عقلية الربح للطرفين

لطالما نصح خبراء التفاوض باتباع نهج يضمن الربح للطرفين ويركز على استخلاص القيمة المتبادلة. يعمل هذا النهج فعلياً على تحويل الطرف المقابل إلى شخص متعاون لا خصم لدود، ويحثه على حشد موارده الإبداعية من أجل “إضافة قيمة” بدلاً من التنازع على حصته من القيمة التي تخلقها الصفقة. لن يؤدي هذا إلى خلق قيمة مالية أكبر للجميع فحسب، بل سيحقق أيضاً فوائد شخصية متبادلة؛ إذ سيؤدي رضا الأطراف كلها عن نتيجة المفاوضات إلى تعزيز علاقات العمل بينها.

عقلية الربح للطرفين

تؤتي عقلية تحقيق الربح للطرفين ثمارها في المفاوضات المتعلقة بقضايا متعددة؛ لأن مناقشة عدة قضايا في المفاوضات يمنح الأطراف المرونة اللازمة لاستكشاف الأولويات وتقديم تنازلات مفيدة للجميع. لكن نهج تحقيق الربح للطرفين غير مناسب عموماً للمفاوضات المتعلقة بقضية واحدة فقط، مثل التفاوض على قيمة الإيجار أو الراتب، إذ نفترض في هذا النوع من المفاوضات أن مكاسب أحد الطرفين هي خسائر للآخر، وكلما ازداد الضغط على أحد الطرفين قل رضاه عن الصفقة. لذا تقول الحكمة السائدة إن أفضل ما يمكنك فعله هو الموازنة بين النتيجة المالية المرجوة وأهمية الحفاظ على علاقة إيجابية مع الطرف الآخر، وتحديد قدرتك على خوض المفاوضات بقوة وجرأة وفقاً لذلك.

لكن الأبحاث الحديثة أثبتت أن ثمة خياراً آخر. في بحث حديث نُشر في مجلة علم النفس الاجتماعي التجريبي، شارك في تأليفه نيكو ثورنلي، وجدنا أن المفاوضات يمكن أن تتمخّض عن نتيجة تضمن الربح للطرفين، حتى لو كانت تتعلق بقضية واحدة، شريطة أن تصوغها بطريقة بسيطة، وإن كانت غير شائعة الاستخدام: إذا وضعت عروضك استناداً إلى أدنى حد يمكن أن يقبله الطرف الآخر (المعروف أيضاً باسم السعر النهائي)، فستحصل غالباً على عرض مضاد أكثر ملاءمة يرضي الطرفين أكثر.

في سلسلة من 3 تجارب، طلبنا من المشاركين إجراء عدة مفاوضات باستخدام صيغ مختلفة للسؤال الآتي: “ما مدى توافق عرضي مع الحد الأدنى من السعر الذي يمكنك قبوله؟” وجدنا أن هذه الصيغة لم تسفر عن تقليل العروض المضادة بسعر أعلى فقط، بل أدت أيضاً إلى شعور المفاوضين بالرضا أكثر مقارنة بالذين طُلبت منهم صياغة عروضهم استناداً إلى سعر مستهدف أو لم يُطلب منهم استخدام أي أسلوب في صياغة عروضهم.

ما الذي يجعل هذه الاستراتيجية مجدية؟ نعمل في المفاوضات على مقارنة العروض بالنقاط المرجعية، أو ما يطلق عليه أحياناً الركائز الثابتة، إذ إن رأينا بمبلغ مالي معين يعتمد بدرجة كبيرة على ما نقارنه به. وصياغة العرض من خلال مطالبة الطرف المقابل بمقارنته بسعره النهائي بدلاً من سعره المستهدف يرسخ توقعاته، ما يدفعه إلى التفكير في عرضك باعتباره مكسباً وليس خسارة، وبالتالي يزيد احتمالات رضاه عن النتيجة بدلاً من شعوره بخيبة الأمل.

على الرغم من فعالية هذا الأسلوب في دراساتنا، فهو لا يطبق في العالم الحقيقي إلا نادراً؛ ومن أبرز الأدلة على ذلك أننا عندما أجرينا محاكاة لـ 152 عملية تفاوض وظيفي شارك فيها طلاب برنامج ماجستير إدارة الأعمال، لاحظنا أن 4 مفاوضين فقط استخدموا استراتيجية تشبه نهج صياغة السعر النهائي. طرحنا بعد ذلك 3 تمارين للتفاوض، طلبنا فيها من المشاركين (وهم مجموعات من طلاب ماجستير إدارة الأعمال وطلاب الجامعات والمهنيين العاملين) أن يتخيلوا أنفسهم في دور مسؤول التوظيف الذي أجرى مؤخراً مقابلة شخصية مع مرشح رائع لشغل وظيفة شاغرة وأصبح عليه الآن التفاوض على راتبه.

قيل لهم إنه يتعين عليهم الاختيار بين استخدام صيغة السعر النهائي (“أعرض عليك راتباً قدره كذا، ما مدى توافقه مع أعلى عرض حصلت عليه من الشركات الأخرى؟”) أو صيغة السعر المستهدف (“أعرض عليك راتباً قدره كذا، ما مدى توافقه مع الراتب المثالي في نظرك؟”). اختارت الأغلبية الساحقة في جميع العيّنات صيغة السعر المستهدف، وأخبرَنا المشاركون بأنهم اختاروه لأنهم كانوا يخشون أن يؤدي استخدام صيغة السعر النهائي إلى إفساد علاقاتهم مع الطرف المقابل؛ إذ شعروا بأنه قد يسيء تفسيره ويعتبره سلوكاً مهيناً وغير مهذب (على الرغم من حقيقة أن دراساتنا أثبتت أن صيغة السعر النهائي في واقع الأمر لا تسيء إلى الطرف الآخر بقدر ما تسيء إليه صيغة السعر المستهدف الأكثر شيوعاً).

كشفت دراسة رابعة وأخيرة عن قيود مهمة تحكم أسلوب السعر النهائي: إذ تتضاءل فعاليته عندما يكون لدى الطرف المقابل عرض بديل قوي. حينما كان لدى المشاركين بديل قوي، استجابوا لصيغة السعر النهائي بأن قدموا عروضاً مضادة مماثلة للعروض المضادة المقدمة في المجموعات التي استخدمت صيغة السعر المستهدف في التفاوض، وقدموا عروضاً مضادة بأرقام أعلى من العروض المضادة المقدمة في المجموعات التي لم تستخدم أي صيغة. علاوة على ذلك، أدت صيغة السعر النهائي أيضاً إلى انخفاض معدلات الرضا عندما علم المشاركون أن لديهم عرضاً بديلاً قوياً. تشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن أسلوب صيغة السعر النهائي فعّال جداً عند التفاوض مع شخص ليس لديه عرض جذاب آخر، ولكن إذا حصل الطرف المقابل على عرض قوي آخر فسيصبح هذا النهج عديم الفعالية.

سيكون أسلوب صيغة السعر النهائي فعالاً جداً عندما لا يكون لدى الطرف الآخر أي بدائل، أو لديه بدائل ولكنها ضعيفة. من المهم أن تراعي أنه إذا كان لدى الطرف الآخر عرض بديل قوي، فطريقة السعر النهائي قد تأتي بنتائج عكسية. ومع ذلك، إذا كنت واثقاً من أن الخيارات المتاحة حالياً لدى الطرف الآخر محدودة، فهذه الاستراتيجية بسيطة وإن كانت غير شائعة للتفاوض بقوة مع الحفاظ على علاقة عمل إيجابية.