لا بد أنك سمعت على مدار السنوات القليلة الماضية العبارة القائلة أنّ الموظفين المتميزين في المجال التكنولوجي هم رأسمال أي شركة. وتعتبر تلك المواهب أمراً مهماً في أي مكان، إلا أن هناك مشكلة أخرى تتمثل في معدل المداورة فيها، إذ إنه من الصعب جداً جلب أفضل المواهب في المجال التكنولوجي، ومن الأصعب الحفاظ عليها.
إلا أن فرق النخبة في عالم كرة القدم باتت تعرف كيفية جذب أفضل المواهب مع الحفاظ عليها في الوقت ذاته من الرحيل. لكن ما وجه الشبه بين عالم الرياضة وعالم التقنية؟ كيف يفعلونها؟ وكيف يمكن لعالم التقنية التعلم من ذلك؟
هناك الكثير من أوجه التشابه بين عالم كرة القدم وعالم التكنولوجيا، إذ إنه في كلا العالمين يعتبر من الصعوبة بمكان جذب المواهب، كما أن المحافظة عليها هو أمر أكثر صعوبة.
لنلق نظرة بسيطة على هذا الرسم البياني:
تختلف الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة إلا أنه يمكن تلخيصها في ثلاثة أسباب رئيسة. الأول، والأكثر وضوحاً، هو وجود طلب مرتفع بشكل استثنائي على المواهب التكنولوجية؛ أما الثاني، فهو أن تلك المواهب تعاني من "قابلية حركة" محدودة داخل شركاتها، على اعتبار أنها غير قادرة على تغيير أدوارها بقدر ما تريد؛ أما السبب الثالث فهو أن تلك المواهب تغادر بسبب رغبتها في رؤية شيء جديد تماماً، أو خوض تحد جديد، أو تحقيق أثر في مجال مختلف تماماً من الحياة.
لن يتغير الطلب المتزايد وندرة المواهب في أي وقت قريب. بالتالي، تحتاج شركات التقنية إلى النظر في اتخاذ تدابير استراتيجية لمعالجة الخطر وتخفيفه. وتتمثل إحدى طرق تحقيق ذلك في جعل نفسها أكثر جاذبية وفي حالة تناغم مع التقنيين الموهوبين للغاية والذين معظمهم من الشباب من ذوي الدوافع (ولندعوهم بـ "المتحفزين" خلال باقي المقالة). ثانياً، ينبغي أن يجدوا طريقة للحد من آثار التقلب على الشركة على افتراض أنها ستستمر في الحدوث. وكانت نوادي النخبة المحترفة لكرة القدم قادرة على فعل ذلك بأتم وجه على مدار الـ 25 عاماً الماضية. ونقصد بكرة القدم تلك التي تُلعب حقاً بالقدم، لا يرميها الناس بأيديهم ويركضون بها في الملعب ويدعونها "كرة قدم" (ونقصد هنا "كرة القدم الأميركية").
كموظفين، فإن كلاً من العاملين في المجال التقني ولاعبي كرة القدم متشابهين جداً.
ثمة طلب متزايد على كليهما ويتم تقديم مبالغ طائلة للنخبة منهم. ومن اللافت للنظر أن لدى لاعبي كرة القدم من النخبة معدلات دوران مشابهة لتلك التي نراها لدى "المتحفزين" المذكورين أعلاه.
وعلاوة على ذلك، يتحرك كلا المتحفزين من عالم التقنية وكرة القدم بالأثر وذلك على الرغم من المكافآت المالية المرتفعة. فمن الضروري أن يُحدث المتحفّزون في مجال التقنية أثراً من خلال عملهم، إذ إنهم يريدون تغيير العالم عن طريق حل مشكلة، أو الإخلال بشيء ما، أو جعل شيء آخر أسهل، أو غير ذلك. ومن الصعب للغاية جذب مثل هذه المواهب إلى وظيفة "منخفضة التأثير" ومملة من خلال الأجور المرتفعة فقط.
وينطبق الأمر ذاته على لاعبي النخبة في كرة القدم؛ فعلى الرغم من تقاضيهم رواتب عالية للغاية بغض النظر عما إذا كانوا يلعبون أم لا، يبقى هدفهم الرئيس متمثلاً في اللعب وإحداث الأثر. لقد أبهرني دائماً أن في إمكان معظم هؤلاء اللاعبين التدرب بشكل بسيط خلال الأسبوع، وعدم اللعب والإصابة بالتوتر والإجهاد في المباريات في عطلة نهاية الأسبوع مع بقاء تلقيهم لأموال جيدة جداً؛ ولكنهم لن يكونوا سعداء ولا مرتاحين إن قاموا بذلك.
إلا أنّ الأمر الجدير بالملاحظة هنا هو أن تقلبات لاعبي كرة القدم لا يبدو أنها تؤثر على أداء الفريق على المدى الطويل. حتى المدراء يأتون ويذهبون بمعدل مماثل من دون حدوث تغيير في أداء الفريق على المدى الطويل.
ولوضع هذا في المنظور الصحيح، يأتي ويغادر أبرز اللاعبين والأكثر أهمية لفرق كرة القدم كل سنتين إلى أربع سنوات من دون التأثير بشكل كبير على أداء الفريق أو هويته. ويعني هذا في عالم التقنية تغيير معظم مهندسي الشركة الرئيسيين ومديرها التنفيذي كل سنتين إلى أربع سنوات مع بقاء تلك الشركة ناجحة. وتفعل فرق كرة القدم ذلك بنجاح من خلال الحيل الأربع التالية.
أربع حيل على عالم التقنية أن يتعلمها من كرة الكرة. تعتبر هيكلية فريق كرة القدم وطريقة عمله مناسبة للغاية لجذب الشباب الموهوبين والمتحمسيّن والمحافظة عليهم. وهناك الكثير من الدروس والحيل التي يمكن لصناعة التقنية تعلمها من كرة القدم على الرغم من معدلات التقلب المماثلة.
قابلية التنقل: الفرصة للتحرك عبر الهيكلية
توفر بنية نادي كرة القدم عمقاً وسعة كافيين لتمكين قابلية تنقل مرتفعة في أدوار اللاعب، فهناك فريق مؤلف من 11 لاعباً وراءه فريق مؤلف من 22 لاعباً على الأقل ومجموعة أكبر من اللاعبين المتعاقَد معهم. وهناك أدوار مختلفة وتصنيفات مختلفة والعديد من الجوائز الشخصية. بالإضافة إلى وجود أدوار التدريب والإدارة التي يقوم بها اللاعبون في سن معينة. ويتنقل اللاعبون بين الأدوار المختلفة بمعدل مرتفع بسبب الدورات القصيرة، ما يجعل الإثارة عالية ويسمح بالتطور الشخصي.
وبالنسبة لشركات التقنية، يعني هذا التأكد من وجود "مسارات" كافية في حياة موظفيها، حيث يجب عليها أيضاً توصيل هذه المسارات بشكل واضح، وينبغي أن تخدم مختلف الشخصيات التي قد تكون لدى فئة المتحفزين. ففي موتيوس (Motius)، نهدف إلى خلق أفق مدته 5 سنوات لمختصي التقنية يتضمن مسارات مختلفة تتوافق مع "الشخصيات" المختلفة لهؤلاء المختصين.
دورات قصيرة: إثارة مستمرة، وتركيز قوي وتضحية متكررة
إنّ طبيعة كرة القدم بشكل عام قصيرة الأجل، فهناك لعبة كل 4 إلى 5 أيام وسطياً، وهناك دوري ممتد على فترة 10 أشهر في المتوسط يمثل بدوره دورة العمل الأطول لدى لاعب كرة القدم. ولهذا المدى القصير مزايا كبيرة في إدارة المتحفزين، إذ يوفر الإثارة والتركيز والتضحية، مع عدم وضوح الخطوة التالية أغلب الوقت. إنه دورة قصيرة بما يكفي لمنعك من الشعور بالملل، لكنها ليست قصيرة بما يكفي لفقدان معناها وقيمتها، الأمر الذي يجعل الحياة فيها منعشة ومثيرة.
وعلاوة على ذلك، ونظراً لحدوث حدث مهم قريباً جداً، تركز جميع الأنشطة والجهود المبذولة خلال الدورة القصيرة على هدف واضح للغاية وهو الفوز باللعبة. إذ نادراً ما يقضي المدراء وقتاً خلال الأسبوع في العمل مع اللاعبين على شيء آخر بخلاف المباراة القادمة. ويعطي هذا التركيز هدفاً ملموساً جداً لجهود اللاعبين يعمق إحساسهم بالمهمة والإنجاز والتأثير.
وأخيراً، تمثل كل دورة فرصة للاعبين للبدء (تقريباً) من جديد، فهي فرصة للتعويض عن الأخطاء وتحسين الأداء السيئ وتقديم أداء جيد وتغيير العقلية. ونظراً لأن الدورات قصيرة جداً، يكون خطر الوقوع في حالة معينة ضئيلاً. بالتالي، لا يحتاج اللاعب بالضرورة إلى مغادرة الفريق للحصول على فرصة جديدة نظراً لأنها دائماً موجودة وعن قرب. علاوة على ذلك، فإن الدورات القصيرة تغذي القدرة على الحركة داخل الهيكل الذي تمت مناقشته أعلاه.
وسيكون لتبني دورات قصيرة في شركة تقنية الأثر ذاته، إذ ستبقى الإثارة مستمرة عبر السماح للتقدم المستمر. كما أنها ستساعد في أن يكون تركيز العمل على تحقيق أهداف قصيرة الأجل، سواء أكانت تشغيلية أم استراتيجية أو تطويراً ذاتياً. وفي الوقت نفسه، سيقلل هذا من السلبية لعدم تحقيق تلك الأهداف من خلال تقديم نافذة أخرى على المدى القصير.
ويعني اعتماد مثل هذا النهج أشياء مختلفة لشركات مختلفة. ففي شركة موشيوس حيث أعمل، نقوم بتصميم رحلة المتحفزين الخاصة بنا لتشمل بوابتين في السنة يمكن للمتحفز من خلالها التقدم إلى دور جديد مع حزمة ميزات جديدة. وتتألف كل دورة من 6 أشهر ولها أهداف تطوير تشغيلية واستراتيجية وشخصية واضحة يركز عليها المتحفزون. ويتطلب تصميم هذه الرحلة هندسة دقيقة للمهام والامتيازات وأنظمة التعويض والتفاعل بين الأدوار.
إنشاء مصادر وقنوات للتعرف على التدفق
من المعروف الآن أنّ الأجيال الشابة تسعى جاهدة للتقدير والانتباه وتتفاعل معه بشكل جيد. ولقد أتقنت فرق النخبة في صناعة كرة القدم مهارة إنشاء مصادر تقدير للاعبين وإنشاء قنوات لتوصيل ذلك التقدير للاعبين. فهناك ثلاثة مصادر أساسية لتقدير اللاعبين؛ أولها الزملاء من لاعبي الفريق إلى المدرب إلى الإدارة إلى الموظفين الإداريين وباقي الأشخاص. ولدى تلك الفرق طقوسها الخاصة عندما يتعلق الأمر بتوجيه هذا التقدير تتمثل في تقديم الجوائز الشخصية، وذكر اسم لاعب محدد بعد المباراة، ومنح امتيازات أرضية تدريب معينة، وغير ذلك. أما المصدرين الثاني والثالث فهما متأصلان بالطريقة التي تعمل فيها صناعة الرياضة وهما المشجعون والجمهور العام. فكل شيء بدءاً من الملاعب مروراً بالتغطية التلفزيونية والصحافة الرياضية ووصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي هي قنوات لجذب الانتباه والتقدير للاعبين. والأهم من ذلك، أن التقدير لا يتم توجيهه بشكل عشوائي، إنما يقترن ببعض العروض والأدوار في الفريق. فلاعبو الفريق الأساسي الـ 11 يلعبون أمام الجماهير، ويحصل رجل المباراة على مقابلة ويظهر الهداف في مقاطع الأخبار. ويمثل هذا الاعتراف وقوداً إضافياً لحركة اللاعبين ويجعلهم يسعون لأجل ذلك.
ولدى مختصي التقنية الشباب نفس تلك الرغبة، حيث يمكن لشركات التقنية أن تقدم اعترافاً بنفس القوة، وقنوات بنفس الفعالية كما هو الحال في صناعة الرياضة. وفي الواقع، يمكن تطبيق تقدير الزملاء والمشجعين والجمهور في عالم التقنية بنفس طريقة تطبيقه في عالم الرياضة.
ويوفر الزملاء تقديرهم لمختصي التقنية في المقام الأول بناء على قدراتهم ومساهمتهم في العمل الجماعي. وتتمثل مهمة المدراء في إنشاء قنوات لتدفق هذا التقدير. ومن المهم أن نشير هنا إلى أن تقنيي العصر الحديث لا يحبون فكرة "موظف الشهر" وما يشبهها، لكن هناك في الوقت نفسه طرق مناسبة كثيرة أخرى للتأكد من حصول الأشخاص المناسبين على القدر المناسب من التقدير في مكان العمل.
لا يقل إدراك الأثر أهمية عن الأثر ذاته. بالتالي، يسهم التقدير المقدم من المستخدمين أو العملاء بشكل كبير في الأثر المتصور، وبالتالي، فهو مصدر مهم آخر للاهتمام. وهذه خطوة أبعد من مجرد جمع ملاحظات العملاء، إذ تحتاج الشركات التقنية إلى إنشاء قنوات لها حتى يمكن توصليها مباشرة إلى الموظف المختص تحت مرأى من زملائه.
وكما هو الحال في الرياضة، يقدم الجمهور مصدراً مهماً جداً للتقدير، ويجب أن تضع الشركات موظفيها كقادة فكريين ومساهمين رئيسيين ومعلقين في الدوائر ذات الصلة. قد لا تكون هذه ملاعب، لكنها تحقق نفس القدر من الفاعلية لدى المتحفزين. ولقد رأيت خلال الجلسات المتعددة التي أجريتها خلال عملي على هذا المقال كيف تقوم الشركات بتطبيق الفكرة التي مفادها أن عليها إخفاء أفضل موظفيها حتى لا تجذبهم شركة أخرى. لن ينجح هذا مع المتحفزين، فإذا رغبوا في المغادرة، سيفعلون ذلك قطعاً. وكل ما يمكنك القيام به كشركة هو التأكد من تقديمك لهم منصة أفضل للتألق مقارنة ببقية الشركات الأخرى.
الهوية ثابتة إنما يمكن أن تتغير الاستراتيجية
لدى فرق النخبة لكرة القدم إجابة جيدة عن سؤال مهم جداً في البيئات الديناميكية: ما هو المسموح بتغييره وما هو الممنوع؟
تتقبل فرق كرة القدم في مواجهة تقلبات اللاعبين والمدراء أن التكتيكات واستراتيجية كرة القدم ستتغير إنما يجب ألا تتغير الهوية والثقافة، وهو الأمر الذي يعتبر بدوره مهماً لجذب المواهب، إذ لا تنجذب أفضل المواهب الشابة إلى استراتيجية معينة، بل إلى هوية؛ فنادراً ما ينضم المتحفزون إلى شركة لأنهم يحبون استراتيجيتها، بل ينضمون إليها لأن لديها هوية يحبونها وثقافة يشعرون بالراحة فيها.
ولدى فرق كرة القدم بعض الطرق للحفاظ على الهوية والثقافة في بيئة ديناميكية. أولاً، هناك دائماً مجموعة أساسية من اللاعبين الذين يبقون في الفريق لفترة طويلة ويمثلون الناقل الرئيس لتلك الهوية في الفريق. ثانياً، يتم دعم تلك الهوية من خلال تدريب مستقر وموظفين إداريين - من لاعبين سابقين - يقومون ببناء العمود الفقري للهوية والتأكد من تكيّف القادمين الجدد معها، وهكذا تعزز الثقافة نفسها من خلال تمكين الوكلاء الثقافيين من نشرها وتنظيمها. ولن يكون في إمكان أي أحد إسقاط ثقافة من قمة الهرم إلى أسفله، حتى لو كُتبت تلك القيم بألوان برّاقة على كل جدران المكاتب.
ويمكن لشركات التقنية اعتماد عنصرين من هذا النهج. فعليها أولاً تحديد المتحفزين ذوي الوضع الجيد ووضعهم في "حاملات الهوية". ويجب أن يتم ذلك من خلال تمكينهم بالتدريب والمال والوقت لأداء هذا الدور. ثانياً، يتعين على الشركات التأكد من أن هيكلها الداعم مستقر (مع تقلب بسيط) ولديه نفوذ كاف داخل المؤسسة لنقل الثقافة وتعديلها وتعزيزها.
يتصل كل شيء بهيكلية التدفق
خلاصة القول هنا، هي أنّ فرق كرة القدم وجدت طريقة لإدارة هيكلية التدفق بكفاءة. فهيكلية التدفق هي بنية تحتوي على عناصر "ثابتة" ومنتظمة مع عناصر متقلبة عن عمد، والتحدي الواجب العمل عليه هنا هو إتقان مثل هذه الهيكلية. وكانت الفكرة الكاملة وراء تأسيس شركتنا متمثلة في استخدام هيكلية التدفق لاكتساب ميزة تنافسية في التقنيات الناشئة، حيث تتيح لنا هيكلية مثل هذه البقاء دائماً على مقربة من التقنية الجديدة، وبالتالي أن نكون الأفضل في بناء منتجات التقنية في المستقبل.
وعلى الرغم من كوننا شركة تقنية، فإن مهمتنا هي أن نكون أفضل مكان ممكن لمختصي التقنية والتي ستكون بدورها الطريقة الوحيدة التي نضمن بها ميزة تنافسية أمام البقية. ولا يمكننا تصور القيام بذلك دون هيكلية تدفق.
ملاحظة: لقد عمل المؤلف بجد لإبعاد كل التورية المتصلة بالكرة من المقال، حيث تلافى ذكر أمور مثل "مصيدة التسلل" و"كل ما يهم هو النقاط الثلاث" و"البطاقة الحمراء"، "التسجيل في الوقت المحتسب بدل الضائع" وغيرها الكثير.