[su_quote cite=”ستيف جوبز”]”لا يمكن الاكتفاء بالتكنولوجيا وحدها، بل لا بد من توافر التكنولوجيا المقترنة بالفنون الحرة والممزوجة بالعلوم الإنسانية التي تحقّق لنا نتائج تمسُّ شغاف قلوبنا”.[/su_quote]

كانت رؤية ستيف جوبز لشركة آبل تقوم بصورة أساسية على الإيمان بأن الفنون والعلوم عنصران لا يفترقان، ولا يمكن أن يعيش أحدهما في معزل عن الآخر، بل يكملان ويعززان كل منهما الآخر. وقد أكدّ الرئيس التنفيذي للإبداع في شركة بيكسار، جون لاسيتر، هذا الرأي قائلاً: “التكنولوجيا تلهم الفن، والفن يثير التحديات في وجه التكنولوجيا”. لكن على الرغم من أهمية المزج بين هذه المجالات لتشجيع الابتكار، فإن الكثيرين يحصرون اهتمامهم في مجال واحد فقط، دون غيره من المجالات.

أردنا أن نفهم الأسباب التي تجعل أفراداً معينين أقدر من غيرهم على المزج بين التخصصات المختلفة؛ لذا حاولنا دراسة “عقليات” الأفراد وعلاقتها بالاهتمامات وتأثيرها في هذا السياق.

توصلنا من خلال بحثنا المنشور في مجلة سايكولوجيكال ساينس (Psychological Science) إلى وجود اختلافات بين الأفراد في هذه العقليات؛ إذ يميل البعض إلى الإيمان بوجهة النظر القائلة بأن الاهتمامات مسألة متأصلة في الفرد في انتظار مَنْ يوقظها أو يعثر عليها، وهذا ما يُعرَف باسم عقلية محدودية الاهتمامات، فيما يؤمن البعض الآخر بوجهة النظر القائلة بإمكانية تطوير الاهتمامات وأن الفرد بمقدوره من خلال الالتزام والاستثمار اكتساب عقلية النمو وتطويرها بمرور الوقت، وهو ما يُعرَف باسم عقلية تنامي الاهتمامات.

ونرى أن السبب في ذلك يرجع إلى أن هذه العقليات قد تؤثر على مدى انفتاح الفرد على اهتمامات جديدة أو مختلفة، سواء كانت هذه الاهتمامات ترتبط بالفنون أو العلوم أو الأعمال أو ألعاب القوى أو أيٍّ من المجالات الأخرى. وإذا تم النظر إلى الاهتمامات باعتبارها مسألة متأصلة وثابتة، وتم العثور على أحدها بالفعل، فقد تبدو محاولة الاستكشاف في مكان آخر عملاً غير مثمر، ولكن إذا كان من الممكن تطوير الاهتمامات، فإن وجود اهتمامات قوية في مجال ما لن يحول دون تطوير الاهتمام في مجالات أخرى.

ولاختبار هذه الأفكار، أجرينا استقصاءً شمل 126 طالباً جامعياً أفادوا بأن اهتماماتهم تتمحور في المقام الأول إمّا حول الفنون والعلوم الإنسانية أو العلوم والتكنولوجيا. أجرينا أيضاً تقييماً للتعرُّف على مدى امتلاكهم لعقلية محدودية الاهتمامات أو عقلية تنامي الاهتمامات. على سبيل المثال، طلبنا من الطلاب تقييم مستوى اتفاقهم مع العبارة التالية: “يمكنك أن تتعرّض لأشياء جديدة، لكن اهتماماتك الأساسية لن تتغير حقاً”.

وبعدها أعطيناهم جميعاً مقالتين أكاديميتين وطلبنا منهم قراءتهما، كانت إحداهما تتناول موضوعاً في العلوم الإنسانية، فيما تتناول الأخرى بشكل مباشر موضوعاً في العلوم الطبيعية والتكنولوجيا. وبعد قراءة كل منهما، قيّموا اهتمامهم بموضوعي المقالتين. ولم يكن من المستغرَب أن يُعرب الطلاب جميعهم عن اهتمامهم بالموضوع الذي يتوافق مع مجال اهتمامهم الحالي؛ ولكن عندما نظرنا إلى الموضوع خارج هذا المجال، وجدنا أن أولئك الذين يمتلكون عقلية النمو أفادوا بأنهم أكثر اهتماماً من أولئك الذين يمتلكون العقلية المحدودة، وأولئك الذين يمتلكون العقلية المحدودة كانوا أقل انفتاحاً على استكشاف موضوع مختلف.

ومن الجدير بالذكر أن الطلاب الذين يمتلكون عقلية النمو لم يكونوا أقل اهتماماً من زملائهم الذين يمتلكون العقلية المحدودة بالمقالة التي كانت تتناول الموضوع المرتبط باهتمامهم الأساسي؛ كل ما هنالك أنهم كانوا أكثر انفتاحاً على مجال آخر. وهكذا يبدو من الواضح أن عقلية النمو لا تصنع هواة، ولكنها قد تسهم بدلاً من ذلك في توسيع دائرة اهتمامات الفرد، وهو ما قد يكون مفيداً في تكوين روابط وطيدة بين المجالات المختلفة وتوليد أفكار جديدة.

وقد أدركت شركات عديدة أهمية حلّ المشكلات باستخدام سبل عابرة للتخصصات، واعتمدت ضمنياً عقلية تنامي الاهتمامات. على سبيل المثال، أكد الرئيس التنفيذي لشركة آيديو (IDEO) للاستشارات التصميمية ورئيس مجلس إدارتها، تيم براون، قيمة “الموظف المتعدّد الاهتمامات، الذي يُرمَز إليه بحرف T”؛ إذ يمثل المسقط الرأسي للحرف T عمق خبرة الفرد في مجال محدَّد، بينما يمثل المسقط الأفقي اهتمامات الفرد المتنوعة وقدرته على العمل والتعاون في مختلف المجالات. وعلى غرار أولئك الذين يمتلكون عقلية النمو، فإن الأشخاص المتعدّدي الاهتمامات الذين يُرمَز إليهم بحرف T هم خبراء في مجالاتهم، ولكنهم لا يركّزون بالضرورة على مجال بعينه، ويبحثون عن الإلهام من مجالات متعددة.

لا تقتصر قيمة عقلية النمو على شركة آيديو فقط. ومن أبرز الأمثلة على ذلك المهندسون المهتمون بتصميم حلول لمواجهة التغير المناخي وتوفير مياه الشرب في المناطق الريفية، والمهندسون المعماريون المهتمون بالرعاية الاجتماعية وتصميم الإسكان الميسور التكلفة بواجهات جذابة للأسر المحدودة الدخل؛ ومهندسو تخطيط المدن المهتمون بعلم النفس الذين يحرصون على تصميم المساحات الخضراء لتحسين الرفاهة. وهكذا فقد تكون عقلية تنامي الاهتمامات ذات صلة بالابتكار في مختلف المجالات.

وتناولنا في دراسة أخرى العلاقة بين العقليات وتوقعات الأفراد حول الدافع بمجرد اكتشافهم للشغف. لقد طلبنا من 47 طالباً جامعياً أن يكتبوا توقعاتهم بشأن شغف جديد وشفّرنا إجاباتهم. كان أولئك الذين يمتلكون العقلية المحدودة يقولون في أغلب الأحيان إنه بمجرد أن تجد “شغفك”، فلا بد أن يأتي مصحوباً بحافز غير محدود، ما يجعل السعي وراءه أمراً سهلاً نسبياً. وعلى النقيض من ذلك، فقد كان الطلاب الذين يمتلكون عقلية النمو يعتقدون في أغلب الأحيان أن السعي وراء هذا الشغف قد ينطوي على بعض الانتكاسات والصعوبات.

هل يمكن أن تلعب هذه التوقعات دوراً فيما إذا كان الأفراد سيبحثون عن شغف جديد؟ يتعرض الأفراد في كثير من الأحيان لشلال من الاهتمامات، مثلما يحدث عندما يشاهد المرء أحدث أفلام حرب النجوم وينتابه الفضول وحب الاستطلاع بشأن استكشاف الفضاء الخارجي. ولكن ماذا يحدث عندما يصبح السعي وراء إشباع هذا الاهتمام صعباً ويتطلب بذل جهود جبارة، مثل الالتحاق بدورة تعليمية في الفيزياء الفلكية؟

وللإجابة عن هذا السؤال، طلبنا في البداية من 70 طالباً جامعياً قراءة إما مقالة تتعامل مع الاهتمامات باعتبارها شيئاً محدوداً أو مقالة تتعامل مع الاهتمامات باعتبارها شيئاً متطوّراً باستمرار، وذلك لتغيير أسلوب تفكيرهم بطريقة أو بأخرى. ثم شاهد الطلاب مقطع فيديو قصيراً يعرض فيلماً بالرسوم المتحركة تم إنشاؤه للجمهور العام حول ظاهرة الثقوب السوداء. لقد كان فيلماً ممتعاً وجذاباً ويقدّم مادة علمية ميسورة الفهم، وأجمع كل مَنْ شاهده تقريباً على أنه فيلم رائع.

وبعد ذلك، قرأ الطلاب جزءاً من مقال أكاديمي يحفل بآراء تتحدى الثقوب السوداء من مجلة ساينس (Science)، وكان فهمه أكثر صعوبة بكثير من الفيلم السابق. وقد أفاد الطلاب بعدئذٍ باهتمامهم بالموضوع محل النقاش. وعلى الرغم من أن طلاباً كثيرين أظهروا بعض التراجع في الاهتمام بعد قراءة المقال الصعب، فإن هذا التراجع كان واضحاً بين الطلاب الذين تعرضوا للمقالة التي تتحدث عن العقلية المحدودة، حتى إنهم أفادوا في الواقع بأنهم أصبحوا غير مهتمين بالثقوب السوداء، على عكس أولئك الذين تعرضوا للمقالة التي تتحدث عن عقلية النمو.

يتطلب الابتكار المزج بين مجالات مختلفة، وفي كثير من الأحيان فهم هذه المجالات فهماً عميقاً، دون الاكتفاء بمعرفتها معرفة سطحية. وهذا يعني أنه عندما يمزج الأفراد بين مجالات مختلفة، يجب عليهم الحفاظ على هذا الاهتمام حتى عندما تصبح المواد معقدة وصعبة. وقد تساعد عقلية تنامي الاهتمامات في تعزيز هذا النوع من القدرة على التحمل.

هل يمكن اكتساب عقلية تنامي الاهتمامات؟ يشير بحثنا إلى إمكانية اكتسابها. وعلى غرار أي معتقدات مكتسبة، فقد تنشأ العقليات من خلال الرسائل التي نتلقاها من الآخرين، كالمدراء والآباء والمعلمين. وقد يوحي تشجيع الأفراد على مواصلة السعي لإتقان اهتمامات جديدة، حتى عندما يصبح إتقانها أمراً بالغ الصعوبة، بأن مواجهة الصعوبات أمرٌ طبيعي عند محاولة تطوير اهتمام جديد؛ لكنها ليست علامة على أنه يجب على المرء أن يمضي قدماً في مساعيه تلك. علاوة على ذلك، يمكن استبدال عبارة “طوّر شغفك” بغيرها من العبارات الواسعة الانتشار، مثل “ابحث عن شغفك”. وتشير عبارة “طور شغفك” إلى أن الاهتمامات والعواطف ليست مسألة متأصلة وثابتة في انتظار الكشف عنها، بل يمكن تطويرها بالمشاركة والمثابرة.

لا يزال هناك الكثير الذي يمكننا تعلمه حول فوائد اكتساب عقلية النمو في البيئات المؤسسية. وتتناول أبحاثنا المستمرة أثرها في تعزيز أداء المهمات في مجالات الاهتمام الجديدة، وقدرتها على تعزيز مهارات حلّ المشكلات في تخصصات متعددة. نحن مهتمون أيضاً بتحديد المواقف التي قد تكون فيها عقلية النمو ذات أهمية بالغة. فإذا تحدثنا عن مجال الطب، مثلاً، فقد يفضّل الأطباء علاج المرضى بشكل أكثر شمولية من خلال الجمع بين الطرق الدوائية التقليدية والجهود المبذولة لتلبية احتياجاتهم الاجتماعية والنفسية.

ويدرك الموظفون بوحي من مدرائهم وثقافاتهم المؤسسية أنواع العقليات التي تحظى بالتقدير والاحترام في بيئات العمل، مثل إذا ما كان يجب أن يركّز الموظفون على مجال واحد، أم عليهم أن ينفتحوا على مجالات جديدة. وفي ظل استمرار العالم في العولمة، فإننا نحتاج إلى حلول جديدة لكلٍّ من المشاكل الجديدة والقديمة، وسيعتمد شق كبير من هذه الحلول على الأشخاص ذوي الاهتمامات العميقة الذين يربطون أيضاً بين مختلف التخصصات. وقد يسهم تشجيع الموظفين على تبني عقلية تنامي الاهتمامات في مساعدتهم على إطلاق هذه العملية.