ملخص: يتطلب النجاح في عالم اليوم الذي يشهد تغيّرات متلاحقة أن تكون المؤسسات في حالة دائمة من المرونة وقادرة على الاستجابة للمتغيّرات بأقصى درجات السرعة عند الضرورة. ويتطلب هذا الأمر ترسيخ ثقافة التعلم المستمر. ويُعتبر الموظفون الذين يتمتعون "بعقلية العمل المستقل" جيلاً جديداً وجريئاً من الموظفين العاملين بدوام كامل الذين يتقاضون رواتب شهرية، ولكنهم يفكرون ويتصرفون مثل العاملين المستقلين الذين يعملون لحسابهم الخاص (فريلانسرز)، بمعنى أنهم يديرون حياتهم المهنية بطريقتهم الخاصة وينفذون مبادرات من تلقاء أنفسهم ويركزون على اكتساب المهارات أكثر من تركيزهم على المناصب ولا يترددون في اختصار إجراءات العمل أو التشكيك في الوضع الراهن. وهم يتشاركون مع الآخرين ما تعلموه، ويعتبرون أنفسهم مسؤولين عن نموهم الشخصي، ويشعرون بالثقة في قدرتهم على التأثير في الآخرين. وتناقش كاتبة المقالة حالتي شركتين أقدمتا على غرس ثقافة تشجّع على تعلم عقلية "العمل المستقل" من خلال السماح للأفراد بالسيطرة على شؤونهم بالتوازي مع التركيز التكميلي على المؤسسة.
أثبتت جائحة فيروس كورونا أن الشركات بحاجة إلى الاتصاف بالمرونة بطريقة تؤهلها لاستباق الأحداث المستجدة، بحيث تستطيع الاستفادة من الأزمة كتجربة تعليمية وفرصة للتحول إلى كيان جديد أصلب عوداً. وتمتاز الشركات المرنة بقدرتها على تشكيل فرق العمل بسرعة والاستفادة من المعرفة الجماعية والبحث عن الخبرات داخل المؤسسة وخارجها، وتوصيل الرسائل الاستراتيجية لقوة العمل وجمع المعلومات من الموظفين الميدانيين بصورة فورية. ويستلزم بناء هذه القدرات ترسيخ مبدأ التعلم المستمر واعتباره جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الشركة.
ولا يكمن الحل في إجراء التغيير أو تنفيذ برامج التعلم على نطاق واسع. فعلى الرغم من توافر عنصر حسن النية، فإن هذه الإجراءات يتم تنفيذها من القمة إلى القاعدة في المجمل العام، ويبوء معظمها بالفشل لأنها لا تمكّن الأشخاص من اتخاذ مبادرات فردية.
ومن هنا، فإن الشركات مطالبة بتمكين الموظفين من أن يصبحوا "موظفين يتمتعون بعقلية العمل المستقل": وهو ما أسميه الجيل الجديد والجريء من الموظفين العاملين بدوام كامل الذين يتقاضون رواتب شهرية، ولكنهم يفكرون ويتصرفون مثل العاملين المستقلين الذين يعملون لحسابهم الخاص (فريلانسرز). ويطبّق هؤلاء الموظفون مبدأ التعلّم المستمر، بمعنى أنهم يديرون حياتهم المهنية بطريقتهم الخاصة وينفذون مبادرات من تلقاء أنفسهم ويركزون على اكتساب المهارات أكثر من تركيزهم على المناصب ولا يترددون في اختصار إجراءات العمل أو التشكيك في الوضع الراهن. وهم يتشاركون مع الآخرين ما تعلموه، ويعتبرون أنفسهم مسؤولين عن نموهم الشخصي، ويشعرون بالثقة في قدرتهم على التأثير في الآخرين.
وتبدأ ثقافة تعلم عقلية "العمل المستقل" داخل الفرد نفسه وتنمو لخدمة كلٍّ من الأفراد والمؤسسة على حدٍ سواء. ونتناول فيما يلي ما يمكن أن نتعلمه من شركتين مختلفتين تماماً أقدمتا على غرس ثقافة تشجّع على تعلم عقلية "العمل المستقل" من خلال السماح للأفراد بالسيطرة على شؤونهم بالتوازي مع التركيز التكميلي على المؤسسة.
التعلُّم ثم التطبيق ثم المشاركة
تحدثتُ مع داني ديغريف، مدير التحول الرقمي في شركة "سانوفي" (Sanofi)، وهي شركة عالمية متنوعة للرعاية الصحية موجودة في أكثر من 170 دولة حول العالم. نجح ديغريف، بمساعدة بعض من زملائه، في تطوير استراتيجية "التعلُّم ثم التطبيق ثم المشاركة". حيث يُطلب من الأشخاص الذين يرغبون في بدء إجراءات التعلُّم استكمال وثيقة رسمية ولكنها بسيطة تتكوّن من صفحة واحدة تتناول 6 أسئلة:
- ماذا سأتعلم؟
- كيف سأتعلم؟
- كيف سأستفيد أنا وشركة "سانوفي" من استثماري؟
- متى سأتعلم؟
- أين سأتعلم؟
- مَنْ سيساعدني على تحقيق هذا النجاح لنفسي ولشركة "سانوفي"؟
يؤدي إضفاء الطابع الرسمي على المبادرات الفردية نظرياً إلى جعلها جزءاً لا يتجزأ من مهمات الوظيفة، وليست مهمة جانبية أو مهمة ثانوية يمكن إتمامها بعد ساعات العمل. ويتم تشجيع الأشخاص على مشاركة عمليتهم التعليمية عبر منظومة محدَّدة على شبكة "يامر" (Yammer) أو عبر منظومات محلية في مكان العمل.
وتسهم مبادرة "التعلُّم ثم التطبيق ثم المشاركة" في مساعدة المؤسسات على الاحتفاظ بالمواهب، كما يتضح من المسار الذي سلكه ذلك الموظف الطموح الذي قرر تعلُّم مهارات جديدة بمفرده بهدف الانتقال إلى وظيفة جديدة في شركة أخرى. قال لي ديغريف:
كان هناك عالم متخصص في علم الإحصاء الحيوي، أقدم على دراسة تكنولوجيا تعلم الآلة في إحدى الجامعات على حسابه الخاص وبعيداً عن عمله في "سانوفي". تواصلنا معه وناقشنا كيف يمكننا مساعدته على اتخاذ الخطوة التالية في حياته المهنية في أثناء عمله في الشركة. عرضنا منحه قواعد بيانات حقيقية للعمل عليها، وبالتالي ربط جهوده الدراسية بعمله في "سانوفي" من خلال منحه مادة علمية واقعية تساعده في مساره الدراسي وتعود بالنفع على الشركة نفسها. وماذا كانت النتيجة؟ انتقل إلى منصب جديد في "سانوفي" بدلاً من البحث عن وظيفة جديدة في شركة أخرى.
وهكذا، استطاعت "سانوفي" الاحتفاظ بموظف موهوب من خلال دعم تعلّمه رسمياً وتمكينه من تطبيق ما تعمله ومشاركته داخل الشركة.
تحسين الاندماج الوظيفي داخل الشركة وخارجها
كرّمت صحيفة "فايننشال تايمز" شركة "نيشيث ديساي أسوشيتس" (NDA) باعتبارها "شركة المحاماة الأكثر ابتكاراً في الهند" لمدة 6 أعوام، وهي شركة محاماة دولية تأسست منذ 31 عاماً، يعمل بها 120 موظفاً وتزاول أنشطتها في دول آسيا والمحيط الهادي وأوروبا وأميركا الشمالية. وتقدّم الشركة خدمات المشورة الاستراتيجية فيما يخص النواحي القانونية للمجالات المستقبلية، مثل تقنية "البلوك تشين" والعملات الافتراضية وإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي وخصخصة الفضاء الخارجي والطائرات المسيّرة والروبوتات والواقع الافتراضي وتكنولوجيا النانو.
وأوضحت ناندا ماجومدار، قائدة الاستراتيجية والتحوّل، كيف أصبحت عقلية العمل المستقل جزءاً من ثقافة الشركة، قائلةً: "لقد تبنّينا عقلية العمل المستقل بدايةً من عام 2016 من خلال التخلُّص من أسلوب التسلسل الهرمي للشراكة التقليدية والتحول إلى نموذج القيادة الشبكية القائمة على المسؤولية الذاتية وإدارة الذات".
ويعد التعلم المستمر دون توقف أمراً مهماً، وغالباً ما توصف شركة "نيشيث ديساي أسوشيتس" بأنها "كلية الدراسات الحقوقية بعد التخرج في كلية الحقوق" حيث يُطلب من كل موظف مواصلة التعلّم لمدة ساعة واحدة يومياً. وقد نجحت الشركة خلال جائحة فيروس كورونا في تطوير "برنامج التعلّم المستمر للعملاء" (cCep)، ولم يقتصر البرنامج على العملاء الحاليين والعملاء المحتملين فقط، بل شمل أيضاً الموظفين الآخرين، مثل المحامين والمحاسبين والمصرفيين وغيرهم من أفراد المنظومة، بمن في ذلك طلاب كليات الحقوق. وقد روعي في تصميمه القدرة على تقديم الإرشادات خلال الظروف الصعبة التي مر بها الأشخاص وتنظيم حلقات دراسية عبر الإنترنت (ويبينار)، مثل "كوفيد-19: القوة القاهرة - هل يمكن للأطراف المتعاقدة فسخ عقودهم؟"، و"كيف يمكننا تسريع عمليات تسليم الطائرات المسيّرة خلال الإغلاق الاقتصادي؟"، و"كيف ستؤثر جائحة كوفيد-19 على الاستحواذ على الشركات المتعثرة في الهند؟"
وقد استمر البرنامج لما يقرب من 300 حلقة حتى نهاية الإغلاق الاقتصادي، واستفادت منه شركة "نيشيث ديساي أسوشيتس" داخلياً من خلال رفع مستوى الاندماج الوظيفي وزيادة القدرة على التركيز والتكاتف بين العاملين في الشركة، كما استفادت منه خارجياً من خلال دعم العملاء الذين كانوا يعانون الفاقة والتقلبات المستمرة. ووفقاً لما جاء على لسان ماجومدار، فقد "تمكّن العملاء من الاستفادة من خبراتنا وخبرات أعضاء شبكتنا، مثل كبار السياسيين والبيروقراطيين وخبراء الاقتصاد وواضعي السياسات والمصرفيين الاستثماريين وأصحاب شركات رأس المال المغامر (الجريء) وخبراء الصناعة في مختلف القطاعات ورواد الأعمال والخبراء المختصين".
وماذا كانت النتيجة؟ باتت شركة "نيشيث ديساي أسوشيتس" اليوم إحدى أهم الجهات المساهمة في سن القوانين التنظيمية وتطوير القطاعات الصناعية والسياسية والحكومية في الهند كلها، ويتمتع موظفوها بشعور قوي بالهدف الذي تعمل الشركة على تحقيقه.
ويعد شعور المرء بالهدف في وقتنا الحالي أكثر أهمية من أي وقت مضى. وتتيح ثقافة تعلم عقلية العمل المستقل إمكانية تجسيد الهدف لكلٍّ من الأفراد والمؤسسات.
التقييم الذاتي للشركة
إذا أردت أن تعرف ما إذا كانت مؤسستك تتمتع بثقافة تعلم عقلية العمل المستقل، ففكّر في الأسئلة التالية، وناقشها مع الآخرين واكتشف مجالات العمل المتاحة لك ولمؤسستك.
تدفق المعلومات والأفكار
- هل العاملون في مؤسستك قادرون على التواصل مباشرة مع كبار القادة دون الحاجة إلى المرور على الكثير من المستويات الإدارية؟
- هل يتم تشجيع العاملين على تحدي الوضع الراهن؟ وهل يسعى القادة إلى المناقشة وليس الإجماع؟
فرق العمل والتجريب
- هل يتم بناء فرق العمل من خلال التركيز على المهارات والمعرفة أكثر من التركيز على الألقاب والمناصب؟
- هل يتم تشجيع أعضاء فرق العمل على إبداء رأيهم، ومشاركة عملهم قبل اكتماله؟
- عندما تفشل مبادرة تجريبية، هل تعتبرها الإدارة خبرة إيجابية وتطلب من الأشخاص المعنيين مشاركة ما تعلموه منها؟
استقصاء كافة الآراء
- هل هناك أنظمة لاستقاء البيانات من مختلف الأطراف المعنية، مثل الزملاء الذين يتعاملون وجهاً لوجه مع العملاء؟
- هل يُمنح الأفراد وقتاً لممارسة الأنشطة غير الرسمية، مثل التعارف مع الأطراف الخارجية وحضور المؤتمرات والمشاركة في برامج التعلم عبر الإنترنت؟
- هل هناك طرق لمتابعة التطورات في العالم الخارجي، كالاقتصاد والتكنولوجيا والمجتمع، سواء كانت تؤثر على مؤسستك بشكل مباشر أم لا؟
الاحتفاظ بالموظفين الذين يتمتعون "بعقلية العمل المستقل"
يعتبر الاحتفاظ بالموظفين من أهم الفوائد التي يمكن أن تجنيها الشركات من تعزيز ثقافة تعلُّم عقلية العمل المستقل، لأنه إذا واجه الموظفون الذين يتمتعون "بعقلية العمل المستقل" عقبات بصورة متكررة، فقد يقررون البحث عن أماكن عمل أكثر إرضاءً. وقد بات هذا الأمر في غاية السهولة حالياً، لأن المؤسسات القائمة تبحث بقوة عن مواهب جديدة، كما أن هناك الكثير من الشركات الصغيرة والناشئة التي تبحث عن المواهب. وقد قال لي موظف في شركة ناشئة قوامها 100 شخص: "لقد نجحنا للتو في ضم موظف جديد للعمل في شركتنا. يبلغ من العمر 35 عاماً تقريباً، وكان يعمل في منصب رفيع جداً في [اسم شركة مشهورة عالمياً]. ولكنه استقال منها، مفضلاً الانضمام إلينا. ويقول إن راتبه في شركتنا أقل بكثير من الراتب الذي كان يتقاضاه في السابق، لكن العمل هنا أكثر تشويقاً وإثارة ويمنحه متعة أكبر بكثير". وقد قال لنا مدير أول في شركة كبيرة: "إذا كنت لا أشجع عقلية العمل المستقل بحكم منصبي كمدير، فسوف أفقد الحافز، وفي النهاية سأخسر أفضل الكوادر البشرية".
ويواجه القادة مفارقة عجيبة تتمثل في أن الموظفين الذين يتمتعون "بعقلية العمل المستقل" يتصرفون بطرق قد تبدو منحرفة. ويعتبر تحدي الوضع الراهن أمراً مهماً في معظم المؤسسات، وقد ينطوي على مخاطر مهنية للموظفين إذا شعر المدراء بالتهديد. وقد يواجه الموظفون الذين يتمتعون "بعقلية العمل المستقل" مشاكل في العمل لأن المدراء يرون أن سلوكياتهم تفتقر إلى الاحترام وغير منضبطة وتشوبها الأنانية. والحقيقة أن هؤلاء المدراء لا يفهمون فكرة الانحراف الإيجابي، وهي الفكرة التي تقول إن السلوكيات السلبية المزعومة تؤدي إلى فوائد للمؤسسة ككل. وهو ما أوضحه لي أحد المشاركين في البحث، قائلاً: "تنطوي عقلية العمل المستقل على مستوى من الولاء للمؤسسة وليس لإجراءات العمل نفسها. وتنبع من الرغبة في تحسين الأمور". ويوضح الجدول التالي كيف أن السلوكيات التي يمكن اعتبارها منحرفة قد تكون مفيدة جداً للمؤسسة.
يتطلب النجاح في عالم اليوم الذي يشهد تغيُّرات متلاحقة أن تكون المؤسسات في حالة دائمة من المرونة وقادرة على الاستجابة للمتغيّرات بأقصى درجات السرعة عند الضرورة. وتوضح مبادرات التعلم المبتكرة في شركتيّ "سانوفي" و"نيشيث ديساي أسوشيتس" كيف توفر ثقافة تعلم عقلية العمل المستقل فرصة للتفكير في أهدافهما وتحديد الأدوار الجديدة. كما أنها تؤدي في الوقت نفسه إلى ترسيخ ثقافة التعلم المستمر التي تسهم في زيادة اندماج الموظفين، وهو ما يجعل المؤسسات أقوى وأكثر مرونة بطريقة تؤهلها لاستباق الأحداث المستجدة.
ملاحظة الكاتب (1/28/22): تستند الحالات المذكورة أعلاه إلى مقابلات مع مسؤولي شركتيّ "سانوفي" و"نيشيث ديساي أسوشيتس" في أبريل/نيسان - مايو/أيار، 2020.
ملاحظة المحرر: تم تحديث هذه الجزئية لتوضيح أن "برنامج التعلّم المستمر للعملاء" قد توقف.