هل ستشكل “العملة الرقمية المستقرة” الثورة التالية في التجارة الإلكترونية؟

6 دقائق

ربما كنت قد سمعت، منذ عدة أعوام مضت، أن الولايات المتحدة ستطرح عملتها الإلكترونية الخاصة، وربما لم تفكر بالأمر واعتبرته نظرة مستقبلية حالمة، أو مجرد دعابة لا أهمية لها. كانت العملات الإلكترونية، مثل "بيتكوين"، من اختصاص المضاربين والمبرمجين، لا موظفي المصارف المركزية المحافظين. لكن في الشتاء الماضي أعلن المصرف الاحتياطي الفيدرالي أنه يبحث في إمكانية طرح عملته الرقمية الخاصة. وعندما ألقت حاكمة المصرف الاحتياطي الفيدرالي ليل برينارد، خطاباً في جامعة ستانفورد، نوهت إلى أن "إمكانات الرقمنة في تحقيق قيمة ومصلحة أكبر بتكاليف أقل" أدت إلى زيادة الاهتمام بها في المؤسسات التقليدية التي تتفادى المخاطر عادة.

لكن في الوقت الراهن، قد يكون اهتمام المصرف الاحتياطي الفيدرالي بالعملة الرقمية دليلاً على تغير العالم بدرجة كبيرة، وإشارة إلى الاتجاه الذي تسير به الرياح. وكما أحدثت كل من "باي بال" و"إيباي" (أو "علي باي" و"تاوباو" إذا كنت تفضلهما) ثورة في طريقة تسوق الناس عبر الإنترنت، وكما غيرت "أمازون" طريقة تسوق الناس بالكامل، يمكن لخدمات الدفع الرقمي القائمة على تقنية "بلوك تشين" أن تشكل الثورة العظيمة القادمة في نمو التجارة الإلكترونية العالمية. لكن كي يتحقق ذلك، يجب أن تتوفر أربعة شروط: التقنية المناسبة وطلب المستهلكين والشركات المناصرة والبيئة الناظمة الملائمة.

والسؤال هو: كيف سيتحقق ذلك؟ قد تبدو الضجة حول البلوك تشين في بعض الأحيان حلاً يبحث عن مشكلة، إذ إنها سجلات رقمية مفتوحة المصدر قال الكثيرون عنها أنها ستفعل كل شيء، بدءاً من إبطال استخدام النقود التقليدية وصولاً إلى إعادة صياغة الاقتصاد العالمي. وعلى الرغم من أنها وجدت مكاناً في المجالات المتخصصة، كسلاسل التوريد وأرقام التعريف الرقمية، فإن مشكلات مثل تقلب الأسعار والحاجة للتوافق مع إطار العمل التنظيمي الحالي قد أعاقت انتشار تبني هذه العملة. ولكن الآن، تبدو إحدى فئات العملات المشفرة الواعدة، التي تسمى "العملات الرقمية المستقرة" (stablecoins)، مهيأة للنجاح حيث فشلت سابقاتها. ونظراً لموقعها الفريد الذي يجعلها تعمل كوسيط للتبادل في التجارة الإلكترونية، تعزز "العملات الرقمية المستقرة" كلاً من كفاءة التجارة الإلكترونية ونطاقها.

تحديد التطبيقات المناسبة لتقنية البلوك تشين

تميز "العملات الرقمية المستقرة" نفسها بتركيزها على استقرار الأسعار، الأمر الذي لا نجده في العملات المشفرة الأخرى الأكثر شهرة وتقلباً، مثل "بيتكوين". تسعى "العملات الرقمية المستقرة" منذ بدايتها إلى تحقيق الاستقرار لتفادي مواقف كتلك التي مر بها لازلو هانيتش في عام 2010. هانيتش هو أخصائي تطوير برمجيات مقيم في الولايات المتحدة وافق على دفع 10,000 بيتكوين مقابل قطعتين من البيتزا من "دومينوز بيتزا" (وهو سعر معقول إذ كانت البيتكوين حينئذ تعادل كسر من البنس من الدولار). واليوم، يكاد هذا المبلغ يعادل 100 مليون دولار. كان هانيتش يثبت وجهة نظره، فقد أجرى أول عملية شراء سلعة بعملة مشفرة، لكن هذه القصة التي تعتبر أسطورية اليوم أصبحت أيضاً رمزاً للمزالق التي تنشأ عن استخدام المناقصات المعروفة بتقلبها بشكل ملحوظ في عمليات الشراء اليومية.

تبنت "العملات الرقمية المستقرة" أساليب متنوعة من أجل حل مشكلة تقلب الأسعار هذه. ولعل أبرز المحاولات حتى اليوم وأكثرها إثارة للجدل هي مشروع العملة المشفرة الجديدة التي تعتزم شركة "فيسبوك" طرحها باسم "ليبرا" (Libra)، والتي كان من المفترض أن ترتبط بسلة من الأوراق المالية الحكومية قصيرة الأجل وودائع مصرفية بعملات ثابتة تاريخياً كالدولار الأميركي واليورو. لكن مقاومة الجهات التنظيمية والمؤسسات المالية التقليدية دفعت "فيسبوك" للابتعاد عن رؤيتها الأولية لطرح عملة عالمية تنافس الهيئات النقدية. وعلى الرغم من الغموض الذي لا يزال محيطاً بالمشروع، فإنه قد يبدو شبيهاً أكثر بمشروع "فينمو" (Venmo)، الذي يتيح للناس إرسال المال عن طريق فيسبوك.

"تيرا" (Terra) (حيث يعمل زميلنا نيكولاس) هي عملة رقمية مستقرة جديدة تبنتها عدة شركات تجارية إلكترونية في جنوب شرق آسيا. وعلى الرغم من أنها ليست بذات الشهرة في الولايات المتحدة، فإنها مثال عن طريقة عمل "العملات الرقمية المستقرة" في الواقع، إذ تعتبر عملة قائمة على تقنية البلوك تشين تحمل قيمة موثوقة يستخدمها الناس العاديون فعلياً. وعلى عكس عملة ليبرا، تستخدم تيرا إحدى صيغ السياسات النقدية المؤتمتة كي تبقي سعرها مستقراً، من خلال تقليص العرض عند الانخفاض الشديد للأسعار وزيادته عند ارتفاع الأسعار بدرجة كبيرة. ويتم تحقيق ذلك باستخدام عملة مشفرة ثانية، وهي عملة "لونا" (Luna)، التي تعمل كإحدى أدوات السياسة النقدية وتجني ربحاً يتمثل بالرسوم على المعاملات. وفي حين ركزت الانتقادات التي وجهت لعملة "ليبرا" عموماً على طريقة تحكم بعض الشركات الكبيرة على آلية حوكمتها، مثل "مؤسسة ليبرا" التي يقع مقرها في سويسرا، تمت برمجة سياسة عملة "تيرا" (Terra) على سجلات البلوك تشين الخاصة بها مباشرة، ولذا فهي تتسم بالشفافية ومنيعة على التدخل البشري.

ويتمتع استقرار عملة "تيرا" وشفافيتها بالأهمية لأنهما يسخران إمكانات البلوك تشين في صيغة مفيدة لكل الناس. وهذا بدوره يُعدها لمواجهة التقنيات الحالية، وفي حالة عملة "تيرا"، هذا يعني التغلب على بطاقات الائتمان.

أفضل من بطاقات الائتمان

غالباً ما يُبرز المناصرون إمكانات العملات المشفرة في تعزيز فاعلية التجارة الإلكترونية وتوسيع نطاقها. وعلى الرغم من فاعلية النظام المالي الحالي، فهو يملك بعض مكامن القصور أيضاً، بما فيها اعتماده على الوسطاء الذين يأتون غالباً على شكل مزودي البطاقات الائتمانية التي تكلف نسبة تصل إلى 3% على كل عملية تجرى بواسطتها. تسمح تقنية البلوك تشين بسداد الدفعات مباشرة بين البائع والشاري، وتلتف حول النظام الحالي وتخفض التكاليف بالنسبة للتاجر والمستهلك على حد سواء. كما تسمح تقنية البلوك تشين بأتمتة عملية التحقق من عملية التبادل التجاري، في حين لا تزال معظم المصارف اليوم تستهلك موارد هائلة على عمليات التحقق اليدوية المكلفة. وفي الحقيقة، قدرت شركة "سانتاندر إنوفنتشرز" (Santander InnoVentures) أن "تقنيات البلوك تشين قادرة على تخفيض تكاليف البنى التحتية للمصارف بما يتراوح بين 15 و20 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2022". ستؤدي هذه المزايا إلى تسوية التبادلات التجارية الدولية في وقت قليل وتخفيض كلفتها.

وكما رأينا في النجاح الباهر الذي حققته شركة "سكوير" في جذب الشركات الصغيرة برسوم أقل، من المرجح أن تترجم الكفاءة الأعلى التي تتمتع بها العملات الرقمية المستقرة إلى توسيع نطاقها. وقد تزداد رغبة التجار الذين يدمجون هذه الرسوم بأسعار بضائعهم في عرض منتجات أكثر عبر الإنترنت نظراً للرسوم المنخفضة. وكذلك الأمر بالنسبة للزبائن، فقد يقررون امتلاك حسابات بالعملات الرقمية واستخدامها للقيام بعمليات الشراء عبر الإنترنت من دون العودة إلى النقود الإلزامية أو الشعور بحاجة إلى حساب البطاقة الائتمانية. وفيما يتعلق بنسبة 25% من الأسر الأميركية التي ميزتها الوكالة الفيدرالية لضمان الودائع على أنها لا تملك حسابات مصرفية أو تعاني من صعوبة الوصول إلى الخدمات المصرفية، فإن الرسوم الأدنى وعدم وجود الحواجز التي تعيق الدخول إلى السوق يعتبران نقطة تحول مهمة. وأخيراً، فإن انعدام الثقة العام بالوسطاء الماليين، الذي يدفع أبناء جيل الألفية للهرب من المصارف التقليدية واللجوء إلى التقنيات المالية والمصارف المنافسة الحديثة، يشير إلى أنهم أصبحوا مستعدين لاستخدام العملات المشفرة.

قد يثبت أن هذه الميزات هي ما يُدخل "العملات الرقمية المستقرة" إلى التوجه السائد المالي. ومن أجل فهم التأثيرات التي قد توقعها هذه العملات على نظام التجارة الإلكترونية العام، يمكننا استخدام البيانات من شركة "تيرا" التي شهدت نمواً متفجراً منذ إطلاقها في يونيو/حزيران 2019، إذ بلغت نسبة نموها 35% شهرياً. وهي اليوم تضم أكثر من مليون مستخدم، يستعينون بها على الدوام في عمليات الشراء عبر الإنترنت، والتي تشمل سلعاً متنوعة بدءاً من البقالة وصولاً إلى حجز الغرف الفندقية. ونظراً لسهولة البدء باستخدام عملة "تيرا" وتكاليفه المنخفضة، كانت الشركات التجارية أول من روجت لها ومنحتها أفضلية على خيارات الدفع الأخرى، كبطاقات الائتمان مثلاً، وبالتالي سهلت تبنيها السريع. كان نمو عملة "تيرا" قائماً على تراجع كبير في استخدام أنظمة الدفع الأخرى، ومنها البطاقات الائتمانية. وهذا ما يمنحنا فكرة عما ستبدو عليه التجارة الإلكترونية في بلاد الغرب أيضاً.

لكن، إذا كانت "العملات الرقمية المستقرة" سوف تصبح سائدة، فهي بحاجة إلى شركات مناصرة إلى جانب الشركات الابتكارية الخارجية، كي تبدأ بالتغلب على الشركات المؤثرة الداخلية. وكان عجز شركة "فيسبوك" عن طرح عملتها "ليبرا" مفيداً في لفت النظر لهذه الفرصة وأدى إلى تسريع التطورات المماثلة في أماكن أخرى. وأدركت المؤسسات المالية مثل "جيه بي مورغان" (JP Morgan) الحاجة إلى استخدام العملة الرقمية في الدفع. ومؤخراً، حصلت شركة "سكوير" بقيادة جاك دورسي على براءة اختراع شبكة تتيح للمستهلكين دفع ثمن مشترياتهم بالعملة المشفرة وللشركات التجارية تلقي القيمة كاملة بالدولار الأميركي، ما أنهى أي مخاوف بشأن تقلب العملة المشفرة. وأخيراً، فإن البيئة المالية بأكملها تتطور، خذ مثلاً المصارف المنافسة الحديثة مثل "ريفولت" التي بدأت بقبول العملات المشفرة، ما يزيد من احتمالات أن نشهد تطوراً وتكاملاً في هذا المجال في المستقبل.

لكن، هل سيستخدمها الناس؟

ثمة عوائق في وجه عملات البلوك تشين يجب التغلب عليها، بغض النظر عن الحوافز المتاحة. وبالنسبة لغالبية الدول، لا يزال استخدام العملة المشفرة في شراء السلع والخدمات محصوراً بأسواق متخصصة محددة. وهناك شركات تجزئة كبيرة، ومنها "ستاربكس" و"أوفرستوك"، تقبل العملات المشفرة، ولكنها لا تزال حالات استثنائية. توصلت شركة بحث متخصصة بالبلوك تشين إلى أن 1.3% فقط من التداولات التي تتم باستخدام العملة المشفرة في العالم كانت مرتبطة بتداولات الشركات التجارية في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019، وهذا يشير إلى أن الاستخدام الرئيسي لعملة بيتكوين لا يزال محصوراً بالمضاربة.

يمكن للأنظمة تغيير ذلك. وقد كانت المصارف مترددة في المشاركة في مشاريع العملة المشفرة خشية من احتمال تعرضها لتدقيق الجهات التنظيمية المشككة، الأمر الذي أدى بدوره إلى إثارة شكوك معظم الشركات حول التقنية وأبطأ تبنيها. يخشى راسمو السياسات نقل السلطة على السياسة النقدية من يد الجهات السيادية ووضعها في يد الشركات التجارية. إذ تعتبر قدرة المصارف المركزية على توسيع الكتلة النقدية المعروضة وتقليصها جزءاً مهماً من أدوات سياستها، لأنها تمكّنها من تحقيق استقرار النمو والتضخم وقت الحاجة. كما تشكل خصوصية البيانات مصدراً أساسياً للقلق، فقد أصبح تأثير هذا الموضوع كبيراً بعد الجدل الموثق بطريقة جيدة حول حول أمان البيانات "فيسبوك" وطريقة تعاملها مع خصوصية المستخدمين، لذا ستصبح هذه نقطة تركيز أساسية لأي عملة رقمية مستقرة مستقبلية.

الآن، أصبحت ثلاثة من العناصر الضرورية للتحول نحو التجارة الإلكترونية على يد "العملات الرقمية المستقرة" حاضرة، وهي التقنية الملائمة، وطلب المستهلكين، ومناصرة الشركات. وإذا تحققت البيئة الناظمة الملائمة في الأعوام القليلة المقبلة، فقد يؤدي استخدام "العملات الرقمية المستقرة" كوسيلة للدفع إلى تعزيز تبني تقنيات البلوك تشين على نحو يتعدى الاستخدامات الحالية المحصورة بالمجالات المتخصصة، وقد يتمكن من خرق الحواجز التي تعيق الدخول إلى الأسواق الإلكترونية.

وإذا وافقت المؤسسات المالية الرئيسية كالمصرف الاحتياطي الفيدرالي على ذلك، فقد نشهد تراجع الاعتماد على العملة الإلزامية والنقود الورقية في حياتنا اليومية. وإذا ازدادت عمليات الشراء عبر الإنترنت وازداد انتشار المتاجر التي لا تتعامل بالنقود الورقية، فلم الاستمرار بتحويل العملة الرقمية إلى نقود ورقية؟ ولربما أطلقت شركات التجزئة الكبيرة، مثل أمازون، عملاتها الرقمية الخاصة. قريباً، قد لا نتساءل عما إذا كانت العملات المشفرة ستنتشر، وإنما سنتساءل عما إذا كنا سنفتقد رؤية وجه جورج واشنطن على النقود الورقية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي