ملخص: إذا كان أحد موظفيك يعاني ألماً مزمناً، فهل تعرف ذلك؟ وإذا عرفت، فهل تعرف كيف تساعده في محنته؟ تتزايد ظاهرة تعرّض العاملين الأميركيين لآلام مزمنة، ومع ذلك، فقد أثبت استقصاء أُجري مؤخراً بمشاركة عدد من الرؤساء التنفيذيين أن الأغلبية الكاسحة من قادة الشركات لا يعرفون كيفية مناقشة الموضوع مع موظفيهم، ولا طريقة تقديم يد العون لهم، على الرغم من إدراكهم لحجم المشكلة. ويجب عليهم أولاً أن يُبدوا استعدادهم التام لدعم هؤلاء الموظفين من خلال الاستماع، ولكن دون الضغط عليهم للبوح بأي تفاصيل عن ظروفهم الصحية. ثانياً: يمكنهم تركيز جهود مؤسستهم على الوقاية من الإصابة بالآلام المرتبطة بالعمل. ثالثاً: يمكنهم تصميم المهمات الوظيفية بطريقة تراعي كلاً من الاستقلالية وتنوع المهارات. رابعاً: يمكنهم إتاحة المرونة في تحديد مواعيد العمل. خامساً، وأخيراً: يمكنهم زيادة موارد علاج الآلام المزمنة في شركاتهم.
حاول فريد تقييم الموقف، بعد أن انزوى بنفسه مستلقياً بلا حراك في الظلام الدامس حتى لا يتسبب في تفاقم المشكلة. لم يكن يفيق إلا بضع دقائق في أول النهار يحاول خلالها تقييم مدى الألم الذي سيعانيه اليوم. لا شك في أن الشعور بالتعب قد يمثل مشكلة للمرء، لكن العمل في ظل الإحساس بالألم المبرح يمثل مشكلة أكبر وأشد خطراً.
في تلك الأثناء كان جورج، مدير فريد، يحاول أيضاً تقييم عواقب يوم آخر حافل بالمتاعب. إذ تتضاءل ثقته يوماً بعد يوم في فريد بصفته عضواً مهماً في الفريق، فهو يضيع الكثير من الوقت ولا يرقى مستوى أدائه في كثير من الأحيان إلى المستوى المعهود عنه عندما قَدِمَ إلى العمل.
لقد باتت الآلام المزمنة ظاهرة شائعة الانتشار بين العاملين على اختلاف فئاتهم. فقد أثبتت الدراسات أن ما يصل إلى 40% من العاملين الأميركيين يعانون آلاماً مزمنة، مثل فريد، آلاماً تستمر لأكثر من 3 أشهر. وهذه النسبة تفوق نسبة المصابين بالسرطان وداء السكري وأمراض القلب مجتمعة. ويشير ارتفاع معدلات قوة العمل المسنة وساعات العمل الطويلة والوظائف المرهقة، بالإضافة إلى المتاعب الناجمة عن تفشي فيروس كورونا المستجد وضعف القدرة على تلقي العلاج خلال الجائحة، إلى أن ظاهرة الشعور بالآلام المزمنة في العمل ستزداد شيوعاً، وبالتالي ستزداد أهمية علاجها في المستقبل القريب.
وعلى الرغم من ذلك، فإن أي شخص معرض للإصابة بالآلام المزمنة، وغالباً ما يصاب بها الإنسان دون أن يشعر بسبب العوامل الجينية والبيولوجية والاجتماعية والنفسية. وقد يصاب المرء أيضاً بآلام مزمنة بسبب العوامل البيئية، مثل الوظائف المرهقة جسدياً أو التوتر المزمن. ويكاد يكون من المستحيل بالنسبة للكثير من العاملين التخلص نهائياً من الآلام المزمنة.
ومن ثم، فإن الآلام المزمنة ترتبط بارتفاع معدلات الغياب وتراجع مستوى الأداء الوظيفي وضعف التركيز وانهيار القوى الجسمانية والشعور بالضجر في التعامل مع زملاء العمل والعملاء. وهو ما أوضحه مندوب مبيعات كنا قد أجرينا معه مقابلة شخصية في دراسة منفصلة، إذ قال: "يسبب لي الشعور بالألم مشاكل كثيرة لأنني لا أستطيع القيادة لمسافات طويلة. وبالتالي، لا أستطيع مقابلة العملاء الذين أريد مقابلتهم لأنني أشعر بآلام مبرحة في ظهري. فالجلوس في وضع واحد لفترة طويلة من الزمن أمر غير مريح بالمرة". وعلّق موظف في شركة بيع بالتجزئة على هذه المسألة، قائلاً: "أتعامل مع الناس بكثيرٍ من الضجر في بعض الأيام... لقد سئمت الألم لأنه يجعلني حاد الطبع في بعض الأحيان، وهذا ليس بالسلوك الجيد لمن يعمل في خدمة العملاء".
ومع ذلك، فغالباً ما تكون الآلام المزمنة غير ظاهرة على الموظفين لأنهم عادةً ما يبذلون جهوداً مضنية لمداراتها. وقد لا تظهر الأعراض الجانبية للآلام على الموظفين في بعض الأيام، وقد يبدو عليهم الشعور بالإنهاك التام في أيام أخرى. ونتيجة لذلك، قد يشعر مدراء، مثل جورج، بالإحباط تجاه الموظفين الذين لا يرقى مستوى أدائهم إلى مستوى التوقعات دون سبب واضح.
وقد يتسبب كل هذا في تداعيات سلبية لكلٍّ من العاملين وأصحاب العمل. وتُقدر الخسائر السنوية للآلام المزمنة بسبب تراجع الإنتاجية بنحو 216 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها. وإذا أضفنا إليها تكاليف العلاج، فإن إساءة إدارة الآلام المزمنة ستتسبب في زيادة الأعباء المالية الملقاة على كاهل الاقتصاد الأميركي. وفي أسوأ السيناريوهات، غالباً ما ينتهي الأمر بالأفراد الذين يعانون آلاماً مزمنة إلى الفقر بسبب ارتفاع تكلفة العلاج الطبي وعجزهم عن الحفاظ على العمل.
الآلام المزمنة مشكلة تخص القيادة
من الواضح أن الآلام المزمنة تمثل مشكلة تؤثر في كلٍّ من الموظفين والشركات. ولكن إلى أي مدى يعرف المدراء مدى انتشار الآلام المزمنة وكيفية مساعدة الموظفين الذين يعانونها؟
أجرينا استقصاء في شهر سبتمبر/أيلول 2020، شمل 500 مسؤولاً رفيع المستوى بعدد من الشركات الأميركية تناولنا خلاله مسألة الآلام المزمنة. وأثبتت النتائج أن قادة الشركات الأميركية على دراية ومعرفة محدودتين بكيفية قيادة أولئك الذين يعانون آلاماً مزمنة. وعلى الرغم من أن 80% من القادة يدركون أن الآلام المزمنة تمثل مصدراً للقلق في مؤسساتهم، فإن النسبة ذاتها من القادة (80%) لا يعرفون كيفية التعامل مع الموظفين الذين يعانون هذه الآلام، وأراد 77% منهم معرفة ما يمكنهم فعله من منطلق موقعهم كقادة لمساعدة موظفيهم في محنتهم تلك.
واستناداً إلى نتائج بحثنا وبحكم خبرتنا العملية في التعامل مع الأمراض المزمنة الأخرى، مثل متاعب الصحة العقلية في مكان العمل، فقد اعتمدنا على نموذج قائم على الأدلة للوقاية والتدخل وتهيئة الظروف الملائمة، ويتألف هذا النموذج من الاستراتيجيات الخمس التالية:
1. إظهار الاستعداد لدعم الموظفين الذين يعانون آلاماً مزمنة من خلال الاستماع
عندما طلبنا من الرؤساء التنفيذيين تقديم اقتراحاتهم حول كيفية مساعدة الموظفين الذين يعانون آلاماً مزمنة، كان الاستماع والتواصل الفاعل هما أكثر الاستراتيجيات المقترحة شيوعاً. وعلى الرغم من ذلك، فقد أفاد الكثير من القادة بأنهم يشعرون بعدم ارتياحهم لمناقشة الآلام المزمنة والمعوقات الناجمة عنها مع موظفيهم أو عدم استعدادهم لمناقشتها، وقد يشعر الموظفون أنفسهم أيضاً بالتردد في الحديث عن ذلك بسبب خوفهم من وصمة العار أو تعرضهم للتمييز أو فقدان وظائفهم. ومع ذلك، فإن مثل هذه المحادثات تشكّل في معظم الأحيان بداية حقيقية لإيجاد حلول فاعلة.
وننصح هنا بألا يضغط القادة على موظفيهم للإفصاح عن أي معلومات حول آلامهم المزمنة من خلال طرح أسئلة محددة تتعلق بهذه الآلام أو مطالبة الموظفين بالكشف عن آلامهم. لكننا ننصح أيضاً بالانفتاح على الاستماع والدعم عندما يقرر الموظفون إجراء مثل هذه المحادثات.
بالإضافة إلى ذلك، فقد يشعر الموظفون بالارتياح عند الكشف عن التحديات الناجمة عن شعورهم بالآلام المزمنة التي يواجهونها إذا تأكد لهم ببساطة أن قادتهم مهتمون بالحفاظ على صحتهم وسلامتهم. فعلى سبيل المثال: قد يكون سؤال موظفيك عن رأيهم في كيفية تحسين معايير الصحة والسلامة في مؤسستك بداية جيدة. وإذا لم تكن متأكداً من كيفية التعامل مع الموقف، فيمكنك التعبير عن رغبتك في المساعدة بسؤال موظفيك عن كيفية مساعدتهم على التخلص من مخاوفهم المتعلقة بالآلام.
2. التركيز على الوقاية من الإصابة بالآلام المزمنة المرتبطة بالعمل
ينصح خبراء بيئة العمل عادة بالتخلص نهائياً من عادة تكديس الأشياء على الأرض. ويشيرون إلى أن الموظفين غالباً ما يضطرون إلى الانحناء لرفعها. فعلى الرغم من محاولات تعليم الموظفين لسنوات كيفية الارتكاز على الركبتين ببساطة دون انحناء الموظف بظهره، فإنها لم تفلح حقيقة في تقليل الإصابات، وبالتالي، فإن التخلص من الحاجة إلى الانحناء في المقام الأول هو الحل الأفضل.
وقد تكون أماكن العمل في كثير من الأحيان مصدراً للإصابة بالآلام المزمنة. فالأعمال التي تستلزم رفع أوزان ثقيلة أو الوقوف طوال اليوم أو العمل في أوضاع غير ملائمة يمكن أن تتسبب في الإصابة بالألم أو في تفاقمه. ويمكن الوقاية من إصابة الكثير من العاملين بآلام مزمنة من خلال الاهتمام المكثّف بظروف العمل وتحديد المخاطر المحتملة والقضاء عليها من جذورها. فعلى سبيل المثال: إذا كان لدى شركتك خبير في الصحة والسلامة المهنية بين الموظفين، فاحرص على التشاور معه لتحديد الأوضاع التي يمكن أن تفاقم الآلام أو تحدثها.
3. مراعاة الاستقلالية وتنوع المهارات في تصميم المهمات الوظيفية
يشير تصميم المهمات الوظيفية إلى تحديد واجبات الموظفين ومسؤولياتهم المتعلقة بمهمات عملهم. وقد أثبتت عقود من أبحاث تصميم المهمات الوظيفية أن توفير الاستقلالية وحُسن استغلال مهارات الموظفين مطلبان ضروريان للعمل الصحي والآمن. كما أن الاستقلالية وحُسن استغلال المهارات لهما آثار إيجابية أيضاً على قيادة الموظفين المصابين بآلام مزمنة لأنهما يتيحان للموظفين القدرة على اختيار أنسب الأساليب والمواعيد لأداء مهمات عملهم بما يلائم قدراتهم الشخصية خلال فترات زمنية معينة. فعلى سبيل المثال: أجرى اثنان منّا دراسة، أوضح خلالها أحد الموظفين أن حصوله على الاستقلالية أتاح له القدرة على الاستمرار في العمل، حيث قال: "لا أستطيع إنهاء المهمات المسندة إليّ في الأيام التي يداهمني فيها الشعور بآلام مبرحة. ودائماً ما يخطر ببالي أنني إذا شعرت بالألم، فلن أحاول العمل على المشاريع التي تتطلب بذل الوقت والتركيز".
ولا يمكن الفصل بحال من الأحوال بين هذه الاستقلالية وتنوع المهارات. فقد يؤدي العمل في وظيفة تتطلب مهارات متعددة إلى استبقاء الموظفين الذين يعانون آلاماً مزمنة وعدم فصلهم من وظائفهم حتى عندما يعانون الألم. وعلى سبيل المثال: لا يزال بإمكان رمزي، مندوب مبيعات يعمل في قطاع الأدوية، أداء مهمات وظيفته بفضل تنوع مهاراته، حتى عندما يعجز عن السفر للعمل بسبب شعوره بالألم. وهو ما عبّر عنه بقوله: "أضطر أحياناً إلى إلغاء بعض المواعيد، [لكنني] لا أتذرّع بالمرض. فلديّ الكثير من المهمات الأخرى التي يمكنني إنجازها على جهاز الآيباد والكمبيوتر المحمول... وهي تستهلك بعض الوقت".
وبمقدور القادة من منطلق مسؤوليتهم عن تصميم المهمات الوظيفية في مؤسساتهم مراعاة الاستقلالية وتنوع المهارات عند تصميم كل وظيفة، حتى يستطيعوا مساعدة الموظفين الذين يعانون آلاماً مزمنة.
4. إتاحة المرونة في تحديد مواعيد العمل
ليس من الضروري أن يتم إنجاز العمل في المنشآت المملوكة للمؤسسة، وهي الحقيقة التي ظهرت بوضوح للمؤسسات خلال جائحة "كوفيد-19"، وذلك حينما انتقل ملايين الموظفين إلى العمل من المنزل. وقد أثبت بحثنا بشكل عام أن الأداء لا يتأثر إلى حدٍّ كبير بالعمل عن بُعد، وأن بعض جوانب العمل، مثل التعاون، شهد تحسناً ملموساً عند العمل من المنزل.
وقد يعني الشعور بآلام مزمنة أن الفرد يمكن أن يكون أكثر إنتاجية عند عمله من المنزل أو عندما تتاح له المرونة في تحديد مواعيد العمل بحيث تتناسب مع احتياجاته الجسدية. وعلى الرغم من تخوف القادة من التشكيك في نزاهتهم على اعتبار أنهم "يحابون بعض مرؤوسيهم"، فبإمكانهم التوسع في إتاحة المرونة فيما يخص ترتيبات العمل، بحيث تشمل الكثير من الموظفين، ما يزيد من الاندماج العام في مكان العمل مع إتاحة أفضلية خاصة للموظفين الذين يعانون آلاماً مزمنة.
5. زيادة إمكانية الحصول على موارد علاج الآلام المزمنة في المؤسسة
أثبت بحثنا أن الموظفين يحتاجون إلى تمكينهم من الحصول على الموارد اللازمة لعلاج آلامهم وأداء مهمات عملهم، والأهم من ذلك أن يحصلوا عليها في الوقت المناسب. إذ يمكن إحداث فارق ملموس بالاستفادة من الموارد المتاحة، مثل مجموعات دعم المصابين بالألم في مكان العمل أو شراء أثاث مريح، إلى جانب توفير حزم المزايا السخية. وعادةً ما يناط بالقادة تخصيص الموارد اللازمة واتخاذ القرارات المتعلقة بالموارد في مكان العمل، لذا فهم أقدر الناس على إتاحة الموارد المتعلقة بإدارة الآلام.
كيف ذلك؟ بدأ الكثير من المؤسسات الكبيرة، مثل القوات المسلحة الأميركية، تقديم برامج إدارة الآلام المزمنة للموظفين والمشرفين عن طريق توعيتهم بسبل علاج الآلام وإجراء تقييم دوري لمسبباتها في مؤسساتهم وإتاحة القدرة على الوصول إلى أدوات تخفيف الآلام. وقد سارت شركة "يو إس فودز" (U.S. Foods) على خطاها، وشرعت في تنفيذ مبادرات مبتكرة، مثل تتبع صحة العضلات والهيكل العظمي باستخدام التقنيات التكنولوجية القابلة للارتداء. وأفادت الشركة بتراجع مطالبات التأمين المتعلقة بالإصابة بالألم بنسبة 50%.
كما أثبت بحثنا أيضاً أن توافر الموارد لا يعني بالضرورة أن الموظفين سيستخدمونها. ويمكن أن يلعب القادة دوراً مهماً في تسهيل الحصول عليها. لذا يجب أن تتضمن البرامج المؤسَّسية تدريباً مكثفاً للقادة حول كيفية التعرف على الأوقات التي يعاني فيها موظفوهم آلاماً مزمنة وكيفية إجراء محادثات حول المشكلة وكيفية إحالة الموظفين إلى الموارد المناسبة. فعلى الرغم من أن القادة قد يرون أن الاستشارات الصحية لا تشكّل جزءاً أصيلاً من مهمات منصبهم، فإننا نرى أن مساعدة الموظفين على التعامل مع القضايا التي تؤثر فيهم وفي مكان العمل هي جوهر القيادة الفاعلة.
إذ تعتبر الآلام المزمنة مشكلة معقدة تتألف من عناصر بيولوجية واجتماعية ونفسية. ولا يزال الباحثون يحاولون فهم الآلام المزمنة على نحو أفضل. وعلى الرغم من ذلك، فإن القادة سيواجهون المشكلة بشكل أكثر شيوعاً في المستقبل، إذا لم يكونوا قد واجهوها فعلياً. ويمكن أن تسهم استراتيجياتنا العملية الخمس في مساعدة كلٍّ من الموظفين والمؤسسات. وكما هي الحال دائماً، فإن القيادة الفاعلة في هذا السياق تعتمد على الاستماع إلى الموظفين والتعلم منهم. فثق بهم عندما يبوحون لك بشعورهم بآلام مزمنة.