كيف يتحول حلم صغير إلى إنجاز عظيم؟ يكمن السر في الانضباط والمثابرة لتحويل هذا الحلم إلى واقع.
تحفل قصة الوزير السابق للبترول والثروة المعدنية في الممكلة العربية السعودية ورئيس شركة أرامكو السابق، علي النعيمي، بالدروس والعبر، فقد بدأ رحلته طفلاً بدوياً مسالماً يرعى الغنم، وأصبح وزيراً وصانع قرار في أكبر شركة للنفط عالمياً.
ويروي من خلال كتابه: "خارج الصحراء: رحلتي من البدو الرحّل إلى قلب النفط العالمي" (Out of the Desert: My Journey From Nomadic Bedouin to the Heart of Global Oil)، مسيرته الحافلة منذ انضمامه في فترة المراهقة إلى عملاق النفط "أرامكو" في العام 1947، ثم تدرجه في المناصب ليصبح رئيسها بين عامي 1983 و1995، ثم تعيينه وزيراً للبترول، وهو المنصب الذي شغله حتى تقاعده.
العقبات أمام تحقيق الحلم
كان النعيمي في السابعة من عمره عندما التحق بمدارس الجبل التابعة لشركة أرامكو، وكان أخوه الأكبر عبد الله عاملاً في الشركة، يقول النعيمي: "في بادئ الأمر، بالطبع، لم أكن أعرف ما هي المدرسة، ولكن بدا الأمر ممتعاً بالنسبة لي"، على الرغم من أنه كان يضطر إلى المشي مسافة 15 كم يومياً للوصول إلى مدرسته.
واصل النعيمي تعليمه، وفي سن الثانية عشرة (1947) عمل مراسلاً لدى أرامكو، وكشف عن حلمه لأحد أساتذته عندما سأله: "ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟" فأجاب: "أريد أن أصبح رئيساً لشركة أرامكو"، ولم يكن يدرك ماذا يعني ذلك، لكن طموحه حقق له ما أراد.
بدأت رحلته المهنية في الشركة مقابل 3 ريالات في اليوم، وواجه العديد من الصعاب، فبعد وفاة أخيه عبد الله أصبح عائلاً لأسرته، وتم طرده من أرامكو بعد 9 أشهر من عمله بسبب صدور أنظمة عمل جديدة تحظر توظيف من هم دون سن الثامنة عشرة، وتنقل بين عدة وظائف وتم طرده منها، فعندما عمل في قاعدة عسكرية تابعة للإدارة الأميركية دفعه شغفه الطفولي إلى الركض نحو الطائرة فور وصولها، وكاد هذا أن يتسبب في موته، فأمر الضابط المسؤول بفصله.
يشير النعيمي إلى أن تجربة الطرد من أرامكو، وتنقلاته بين عدة وظائف، ثم عودته إلى العمل في أرامكو مرة أخرى بمنصب مساعد كاتب لقاء راتب 125 ريالاً، جعلته يدرك أنه فطن سريع التكيف، وأنه كلما اعتمد على نفسه ازداد احترام الناس له.
لكن الموقف الذي قلب تفكيره رأساً على عقب، وأشعل في داخله فتيل السعي والاجتهاد، كان حين ذهب ليروي عطشه من مبرّد المياه، فسمع صوت مهندس أميركي خلفه يقول له بقسوة شديدة: "أنت عامل ولا يحق لك الشرب من الخدمات الخاصة بالمهندسين"، وهنا سيطرت عليه مشاعر الغضب والضيق أكثر من العطش، فقرر أن يفعل المستحيل ليصبح مهندساً، وكانت بيروت محطته التعليمية الأولى خارج المملكة، حيث درس العلوم والجبر في الجامعة الأميركية، وبعدها غيّر وظيفته وتخصصه من الشؤون الإدارية إلى الهندسة.
ونتيجةً لتفوقه قررت الشركة ابتعاثه إلى الولايات المتحدة الأميركية لإكمال دراسته الجامعية هناك، وفي عام 1962 حصل على درجة البكالوريوس في علم طبقات الأرض "الجيولوجيا" من جامعة ليهاي (Lehigh University)، ونال درجة الماجستير في تخصص المياه الجوفية من جامعة ستانفورد عام 1963.
اكتسب النعيمي من علم الجيولوجيا القوة والصلابة والقدرة على اتخاذ القرار وتكوين الآراء بعد التفكير الدقيق والعميق. وعاد من هذه الرحلة المعرفية الغنية مهندساً، ومرّت الأعوام حتى أصبح النعيمي في عام 1984 أول سعودي يترأس شركة أرامكو، وأصبح المهندس الأميركي الذي قلل من شأنه أحد العاملين لديه.
الانضباط والحزم في اتخاذ القرارات
في أثناء تنقّل النعيمي بين المناصب المختلفة في أرامكو، طلب نقله ليكون ناسخاً على الآلة الكاتبة، وحدث تحدٍ بينه وبين أحد العاملين وتغلّب عليه لأنه أسرع منه في العمل على الطابعة، والطريف في الأمر أنه بسبب قصر قامة النعيمي وضعوا له قواميس كي يجلس عليها حتى يصل إلى الطابعة. عمل على طباعة أوراق تنص على معاقبة الموظفين ومجازاتهم، فسخط عليه الموظفون وضربوه فقرر عدم ممارسة هذه المهمة مرة أخرى.
كان النعيمي معروفاً بانضباطه الشديد في العمل وحزمه في اتخاذ القرارات، فبعد أن أكمل دراسة الجيولوجيا في أميركا، وعاد إلى المملكة في عام 1963، عمل في أرامكو مختصاً بالمياه الجوفية حيث يقدم أذونات حفر الآبار في المنطقة الشرقية، وفي هذه الأثناء، تلقى عرضاً مغرياً من وزير الزراعة براتب يعادل ضعف ما يتقاضاه في أرامكو، وهو 1,600 ريال، وكان العرض المقدم له يقارب 3 آلاف ريال، فقبِل العرض وطلب من شركة أرامكو الإذن بتجربة عمله الجديد مدة سنة، وبالفعل دعمته الشركة وقدمت له قرضاً حتى يتمكن من استئجار منزل بالقرب من عمله في الوزارة.
لكن تجربته في الوزارة لم تناسبه، ودامت فقط 3 أيام، فقد ذهب إلى مقر الوزارة في الساعة السابعة صباحاً ولم يجد أحداً من الموظفين، ثم عاد في حدود الساعة الحادية عشرة ليبدأ تنفيذ مهامه، لكنه وجد كمية هائلة من طلبات الحصول على أذونات لحفر الآبار، ولم يكن معتاداً العمل بهذه الطريقة، إذ يجب الكشف عن المواصفات وموقع الحفر وكمية الإسمنت وما إلى ذلك حتى يستطيع تقديم هذه الأذونات. فيقول: "غادرت لأني لم أستطع أن أكون مُنتجاً في ظل بيئة عمل كهذه".
يدرك النعيمي أهمية بيئة العمل الإيجابية في الحفاظ على ثقة الموظفين وولائهم، فقد أظهر استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) عام 2021، أن 63% من المشاركين تركوا وظائفهم بسبب عدم توافر فرص الترقي الوظيفي، و57% منهم استقالوا بسبب عدم الاحترام والتقدير. وعليه، أسَّس النعيمي ثقافة عمل في أرامكو أسهمت في نجاح الشركة وضمنت انضباط موظفيها، على الرغم من التحديات والاضطرابات التي رافقت سوق النفط خلال فترة توليه رئاسة الشركة.
ومن المواقف التي تبيّن حزم النعيمي في اتخاذ القرارات رفضه مساعي شركة بترومين المتخصصة في حلول التنقل المستدام من أجل الاستحواذ على شركة أرامكو في عام 1986، لاعتقاده أن القائمين على شركة بترومين حينها لم يكونوا مؤهلين لإدارة أرامكو. وقد تجلى إصراره بوضوح عندما ذهب لمقابلة وزير النفط وترك له ظرفاً مختوماً فيه استقالته في حال إتمام صفقة الاستحواذ.
في بعض الأحيان يتطلب النجاح الجرأة والنضج معاً، فقد يجازف صانع القرار في تنفيذ مهمة أو مشروع ما معتمداً على عزيمة الفريق ورفع مستوى التحدي، لكن هذا لا بد أن يرافقه وجود تصورات واقعية لإمكانات الشركة وقدراتها، وتنفيذ النعيمي لمشروع حقل شيبة دليل على ذلك.
حيث كان إنتاج النفط في حقل شيبة يواجه العديد من الصعوبات، منها بناء بنية تحتية خاصة به نظراً لموقعه في جنوب شرق المملكة، فأخذ النعيمي على عاتقه تنفيذ المشروع دون الاستعانة بالشركات الأجنبية التي قدّرت أن تنفيذ المشروع سوف يستغرق 5 سنوات. لكن المشروع جرى تنفيذه فعلياً خلال سنتين وبتكلفة لم تتجاوز النصف.
حضور دولي مؤثر
إن دخول النعيمي المبكر إلى صناعة النفط جعله ملماً جيداً باحتياجات السوق وتقلباتها، فقد انضم إلى أرامكو في منتصف الأربعينيات حين كانت لا تزال شركة أميركية، وعندما أصبحت سعودية كان أول من ترأسها، وشهد تقلبات أسعار النفط بين 10 دولارات في أواخر التسعينيات، و147 دولاراً في منتصف عام 2008، وشهد وصول إنتاج المملكة إلى 3 ملايين برميل نفط يومياً، وكسره حاجز الـ 10 ملايين برميل في كثير من الأحيان.
وعندما أصبح وزيراً، كان يصارع داخل قاعات أوبك من أجل الدفاع عن مصالح المملكة ودول الخليج، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2014 أقنع الجميع بعدم خفض إنتاج النفط من أجل رفع الأسعار العالمية للنفط الخام، وقاد جهود الدفاع عن الحصة السوقية للمنظمة أمام المنتجين الذين زادوا إنتاجهم مع بقاء أسعار النفط عند 100 دولار.
وعن ذلك يقول النعيمي: "إذا قمنا نحن، السعودية أو أوبك بصفة عامة، بخفض الإنتاج من دون مشاركة دول من خارج أوبك، فإننا سنضحي بالعائدات فضلاً عن تضحيتنا بحصة من السوق". ويضيف: "سوق النفط أكبر من أوبك وحدها، ونحن حاولنا جاهدين أن نجمع الكل، من داخل أوبك ومن خارجها. لكن لم تكن هناك نية لتقاسم الأعباء، فتركنا الأمر للسوق بوصفها أشد الطرائق فاعلية لإعادة التوازن بين العرض والطلب".
يُعد النعيمي عرّاب سياسة أوبك القائمة على قوانين السوق في العرض والطلب، ويقول: "سأترك التاريخ يحكم على نجاح سياستنا المستندة إلى السوق. فهذه السلعة (النفط) شأنها شأن السلع الأخرى، دورية من دون أي شك".
وعن هذا الموقف، يقول وزير المالية وزير النفط المكلف في الكويت أنس الصالح عن النعيمي: "لقد كان لي الشرف أن ألتحق بالوزير في آخر أيامه بالوزارة وأعمل معه وأراه وهو يدافع عن مصالح دول الخليج والمملكة في أوبك وعن استراتيجية الحصة السوقية".
ويصف سفير بريطانيا في الرياض سابقاً شيرارد كوبر كولز، النعيمي بالرجل الذكي والمنضبط، لكنه شرس في الدفاع عن مصالح بلده في المحافل الدولية، في حين يرى الرئيس التنفيذي السابق لشركة توتال كريستوف دي مارجيري، أن النعيمي يمتلك الرؤية التي يفتقر إليها كثيرون.
حب الرياضة والسيطرة على الغضب
هل تذكرون قصة اندفاع النعيمي وراء الطائرة عندما كان يعمل في قاعدة أميركية ما أدى إلى طرده؟ لقد استمر على هذا الحماس والشغف في بدايات حياته المهنية، ما قاده لاحقاً إلى ارتكاب الكثير من الأخطاء، منها سيطرة الغضب على تصرفاته وكسر آلة الطابعة أمام مديرته، وعن ذلك يذكر قصة فشله في اجتياز أحد الاختبارات فسألته المُدرسة عن السبب، فأجابها بأن العطل من الآلة، ومن شدة حزنه ألقاها على الأرض.
فلم يكن من المُدرسة إلا أن أخذته إلى مكتبها وقدمت له قطعة من الشوكولاتة، فقال في نفسه: "الحمد لله لقد نفدت من العقاب"، ومرّت الأيام حتى جاء وقت ابتعاث الطلبة إلى الجامعة الأميركية في بيروت مدة 9 أسابيع، إذ سيتم ابتعاث العشرة الأوائل منهم سنتين للدراسة في جامعة حلب، وبينما كان يهم بالدخول إلى قاعة الاختبار، وجد المُدرسة نفسها عند الباب، فقالت له: "أعلم أنك ستجتاز الاختبار بجدارة، لكن لا تحلم بالابتعاث". وبالفعل لم يكن من ضمن الطلبة المبتعثين في هذه الدفعة، واستطاع اللحاق بالبعثة في دفعات لاحقة.
أدرك النعيمي خلال تجربته التي نضجت مبكراً أن الغضب غير محمود العواقب، ويبعدنا عن التفكير المنطقي، وقد أدى حزمه وقدرته على اتخاذ القرارات السليمة إلى تربعه عرش وزارة البترول والثروة المعدنية على مدى عقدين من الزمن، وكان حضوره في اجتماعات أوبك لافتاً وكلماته تهز أسواق العالم، وكان الصحفيون ينتظرون ظهوره كنجوم هوليوود.
ولا يشتهر النعيمي بجرأته وشخصيته القوية فحسب، بل بروحه المرحة وحبه للرياضة أيضاً، فيقول: "ما زلت أمارس الرياضة وتسلق الجبال. وتمكنت من توقيع اتفاقات نفطية كبرى مع تنفيذيين في شركات عملاقة في أميركا وكوريا الجنوبية في أثناء ممارستي الرياضة معهم، فالرياضة كانت دافعاً لي في تعزيز قدراتي النفسية في مواجهة التحديات والصعاب".
وكانت رياضته الصباحية من أهم تقاليد اجتماعات أوبك، وتضمنت رحلته مع المنظمة عدداً من المواقف الطريفة، يذكر منها أن إحدى الصحفيات كانت ممتلئة الجسم، ما دفعها إلى استئجار دراجة للحاق به في أثناء ممارسته رياضة الجري.
التعليم أولاً
كان النعيمي يرى أن مدرسة الحياة هي فرصته الوحيدة لتلقي العلم، فقد عمل راعياً لأغنام أسرته في سن الرابعة، ويقول: "أعطتني حياتي الأولية في البادية الجرأة والثقة بالنفس، البادية تجعل منك رجلاً وأنت طفل صغير"، لكنه يعتبر نفسه محظوظاً لوجوده في الزمان والمكان المناسبين، حيث غيّر اكتشاف النفط في المملكة العربية السعودية حياة الكثيرين وهو منهم.
وقد دفعه تقديره للعلم وشغفه به إلى بناء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية التي يعتبرها أهم حدث في حياته، إذ يراها مثالاً ناجحاً على كيفية تسخير المواهب والطاقات البشرية لتحقيق التقدم والتطور في المجتمع، لأنه لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض إلا من خلال تعليم راقٍ ومتميز.
وفي محاضرة رئيسية ألقاها في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ضمن فعاليات برنامج الإثراء الشتوي (ويب) 2017، ذكر أن ما تعلمه في أثناء دراسته هو أن النجاح لا يتحقق إلا بالعمل الجاد والمثابرة. وتعلم خلال مسيرته المهنية أيضاً، أنه لا يمكن بناء المستقبل إلا من خلال العمل الجماعي والمشاركة، وأن القائد الجدير بالثقة عليه احترام موظفيه.
ومن خلال مسيرة النعيمي نستطيع أن نستخلص أن صعوده سلم النجاح جاء بامتلاكه العزيمة والطموح والعطاء غير المحدود والثقة بالنفس، وتعزز ذلك لديه عندما قال له الملك الراحل عبد الله: "يا علي لا تخف عبد الله ولا تخف فهداً ولا تخف سلطان، خف الله فقط". وبعد إكمال النعيمي 10 سنوات من العمل في الوزارة ذهب إلى منزل الملك ليبدي له رغبته في التقاعد، فنظر إليه الملك مبتسماً، ثم قال: "يا علي من أكبر سناً أنت أم أنا؟" فآثر الصمت واستمر 10 أعوام أخرى في الوزارة.
"لكل بداية نهاية، ولست نادماً على شيء ولله الحمد، بل أنا على استعداد لإعادة الكرّة. فقد عشت حياة شخصية ومهنية رائعة بكل المقاييس. وعلى الرغم من بلوغي ثمانين حولاً، انقضت سبعة عقود منها في العمل بقطاع النفط، أظل أولاً وأخيراً مواطناً ينتمي إلى المستقبل ويحمل نظرة تفاؤلية، فمن يدري ماذا سيحمل لنا الغد؟".
بهذه العبارات ختم النعيمي كتابه عن مسيرته الحافلة، فكان يفخر ببداياته المتواضعة في الشركة وكفاحه في التعلم والعمل، ليبين أن مع الانضباط والمثابرة يمكن تحقيق النجاح تحت أي ظروف.