمل رفضوا بذل جهد إضافي. كان منطق البعض هو: "أحصل على القليل جداً من هذه المؤسسة، وبالتالي اخترت منحهما الحد الأدنى من جهودي". ببساطة، أدى تراكم شعورهم بالاستياء إلى رفض إنجاز قدر أكبر من العمل.
5. الاستنتاج أنهم لم يُعامَلوا معاملة منصفة
نظراً إلى أن هؤلاء الموظفين عالقون في وظائف رتيبة، فليس من المستغرب أن يعتقدوا الآن أنهم يتلقون باستمرار معاملة غير منصفة بينما يحصل آخرون على مزايا لا يستحقونها. فقد أصبحوا مستائين، بل وعدوانيين أحياناً.
6. الشعور بالعجز
لم يشعروا فقط أنهم لم يُعامَلوا بإنصاف، بل شعروا أيضاً أن المؤسسة لن تستمع إلى أي محاولة للإعراب عن شواغلهم أو تعالجها. شعروا أنهم مغلوبون على أمرهم، فلا يوجد مَن يدافع عنهم وليس لهم أي تأثير. فقد نظروا إلى الأمر على أنهم لم يكونوا مهمين ببساطة.
7. المؤسسة لم تُقدّر قيماً مثل العمل الجماعي والثقة وتعزيز التنوع، ولم تطبقها
ما لفت نظر هؤلاء الموظفين في أثناء ملاحظتهم لما تفعله المؤسسة هو أنها لم تفِ بوعودها.
8. الحد الأدنى من فرص النمو والتطور
شعرت هذه المجموعة من الموظفين المنفصلين عن العمل أنهم مجرد عمالة تُستغَل مهاراتها وتُساء معاملتها. إذ تمنح المؤسسة آخرين فرصاً لاكتساب مهارات جديدة، لكنهم نادراً ما كانوا يحصلون عليها.
لم نُفاجأ عندما علمنا أن العديد من هذه العوامل يعكس تلك التي وجدناها في بحث سابق حيث فحصنا 360 ملاحظة شاملة من أكثر من 320 ألف موظف في مجموعة متنوعة من المؤسسات، ووجدنا أن الأشخاص الأتعس هم الموظفون والمدراء من المستوى المتوسط الذين عملوا في شركاتهم من 5 إلى 10 سنوات.
في كلتا الحالتين، شعر الأشخاص أن إسهاماتهم لم تحظَ بالتقدير على نحو منصف، وذكروا أيضاً شعورهم بالعجز وقلة الحيلة. ولكن في بحثنا السابق، ركّز معظم الشكاوى على الشعور بالإرهاق والمشكلات مع المدير المباشر، بينما نرى هنا أن هناك استياءً عاماً من أوجه القصور في الشركة ككل وطبيعة العمل وفرص الترقي الوظيفي. بعيداً عن معاناة هؤلاء الأشخاص الإرهاق، يحتجون بأن مواهبهم غير مستغلَّة بالكامل. فهم يشكون من الملل الذي يستنفد طاقتهم.
في حين أننا لن ندّعي شمولية البيانات المستمدة من شركة واحدة فقط، فإن هذه النتائج تشير إلى بعض الخطوات البسيطة إلى حد ما التي لن تسبب بالتأكيد أي ضرر لأي فرد أو مؤسسة وقد تساعد على الحيلولة دون حدوث أزمة منتصف الحياة المهنية التي يمكن تجنبها.
كلمة للمؤسسات: طلبنا على مر السنين من المسؤولين التنفيذيين التفكير في منحنى الحماس والإبداع في جميع المهمات التي أنجزوها. في أي نقطة يحدث التراجع؟ كانت الإجابة الثابتة التي نتلقاها هي: بعد 5 سنوات. مطالبة الأشخاص بأداء العمل نفسه لسنوات هي عقوبة قاسية وغير اعتيادية. لذا، على أقل تقدير، نقترح أن ينتبه المدراء عند نقطة الخمس سنوات للعلامات الدالة على شعور موظفيهم بالملل، وأن يقضوا عليها في مهدها من خلال التفكير في المهمات التي تتطلب مهارات وقدرات جديدة. لا تدع هؤلاء الأشخاص يعانون لمجرد أنهم يواصلون القيام بعمل جيد من أجلك.
ندرك أن المدراء يحبون التمسك بالموظفين الجيدين لفترة طويلة. ولكن حتى أبسط إجراء تتخذه الشركة، مثل ضرورة نشر جميع المهمات الوظيفية، يمكن أن يكون فعالاً للغاية. على سبيل المثال، كانت إحدى الشركات الاستشارية العالمية الكبيرة التي نقدم لها المشورة تعاني مشكلة في معدل دوران الموظفين عندما رفض مدراء المشاريع دعم موظفيهم في جهودهم لتولي مهمات جديدة لأن المدراء كانوا يخشون عدم حصولهم على المساعدة التي يحتاجون إليها في المشاريع الحالية. ولحل هذه المشكلة، صممت الشركة عملية تُنشَر من خلالها المهمات الداخلية ويمكن لكل موظف التقدم بطلب لأداء المهمات التي أثارت اهتمامه. هذه الخطوة التي تبدو واضحة ومنخفضة التكلفة شجعت الموظفين على تولي مهمات جديدة، مع تحسين قدرة الشركة على الاحتفاظ بأفضل المواهب.
كلمة للأفراد: إذا كانت قائمة الشكاوى هذه مألوفة لك، فنود توجيه انتباهك للنقطة رقم 4: رفض بذل أي جهود اختيارية. على الرغم من أن عدم القيام بأكثر من الحد الأدنى المطلوب في العمل أمر طبيعي وله ما يبرره، فإنه سيغذي شعورك بعدم الجدوى والعجز والملل، فضلاً عن أنه يبرر رأي المؤسسة بأن إسهاماتك لا تستحق تقديراً خاصاً. قبل الاستسلام لليأس، فكّر في إذا ما كان بإمكانك الهروب من هذا السجن بنفسك.
يمكنك محاولة انتشال نفسك من هذا الإحباط عن طريق الانتقال من إلقاء اللوم على المؤسسة إلى رفع مستوى جهودك. وإذا لم تساعدك المؤسسة على تحقيق ذلك، فبادر أنت بذلك. يمكن أن يؤدي خوض تحديات جديدة ومهمة إلى تغيير ديناميات اللعبة. ربما لا يلزم أن يتمحور العمل حول الشعور بأن مهاراتك غير مستغلَّة على أكمل وجه وبأنك منفصل عن العمل، بل يمكن أن يتمحور حول بذل قصارى جهدك في عمل مفيد وإحداث فرق ملحوظ. وقد لا يحظى هذا الجهد بالتقدير الذي يستحقه، ولكنه يمكن أن يعيد إليك الشعور بالرضا الناتج عن القيام بعمل مهم وأدائه بإتقان. وعلى الأقل سوف يهيئك لتقلُّد منصب أفضل في مؤسسة أكثر حكمة.