حان الوقت لتبني عقلية جديدة للتأقلم مع المسارات المهنية الحديثة

7 دقيقة
أزمة منتصف العمر
shutterstock.com/ImageFlow
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: بدأ مجتمعنا تدريجياً تغيير الطريقة التي ننظر بها إلى أزمة منتصف العمر وأي نقلة أخرى في الحياة على أنها فترة تحول وتجديد. من هذا المنظور، نرى أن الأزمة مرحلة انتقالية تؤدي إلى واقع أفضل في المستقبل. بالنظر إلى حياتنا المهنية من خلال منظور التحول والتجديد سنتمكن من اكتساب رؤى وفرص جديدة، خاصة عندما يسود العالم قدر كبير من الاضطرابات وعدم اليقين. “عقلية مجاراة التغيير” هي القدرة على رؤية التغييرات غير المتوقعة وغير المرغوبة من منظور الأمل لا الخوف، ورؤيتها فرصاً للتعلم والنمو لا مخاطر يجب مقاومتها أو إنكارها. فكر في عقلية مجاراة التغيير بصفتها قوة ذهنية تساعدك على التكيف مع التغيير؛ لا يمكنك تجنب الانتقال إلى مرحلة منتصف العمر، وبالمثل لا يمكنك التحكم في الأحداث العالمية أو الاقتصادية، وقد أدى ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي وتزايد قوته بسرعة كبيرة إلى تضخيم هذه المخاوف، ففي ظل المناخ الحالي لا تبدو أي وظيفة آمنة، ولا يبدو أي مسار مهني مضموناً، ولربما أصبحت المهن التي كانت تُعد آمنة سابقاً مهددة الآن. في هذا الوضع، كيف يمكننا تسخير عقلية مجاراة التغيير اليوم من أجل الاستعداد للمستقبل بصورة أفضل؟ يناقش الموضوع الرئيسي للمقالة نظرتنا لمساراتنا المهنية وطريقة حديثنا عنها. لدى الشركات اليوم فرصة غير مسبوقة للمبادرة إلى صياغة معايير وبنى تنظيمية وسياسات جديدة يمكن أن توقع أثراً إيجابياً على عملنا على مدى العقود المقبلة.

شهدت السنوات الأخيرة تغييرات كبيرة في قوة العمل وأماكن العمل وأعبائه تتجاوز التغييرات المتعلقة بالعمل عن بُعد والعمل الهجين إلى حد بعيد، وتغيرت جوانب العمل جميعها تقريباً بطريقة ما؛ بات أصحاب المواهب من مختلف الأعمار يعيدون التفكير في خياراتهم المهنية، يتساءلون عن كيفية العمل ومكانه ومع من يجب أن يعملوا، وحتى لماذا يجب عليهم شغل وظيفة معينة أو إنشاء هوية مهنية محددة. تسبب المؤسسات هذه التحولات وتتأثر بها؛ فهي من ناحية تتأثر بهذه القوى وتقع تحت ضغط أصحاب المصالح المختلفين (والمتنافسين غالباً) للاستجابة بطريقة مسؤولة، ومن ناحية أخرى تمنح هذه التغييرات الشركات فرصة فريدة للمبادرة إلى صياغة معايير وبنى تنظيمية وسياسات جديدة يمكن أن توقع أثراً إيجابياً على عملنا على مدى العقود المقبلة.

فللنظر إلى المؤشرات التالية التي توضح حجم التغيرات في الوظائف والمهن ومستقبل العمل:

عند النظر في هذه العوامل معاً لن يبدو المستقبل واضحاً بالنسبة لقادة الموارد البشرية، وسيتساءلون: هل ستتمكن الشركة من التكيف مع هذه التغييرات أم ستتخلف عن الركب؟

في ضوء الوضع الحالي لسوق العمل لا يجد الموظفون أي مسار مهني “آمناً” (لذلك سيفكرون في الاستمرار بالتنقل من وظيفة إلى أخرى أو الاستقالة بصمت) ولا يجدون عروض عمل مضمونة (فيفكرون في العمل المستقل)، ولا يجدون شركة توفر لهم الأمان أو الرضا الوظيفي على المدى الطويل، لأن مستقبل العمل غير مؤكد. أصبحت بيئة العمل أشبه بحقل ألغام مليء بالمشاكل المحتملة التي يمكن أن “تنفجر” في أي لحظة، وهنا يصبح السؤال كما يلي: هل ستتمكن من التكيف مع هذه التغييرات أم أنك ستتخلف عن الركب؟

يمكن لقادة الموارد البشرية والموظفين إعادة النظر في مساراتهم المهنية بطرق تؤهلهم للمستقبل بدءاً من اليوم.

إعادة النظر في “أزمة” المسار المهني

أولاً، فلننظر إلى مفهوم الأزمة وطرق فهمنا ومناقشتنا له على المستوى الفردي. في الثقافات الغربية، غالباً ما تستحضر كلمة “الأزمة” صور الدمار والكوارث، تعود أصول كلمة الأزمة (crisis) بالإنكليزية إلى الكلمة اليونانية (krísisوتعني القدرة على التمييز أو المحاكمة أو التحديد. ومن هذا المنظور يمكن النظر إلى العالم أو مستقبل العمل الذي يتغير باستمرار على أنه في أزمة شديدة، لقد أصبح الواقع مريراً ولعله من الأفضل لنا أن نستسلم.

لكن ليست الأزمات كلها سلبية بالضرورة.

تعني كلمة أزمة باللغة الصينية (wēijī) “危机“، وتتكون من رمزين: “wēiالذي يعني “الخطر، و”الذي يعني نقطة تحول أو “نقطة تغيير”. على الرغم من أنها قد تبدو مقولة شائعة، لكن يجب النظر إلى الأزمة باعتبارها تحدياً يتطلب الوعي ويثير الفضول ويخلق الفرص.

على مدى القرن الماضي، ارتبطت كلمة “أزمة” غالباً بمفهوم “أزمة منتصف العمر“، التي تُستخدم للدلالة على فترة من حياة الفرد يواجه فيها اضطراباً داخلياً بشأن هويته وثقته بنفسه وفنائه. لكن عبارة “منتصف العمر” لم تستخدم حتى عام 1904، وقبل ذلك الوقت، كان المرء يُعد محظوظاً وحكيماً إذا وصل إلى سن 50 عاماً، بل ويُعد كبيراً في السن أيضاً! أزمة منتصف العمر هي فكرة جديدة نسبياً ابتكرها البشر وليست مفيدة للمجتمع الحديث. بفضل عمل أفراد مثل مؤسس مودرن إلدر أكاديمي (Modern Elder Academy)، تشيب كونلي، بدأنا تدريجياً نغير الطريقة التي ننظر بها إلى أزمة منتصف العمر وأي نقلة أخرى في الحياة على أنها فترة تحول وتجديد. من هذا المنظور، يمكن النظر إلى الأزمة على أنها مرحلة انتقالية تؤدي إلى واقع أفضل في المستقبل.

بالنظر إلى حياتنا المهنية من خلال منظور التحول والتجديد سنتمكن من اكتساب رؤى وفرص جديدة، خاصة عندما يسود العالم قدر كبير من الاضطرابات وعدم اليقين. تبدأ هذه العملية بطرح بعض الأسئلة البسيطة على أنفسنا لتعزيز وعينا الذاتي:

  • ما موقفك أو رد فعلك الأول تجاه التغييرات التي لا يمكنك السيطرة عليها؟ على سبيل المثال، هل يثير عدم اليقين فضولك أم يدفعك إلى تجنب الموقف؟
  • ما موقفك تجاه التغييرات المهنية غير المتوقعة؟ على سبيل المثال، إذا كنت ستفقد وظيفتك فجأة، فهل ستعتبر ذلك مأساة تدمر هويتك المهنية (أزمة الهوية المهنية)، أم فرصة كنت تنتظرها طويلاً (المرحلة الانتقالية للهوية المهنية)؟ ما شعورك إذا فقد أحد زملائك المقربين وظيفته؟ ضع في اعتبارك أننا غالباً ما ننتقد أنفسنا للصفات نفسها التي نقدّرها فيمن نهتم بهم، وإدراك ذلك يمكن أن يساعدنا على تعديل وجهة نظرنا.
  • ما الظروف التي قد تغيّر إجاباتك عن هذه الأسئلة؟

عقلية مجاراة التغيير“، مثلما أسميها، هي القدرة على رؤية التغييرات غير المتوقعة وغير المرغوبة من منظور الأمل بدلاً من الخوف، ورؤيتها فرصاً للتعلم والنمو لا مخاطر يجب مقاومتها أو إنكارها. فكر في عقلية مجاراة التغيير بصفتها قوة ذهنية تساعدك على التكيف مع التغيير؛ لا يمكنك تجنب الانتقال إلى منتصف العمر، وبالمثل لا يمكنك منع فقدان وظيفتك. لكن بالطبع هناك عدة إجراءات يمكنك اتخاذها لتحسين فرصك في الحفاظ على وظيفتك أو التقدم في حياتك المهنية، ولكن من المهم أن تتذكر أنه بما أن شخصاً آخر هو من منحك الوظيفة، فهناك دائماً احتمال لا يمكن تحاشيه بأن تخسرها بغض النظر عن مدى استمتاعك بها أو تفوقك فيها.

تثير هذه الحقيقة قلقاً مبرراً لدى الكثيرين، وقد أدى ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي وتزايد قوته بسرعة كبيرة إلى تضخيم هذه المخاوف، ففي ظل المناخ الحالي لا تبدو أي وظيفة آمنة، ولا يبدو أي مسار مهني مضموناً، ولربما أصبحت المهن التي كانت تُعد آمنة سابقاً مهددة الآن. في هذا الوضع، كيف يمكننا تسخير عقلية مجاراة التغيير اليوم من أجل الاستعداد للمستقبل بصورة أفضل؟

أحد العوامل الحاسمة هي نظرتنا لمساراتنا المهنية وطريقة حديثنا عنها، إذ تحمل رؤى وفرصاً قيّمة لكل من الأفراد والموارد البشرية على حد سواء.

من “المسار” المهني إلى “المحفظة” المهنية

منذ أن بدأت الثورة الصناعية الأولى قبل 250 عاماً تقريباً، تشكلت المسارات المهنية من الناحية التنظيمية على شكل سلالم يجب تسلقها أو مسارات يجب اتباعها. تصمم الشركات هذا السلم الوظيفي ويعيّنون الموظفين في مستويات أو “درجات” مختلفة منه، وفي كل حالة ثمة تعريف واحد فقط للنجاح: صعود هذا السلم. نحن اليوم في الثورة الصناعية الرابعة، وقد تغير الكثير في القرنين الماضيين، وأصبحت لدينا طرق عديدة لتحقيق النجاح في الحياة المهنية، وقليل منها يتبع مساراً خطياً، وفي الواقع لا يوفر النموذج الخطي مجالاً كبيراً للتكيف أو المرونة. يواجه كل من الموظفين ومسؤولي الموارد البشرية هذه القيود، وعلى الرغم من أن نموذج السلم الوظيفي ما زال قابلاً للاستخدام، لكنه لا يمثل سوى جزء صغير من نطاق أوسع بكثير من خيارات النمو المهني.

ما زلنا متمسكين اليوم بلغة السلم الوظيفي، ولكن لدينا الخيار والفرصة لصياغة مفردات أكثر ملاءمة لواقع اليوم؛ بدلاً من النظر إلى المسار المهني باعتباره سلماً يجب صعوده، يجب أن ننظر إليه بصفته محفظة يجب تنظيمها وإدارتها بعناية. بالنسبة للأفراد، من المفترض أن تكون المحفظة المهنية مرنة يمكنها التكيف والتطور بمرور الوقت وأن تمثل مهارات الفرد وخبراته واهتماماته بصورة فريدة، أما بالنسبة للمؤسسات فالمحافظ المهنية تمثل مستقبل الموارد البشرية. ينظر نهج المحفظة المهنية إلى التحولات المهنية على أنها مراحل انتقالية للنمو والتطور لا أزمات، وهي بذلك تناسب عالم اليوم المتغير باستمرار.

اللغة التي نستخدمها مهمة. عندما نستخدم مصطلحات عفاها الزمن نحصر أنفسنا في طرق التفكير القديمة، وعندما نصف المسارات المهنية بأنها سلالم وظيفية فهذه الصورة لا تعكس ما يراه أصحاب المواهب ولا الفرص التي يقدمها مستقبل العمل، والنتيجة هي الإحباط والوقوف أمام طريق مسدود. يتيح مفهوم المحفظة المهنية طريقة جديدة لمناقشة الوظائف يمكن للشركات والموظفين وأصحاب المواهب الاستفادة منها، والمفتاح هو تجاوز التفكير في المسار المهني على أنه مسار خطي، فثمة مسارات مهنية مختلفة، مثل المسار الشبكي (التطور باتجاهات مختلفة وليس باتجاه صاعد فقط) والمسار المتنوع (تجربة مهام متنوعة واكتساب خبرات مختلفة) والمسار المقسّم إلى قطاعات (تمثل مجالات مختلفة). الفكرة الأساسية هي أن مستقبل العمل لا يتمثل بالمسار المهني الخطي، بل بمسار متعدد الأبعاد والجوانب ومتغير باستمرار. لا تقل أهمية مرونة المسار المهني عن التطوير الوظيفي، وربما كانت أهم منه في الواقع، ويمكن للمحفظة المهنية أن تنمو وتتطور، في حين أن السلم الوظيفي غير مستقر وقابل للانهيار. أي النهجين تفضل؟ وأيهما يمثل استراتيجية أكثر استدامة ومرونة من منظور الموارد البشرية؟

يدرك العديد من الموظفين والشركات هذه التغييرات، لكنهم لم يتبنوا بعد اللغة الجديدة التي تصفها بصورة أفضل، وقد حان الوقت لتوسيع مفرداتنا وإنشاء مفهوم المحافظ المهنية واستخدامها، والتحول من إدارة الأزمة إلى إدارة المرحلة الانتقالية. لا يُعد تبني هذا المنظور والمصطلحات الجديدة اليوم مجرد استراتيجية أعمال ذكية فحسب، بل يساعد أصحاب المواهب وإدارات الموارد البشرية أيضاً على الاستعداد لأي تغييرات مستقبلية. على سبيل المثال، لدى شركة جنرال ميلز (General Mills) سوقٌ داخلية للمواهب تتيح لموظفيها التقدم في خطوط أفقية وتعلّم مهارات جديدة واستكشاف أدوار قيادية جديدة. وبالمثل، لدى شركة برايس ووتر هاوس كوبرز (PwC) نظام يُدعى تالنت إكستشينج (Talent Exchange)، يضمن عمل المواهب الخارجية مع فرقها الداخلية ويتيح لها الاستفادة من نطاق مهارات أوسع مما يتيحه المخطط التنظيمي التقليدي. تمكّن شركة منتجات الطماطم مورنينغ ستار (Morning Star) موظفيها من إعادة تشكيل توصيفهم الوظيفي ليكون أكثر انسجاماً مع مهاراتهم واهتماماتهم الأساسية (النظر إلى ما هو أبعد من المؤهلات الرسمية والخبرات السابقة الواردة في السيرة الذاتية). تعكس هذه الأمثلة جوهر نهج المحفظة المهنية في ممارسات هذه الشركات، حتى لو لم تستخدم هذا المصطلح صراحة.

في مستقبل العمل الذي يسوده عدم اليقين، يجب أن نحرص على تحديث عقلياتنا وتوقعاتنا ومصطلحاتنا المتعلقة بالعمل. المحافظ المهنية والنظر إلى الأزمات على أنها مراحل انتقال مهنية ليست حلولاً سحرية، لكنها عوامل حاسمة يمكن أن تساعد على تشكيل مستقبل العمل بطرق أسهل وأكثر إنصافاً وقدرة على التكيف مع التغيير.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .