ملخص: في الوقت الذي تسعة فيه السعودية إلى تحقيق أهداف رؤية 2030، فإن قطاعات عديدة أصبحت تجني اليوم بالفعل ثمار السياسات والبرامج المستندة إلى علم السلوك. حيث يضمن علم السلوك تصميم السياسات العامة القائمة على كيفية اتخاذ البشر للقرارات في مختلف السياقات. ويركز مركز الرياض للسياسات السلوكية في وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية على 3 أهداف:
- تسهيل عملية تنفيذ التدخلات السلوكية من أجل دعم سياسات وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وإصلاحاتها.
- دعم منظومة سوق العمل في المملكة المستندة إلى الأدلة والاسترشاد بها في عملية صنع السياسات.
- إدارة شبكة مجموعة العشرين لتبادل المعارف في المناهج السلوكية.
ظهور علم السلوك
مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح، هذه المحاور الثلاثة لرؤية المملكة العربية السعودية 2030 هي الركائز التي توجه التفكير الاستراتيجي في القطاعين العام والخاص، والمؤسسات غير الربحية في المملكة.
تدور عجلة الإنتاجية في جميع أنحاء البلاد بسرعة فائقة لتحقيق، وفي بعض الأحيان لتجاوز، الأهداف الطموحة التي تصاحب هذه الرؤية. وهذا يستدعي الحاجة إلى وسائل فعالة لتطبيق خططنا تطبيقاً منهجياً. وإحدى الآليات التي جرى تبنّيها، والتي تعمل إلى جانب آليات أخرى، هي استخدام علم السلوك؛ وهو علم هجين بين الاقتصاد وعلم النفس، يعتمد على نظرية "العقلانية المحدودة". وكان أول من طرح هذه الفكرة هو الفائز بجائزة نوبل، هربرت سايمون، الذي افترض أن العقل البشري لا يتخذ كل قرار بطريقة منطقية وحكيمة بحتة، بل يتخذ بعض القرارات بأكثر الطرق كفاءة استناداً إلى تفاصيل في بيئتنا وداخل أنفسنا لا ننتبه لها في كثير من الأحيان؛ على سبيل المثال، يؤثر الرقم الذي نراه على الحائط قبل شراء منتج في عقلنا الباطن لا شعورياً وفي السعر الذي نكون على استعداد لدفعه مقابل هذا المنتج، كما أن اللون في غرفة الانتظار يؤثر في المدة التي نكون على استعداد للانتظار فيها.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة مثيرة للاهتمام، لكن الأمر المهم هو ملاحظة أن المملكة بدأت بتطبيق هذا المنظور منذ أكثر من عقد من الزمان. ففي البدايات، أذكر أنه كان هناك فريق صغير يعمل على إيجاد حلول مبتكرة لمواجهة تحدي البطالة في ذلك الوقت. وما بدأ بوصفه بحثاً وبرنامجاً مبتكراً واحداً، توسّع ليشمل عدة برامج، واليوم أصبح هناك أكثر من 6 فِرق أو وحدات رسمية متخصصة في علم السلوك.
يضمن علم السلوك تصميم السياسات العامة القائمة على كيفية اتخاذ البشر للقرارات في مختلف السياقات. وقد كانت هذه المنهجية إضافة مرحّباً بها في طريقة العمل الحالية لبعض الجهات الحكومية، مثل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية. ويركز مركز الرياض للسياسات السلوكية في وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية على 3 أهداف، وفقاً لموقعه الإلكتروني:
- تسهيل عملية تنفيذ التدخلات السلوكية من أجل دعم سياسات وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وإصلاحاتها.
- دعم منظومة سوق العمل في المملكة المستندة إلى الأدلة والاسترشاد بها في عملية صنع السياسات.
- إدارة شبكة مجموعة العشرين لتبادل المعارف في المناهج السلوكية.
آفاق علم السلوك
وفي حين نسعى جميعاً إلى تحقيق أهداف رؤية 2030، فإن قطاعات عديدة أصبحت تجني اليوم بالفعل ثمار السياسات والبرامج المستندة إلى علم السلوك. إذ تستخدمها المنظمات غير الربحية بنجاح لجمع التبرعات، وتعمل الكيانات في القطاع الخاص على تحفيز موظفيها في أثناء التحول المؤسسي من خلال دمج هذه الأساليب الجديدة، وتستخدمها بعض الجهات الحكومية لتعزيز الامتثال لمتطلبات محددة.
إن تطوير البرامج الفعَّالة وذات الكفاءة هو أحد أهم مجالات التطبيق الرئيسية. وخلال اجتماع علم السلوك التي نظمه مركز دعم اتخاذ القرار العام الماضي، قدّمت مديرة وحدة علوم السلوك في صندوق تنمية الموارد البشرية، الدكتورة منيرة المحمود، مثالاً على تحفيز عمال توصيل الطعام لإكمال المزيد من الرحلات. فقد أرسلت المنصات رسائل نصية وإلكترونية أسبوعية إلى العمال تضمنت مبادئ سلوكية مثل "معايير اجتماعية"، حيث جرى عرض عدد الرحلات التي قام بها نظراؤهم في شكل رسومات بسيطة وسهلة الفهم. كما جرى استخدام مبدأ "الترسيخ" في استعراض العدد الأدنى من الرحلات للعامل، بحيث أصبح هو الهدف المنشود للمتلقي بطريقة لا شعورية. وقد أدت هذه الاستراتيجيات إلى زيادة عدد الرحلات بنسبة تزيد على 40%، وبالتالي زيادة الإيرادات.
أما في مجال الصحة، فقد كانت استجابة المملكة العربية السعودية لجائحة كوفيد 19 محطَّ تقدير عالمي. وعلى الرغم من توافر اللقاح وإمكانية الوصول إليه، كان التحدي يكمن في تقبّل فئات معيّنة لأخذه. وقد شارك مدير إدارة التغيير السلوكي بوزارة الصحة، الدكتور محمد الحاجي، خلال حلقة بودكاست (966) مثالاً جديراً بالذكر على دور التغيير السلوكي في زيادة الإقبال على التطعيم. حيث استخدم مبدأ "توجيه السلوك بناءً على المعايير الاجتماعية" لإبلاغ الأفراد الذين لم يتلقوا اللقاح أنهم ضمن أقلية صغيرة مقارنة بنظرائهم، ما أدى إلى زيادة نسبة التطعيم لهذه الفئة بمقدار 20%. بالإضافة إلى ذلك، أسهم مبدأ "توجيه السلوك الفردي" في زيادة نسبة التطعيم بنسبة 18%، إذ أبرز الدور الذي يؤديه كل مواطن أو مقيم في حماية مجتمعه في المملكة العربية السعودية ومكانته في مواجهة الجائحة. وقد استندت هذه الاستراتيجيات استناداً فعالاً إلى الفخر الاجتماعي والولاء الوطني لتعزيز النتائج الصحية العامة.
وفي الآونة الأخيرة رأينا مثالاً حيّاً على محاربة الاحتيال المالي وجعل السوق المالي أكثر أماناً باستخدام مجموعة متنوعة من الأساليب، مدعومة بفهم عميق للسلوك البشري. وقد قال الشريك في قسم المؤسسات المالية بشركة كيرني بالشرق الأوسط، الأستاذ صلاح الحموي: "لقد طبّقنا مؤخراً استراتيجيات مالية تدمج فهماً عميقاً للسلوك المالي، ما أدى إلى خفض عدد حالات الاحتيال لأحد عملائنا في القطاع المالي بالمملكة بمعدل قياسي".
إضفاء الطابع المؤسسي على علم السلوك
في السنوات الأخيرة شهدنا 3 محطات رئيسية فيما يخص إضفاء الطابع المؤسسي على هذه المنهجية:
- إنشاء إطار أخلاقي لعلم السلوك: يوفر هذا الإطار إرشادات بشأن التدخلات الأخلاقية في سوق العمل، مع التركيز على مبدأين توجيهيين: تعزيز رفاهية المواطنين والمقيمين ومعاملتهم باحترام. ولتنفيذ هذين المبدأين، يجب تقييم الأدلة للتأكد من أن السياسات أو البرامج تحسّن الرفاهية، ويجب تقديم الشفافية لتجنب الخداع أو التلاعب. يقدم هذا الإطار قائمة عملية للممارسات الأخلاقية، بما في ذلك خطوات للمراجعات الأخلاقية وتقييم الأدلة.
- اجتماع علم السلوك الذي نظمه مركز دعم اتخاذ القرار العام الماضي: مع تزايد الاهتمام بتطبيقات علم السلوك في صناعة السياسات؛ تولدت الحاجة إلى وجود منصة تضم أبرز الدروس المستفادة باعتبار السياق المحلي وأحدث الأبحاث والتجارب العلمية ومشاركة المعرفة؛ إذ نظّم مركز دعم اتخاذ القرار في المملكة العربية السعودية اجتماع علم السلوك في ديسمبر/كانون الأول الماضي 2023 بهدف تعزيز منظومة علم السلوك في المملكة، وتثقيف الرأي العام وتوعيته. وكان فرصة لتبادل الخبرات؛ حيث شملت قائمة المتحدثين ممارسين رائدين في المجال، مثل: كاس سانستين وجون ليست، مع مشاركة جهات محلية عدة، مثل: وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، ووزارة البلديات والإسكان، وصندوق تنمية الموارد البشرية.
- تشكيل جمعية للعلوم السلوكية: التعاون مع أصحاب المصلحة وصناع القرار لإنشاء جمعية للعلوم السلوكية في المملكة العربية السعودية لتضم مجموعة من الأكاديميين والمهتمين والمهنيين والممارسين للعلوم السلوكية، ودعم التعاون وتبادل المعرفة بين المهنيين، ما يعزز الخبرات الجماعية، ويخلق بيئة داعمة للتعليم المستمر والابتكار، ويساعد على بناء شبكات قوية يمكن أن تؤدي إلى تحسين حل المشكلات والنمو المهني.
إضاءة المستقبل المقبل
إن المجال واسع ليصبح علم السلوك ركيزة استراتيجية تدفع عجلة الإنتاجية في جميع أنحاء البلاد إلى تحقيق الرؤية وتشمل جميع الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. وهناك تطبيقات عديدة لهذه الوسائل الفعالة والمنتجة تمتد من مكافحة التنمر إلى تنويع محافظ المستثمرين المحليين، ونحن على ثقة أن تثمر جميعها في تحقيق تقدم إيجابي ودور ريادي في تعزيز تنافسية مملكتنا الحبيبة على الساحة العالمية.