ملخص: مخاطر الذكاء الاصطناعي التوليدي حقيقية، لكن هذا لا يبرر التقاعس عن العمل على معالجتها، ولا يعني أن يتبع خبراء التسويق نهجاً شاملاً في التعامل مع الذكاء الاصطناعي التوليدي، فإما أن يتبنوه بالكامل من دون دراسة مخاطره وإما أن يتجنبوا استخدامه تماماً. في الواقع، هناك طريقة واعدة للتعامل مع هذه المسألة، وهي نهج دقيق يحدد فيه خبراء التسويق بطرق مدروسة المجالات التي يمكنهم تجربة الذكاء الاصطناعي التوليدي فيها، وتلك التي تتطلب منهم التروي. تقدم هذه المقالة إطار عمل من 4 خطوات وهي (التجزئة والتحليل والإدراك والتقييم)، للانتقال إلى استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في التسويق.
كشف استطلاع أجرته شركة ماكنزي حديثاً أن 10% إلى 14% فقط من الشركات تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي باستمرار في مبادرات التسويق والمبيعات، فما سبب هذه المحدودية ونحن نتحدث عن مجال يبدو أنه سيحقق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي؟ وكيف يمكن لخبراء التسويق ردم هذه الفجوة وتسخير هذه الإمكانات بالكامل؟ في حين يحاول هؤلاء التعامل مع هذا التحول الكبير، يبدو أن الكثير منهم يواجه صعوبة بالغة في معرفة من أين يبدأ.
يكمن أعظم إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي في 4 مجالات من عمل خبراء التسويق، وتكمن أكبر مخاطره المحتملة في 4 مجالات أخرى. وفيما يلي نوضح النقاط التي يجب على القادة معرفتها حول هذه المجالات، بالإضافة إلى إطار لبدء العمل.
4 مجالات تظهر فيها إمكانات الذكاء الاصطناعي في التسويق
من وجهة نظري، هناك أربعة مجالات رئيسية تظهر فيها إمكانات الذكاء الاصطناعي في التسويق وهي: التخصيص، والإبداع، والاتصال، وتكلفة المعرفة.
التخصيص
يتوق كل مستهلك إلى تجربة أصيلة تتناسب مع تفضيلاته ورحلته الفريدة، ويوفر الذكاء الاصطناعي التوليدي وسيلة لتحقيق ذلك على نطاق غير مسبوق.
لنأخذ مثلاً منصة رقمية لبيع السيارات المستعملة، كارفانا (Carvana)، إذ أنتجت مليوناً وثلاثمائة ألف مقطع فيديو فريداً باستخدام الذكاء الاصطناعي، وأطلقت عليها اسم "رحلات الفرح"، كل عنصر في الفيديو، بدءاً من العناصر المرئية وحتى الموسيقى التصويرية، كان مخصصاً بحسب الطلب. تمكنت شركة كارفانا من تحقيق هذا الابتكار بالاعتماد على بعض بيانات العملاء الأساسية، مثل طراز السيارة ولونها وسنة الصنع وتاريخ الشراء والموقع، وأثْرَت مقاطع الفيديو بالفعاليات الثقافية من ذلك الزمان والمكان. أما عن المدة التي استغرقها إنتاج هذه المقاطع فهي غالباً لم تتجاوز أكثر من نصف يوم عمل، وذلك بفضل البنية التحتية للحوسبة السحابية التي يمكنها معالجة 300 ألف مقطع فيديو في الساعة.
تختبر علامات تجارية أخرى الذكاء الاصطناعي التوليدي لتخطي الحواجز اللغوية وتلبية احتياجات الأسواق المختلفة. على سبيل المثال، تجرب سبوتيفاي الترجمة الصوتية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي لمدونات صوتية شائعة مختارة يُحتفظ فيها بالصوت الأصلي للمدون.
ينطوي الذكاء الاصطناعي التوليدي أيضاً على إمكانات كبيرة لتحسين تفاعلات العملاء من خلال مساعدة موظفي خدمة العملاء على خوض محادثات مخصصة أكثر. توفر دراسة حديثة أجريت على 5,179 فرداً من وكلاء دعم العملاء لمحة عن هذه المقدرة، إذ إن استخدام أداة ذكاء اصطناعي حوارية مساعِدة لتعزيز عمل الوكلاء أدى إلى زيادة كبيرة في عدد استعلامات العملاء الفردية المعالَجة مع ارتفاع معدل رضا العملاء عموماً.
لكن ما هذا إلا غيض من فيض، فالتطورات الأخيرة في تقنية الذكاء الاصطناعي المتعدد الوسائط ستعمل على توسيع قدرات روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي كي تولد حلولاً مخصصة لمشكلات العملاء. تخيل أن العميل يرسل دون عناء صورة لمنتج معيب لاسترداد المبلغ، فيزوده روبوت الدردشة الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي بسرعة بإرشادات حول هذا الأمر.
من الآن فصاعداً، سنشهد ازدهار مجال واعد يتمثل في تطوير شخصيات روبوتات الدردشة مصممة لخدمة شرائح محددة من العملاء. للتعرف على هذه الإمكانية، ما عليك سوى إلقاء نظرة على نجاح التطبيق الأكثر شيوعاً بعد تشات جي بي تي، كاركتر أيه آي (Character.ai)، الذي يسمح للمستخدمين بالتفاعل مع الشخصيات التي أنشئت باستخدام الذكاء الاصطناعي سواء كانت شخصيات خيالية أو تاريخية. كما أن شركة ميتا بصدد إطلاق روبوتات الدردشة ذات الشخصية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي عبر منصاتها الرئيسية مع خطط لتمكين العلامات التجارية من تصميم إصداراتها الخاصة.
الإبداع
الطريقة الثانية لتسخير الذكاء الاصطناعي التوليدي في التسويق هي الإبداع. في حين تستمر المناقشات حول قدرة الآلات على الإبداع، فمن الواضح أن الذكاء الاصطناعي قادر على توليد ما يُعد نتاجاً إبداعياً.
لنأخذ مثلاً نتائج دراسة حديثة أظهرت أن تشات جي بي تي تفوق على إبداع نخبة طلاب الجامعات في تخيل منتج جديد، إذ أُنتجت غالبية الأفكار المميزة بوساطة الذكاء الاصطناعي. في الواقع، حاز هذا النتاج جوائز إبداعية؛ فازت صورة أُنتجت بوساطة الذكاء الاصطناعي بجائزة سوني العالمية للتصوير الفوتوغرافي (Sony World Photography Awards) عن فئة الصور الإبداعية.
لكن القيمة الإبداعية الحقيقية للذكاء الاصطناعي التوليدي تتمثل في تعزيز الإبداع البشري. أظهرت تجربة حديثة مع 453 متخصصاً من ضمنهم خبراء تسويق يتضمن عملهم كتابة المحتوى باستمرار، أن استخدام تشات جي بي تي زاد جودة نتاجهم وأصالته 18%، وبالمثل، أظهرت دراسة أخرى أن استخدام الكتّاب الذكاء الاصطناعي التوليدي أدى إلى زيادة إبداعهم، ولا سيما الذين لا يتمتعون بقدرة إبداعية كبيرة في التأليف، إذ تحسّن مستواهم بما وصل إلى 26%.
تحققت هذه المكاسب بتدريب بسيط. الآن باستخدام الأدوات الجديدة المصممة على نحو خاص للتسويق، مثل جاسبر (Jasper) أصبح من الأسهل تحقيق مكاسب إبداعية على نطاق واسع لمختلف مهام إنشاء المحتوى. حتى إن بعض الشركات العالمية، مثل يونيليفر (Unilever) تعمل على إنشاء أدواتها للذكاء الاصطناعي التوليدي لكتابة المحتوى الإعلاني.
بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي، يمكن للمسوقين أيضاً التفكير بخيارات إبداعية أكثر. ومن الأمثلة على ذلك حملة كوكاكولا التي حملت شعار "تحفة فنية" (Masterpiece)، إذ أحيت من خلالها لوحات لشخصيات تاريخية مشهورة وفنانين ناشئين باستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي. حتى إن الشركة أطلقت مجموعة رموز غير قابلة للاستبدال بناءً على الفن الرقمي المستخدم في الإعلان، وحققت أكثر من 500 ألف دولار في 72 ساعة فقط.
التواصل
يوفر الذكاء الاصطناعي التوليدي طرقاً جديدة تتيح للعلامات التجارية التواصل بعمق مع العملاء، وتسهيل التفاعلات المباشرة بين العملاء ومنحهم دوراً أكبر في بناء قصص العلامة التجارية.
ومن الأمثلة على ذلك حملة جين أيه آي (Jen AI) التابعة لشركة فيرجين فوياجز (Virgin Voyages) التي تدعو فيها نسخة من الفنانة جينيفر لوبيز مولّدة بالذكاء الاصطناعي الناس إلى الانضمام. ولما كان المستهلكون جزءاً من الحملة، تتيح لهم أداة جين أيه آي إنشاء دعواتهم المخصصة ومشاركتها فيما بينهم، ما حقق معدل مشاركة يزيد 150% على معدل المشاركة في الحملات السابقة.
تتمثل الإمكانية الحقيقية وغير المستثمرة للذكاء الاصطناعي في نشر المشاركة في عمليات التسويق على نطاق واسع لأنه يقلل من الحواجز التقنية أمام المستهلكين. وهذا يعني أن كل مستهلك يمكنه الآن أن يصبح مصمماً وراوياً للقصص ومؤثراً. باستخدام نماذج تحويل النص إلى صورة، على سبيل المثال، يمكن للمستهلكين الآن إنشاء صور مرئية دون الحاجة إلى أي خبرة في التصميم الغرافيكي، ما يفتح أبواباً جديدة لفرص توسع نطاق الابتكار المشترك مع المستهلكين.
ومن الأمثلة الرائعة على ذلك مبادرة كوكاكولا "ابتكر سحراً حقيقياً" (Create Real Magic)، إذ دعت من خلالها المستهلكين إلى المشاركة في مسابقة لتوليد الصور باستخدام أداة مخصصة تمكّنهم من إنشاء صور من النصوص النثرية، ومن المقرر أن تتألق التصاميم الفائزة في ساحات الإعلان العالمية مثل ساحة تايمز سكوير في نيويورك.
لكن فوائد مثل هذه المبادرات لا تقتصر على الفائزين أو حتى المشاركين المباشرين. أشير في مقالتي التي ألفتها بالتشارك مع ستيفانو بونتوني إلى أن الفوائد واسعة النطاق بالفعل، ليس فقط للمشاركين مباشرة بل أيضاً للسوق الواسعة من خلال تعزيز العلاقات بصورة غير مباشرة وتعزيز نوايا الشراء.
تكلفة المعرفة
من أهم الآثار التحويلية للذكاء الاصطناعي التوليدي قدرته على تقليل تكلفة المعرفة بدرجة كبيرة، إذ يمكن للمسوقين تحقيق إنجازات أكثر بكثير بوقت وتكلفة أقل.
يشمل هذا الأثر التحويلي العديد من المهام المعرفية التي تظهر فيها فعالية إمكانات الذكاء الاصطناعي، بدءاً من صياغة منشور على مدونة الشركة وتحليل آراء العملاء النوعية وحتى تصميم إعلان جديد وإنشاء رمز برمجي لتطبيق ويب جديد.
لنأخذ مثلاً تجربة ميدانية جديدة أجريتها مع مستشاري مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG). أظهر المستشارون الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي كفاءة ملحوظة في مجموعة من المهام الاستشارية الواقعية، مثل توليد أفكار حول منتج جديد وتجزئة السوق وصياغة البيانات الصحفية، ففي المتوسط، أكملوا مهام أكثر بنسبة 12.2% ونفذوها أسرع بنسبة 25.1%، والأمر الأكثر إثارة للإعجاب هو أن جودة نتاجهم تجاوزت جودة نتاج أقرانهم في المجموعة الضابطة بأكثر من 40%.
بدأ بعض المعلنين بالفعل باستخدام الأداة للاستفادة من توفير النفقات في الإعلان. ومن الأمثلة على ذلك أكبر وكالة إعلانية في العالم، شركة دبليو بي بي (WPP)، إذ أشار رئيسها التنفيذي إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في الإعلان يمكن أن يرفع معدل توفير النفقات ما بين 10 أضعاف و20 ضعفاً.
4 مخاطر لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التسويق
في حين أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يقدم فرصاً غير مسبوقة، فهو مليء بالمخاطر أيضاً، 4 منها مُلحة وذات صلة خاصة بالمسوقين، وأشير إليها باسم العناصر الأربعة لمخاطر الذكاء الاصطناعي التسويقي: هلوسة الذكاء الاصطناعي والمقاومة النفسية لدى المستهلك وحقوق النشر والأمن السيبراني.
هلوسة الذكاء الاصطناعي
من المعروف أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يخلط بين الأمور أو ينتج محتوى غير دقيق، وهو يفعل ذلك بأسلوب مقنع للغاية، ويمكن أن ينشئ أيضاً محتوىً متحيزاً أو غير مناسب للسياق. يمكن أن تؤدي مثل هذه النتائج إلى اتخاذ قرارات تسويقية خاطئة، أو الأسوأ من ذلك، تشويه صورة العلامة التجارية في أعيُن المستهلكين.
وفي حين أن هذه المخاوف حقيقية، خاصة في مهام التفاعل المباشر مع العملاء ومهام التسويق الاستراتيجي، فثمة سبل للتخفيف من هذه المخاطر. على سبيل المثال، ضبط النماذج اللغوية الكبرى ضبطاً دقيقاً باستخدام بيانات خاصة بالمهمة، أو دمج التعلم في السياق، لتعزيز ملاءمة المحتوى الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي وتقليل احتمال الخلط، وهناك نهج فعال أكثر يتمثل في استمرار الرقابة البشرية على هذا المحتوى، وهذا يسمح برصد هلوسات الذكاء الاصطناعي وتصحيحها مع مواءمة المحتوى الذي ينتجه مع قيم العلامة التجارية وأهدافها.
مقاومة المستهلك (المفاعلة النفسية)
يمكن أن تؤدي تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدية إلى توليد مقاومة نفسية لدى المستهلك (تسمى في علم النفس مفاعلة نفسية وهي تتعلق بتعبير الفرد عن استقلاليته)، خاصة عند استخدامها في المحتوى التسويقي الذي يتعامل معه المستهلكون مباشرة، مثل روبوتات الدردشة المخصصة لخدمة العملاء أو المواد الترويجية أو المنتجات التي أنشئت بوساطة الذكاء الاصطناعي. يظهر هذا القلق بوضوح أكبر في المجالات التي تعتمد تقليدياً على الصفات الإنسانية، مثل التواصل والتفاعلات الاجتماعية أو أي مجال آخر يتطلب فهماً دقيقاً لشخصية الفرد.
من الإجراءات الفعالة في هذه المجالات، تأكيد الجوانب الإنسانية، من خلال تسويقها على أنها شبيهة بالبشر أو أنها من صنع الإنسان مثلاً. عندما تتصدر الأتمتة المشهد يصبح من الضروري إيضاح التفسير المنطقي لاستخدامها بشفافية، ففي نهاية المطاف، من غير المرجح أن يعترض المستهلكون عندما يوقنون أن دافع استخدام الحل المدعوم بالذكاء الاصطناعي هو الارتقاء بتجربة المستخدم، وليس فقط خفض التكاليف.
حقوق النشر
ما مدى ارتباط الذكاء الاصطناعي التوليدي بالملكية الإبداعية؟ ليس هذا مجرد سؤال فلسفي، إذ ينطوي النتاج الإبداعي للذكاء الاصطناعي على مخاطر معقدة بشأن حقوق النشر، ما قد يعرّض العلامة التجارية لمشكلات قانونية. وعلى الرغم من ذلك، فمن الممكن الحد من هذا الخطر أيضاً.
يجب على المسوقين أن ينتبهوا على الدوام إلى المناوشات القانونية التي يواجهها كبار مطوري الذكاء الاصطناعي. في الوقت الحالي، قد يكون المحتوى الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي فقط محمياً بقانون حقوق النشر، لكن دمج الإبداع البشري في نتاج الذكاء الاصطناعي، يعني أن هذه الحماية ستصبح مؤكدة.
تتضمن استراتيجية تخفيف المخاطر البحث عن شركاء ذوي مواقف استباقية في معالجة المخاوف المتعلقة بحقوق النشر. على سبيل المثال، طورت شركة غيتي إميدجيز أداة لتحويل النص إلى صورة اقتصرت في تدريبها على مكتبتها الإبداعية فقط، وهي تقدم للعملاء ترخيصاً قياسياً دون حقوق ملكية بالإضافة إلى تعويض غير محدود وحقوق استخدام دائمة وشاملة وغير حصرية. كما قدمت شركات كبرى لتطوير النماذج، مثل جوجل وأوبن أيه آي مؤخراً سياسات تعويض جديدة.
الأمن السيبراني
ينطوي الذكاء الاصطناعي التوليدي على تحديات أمنية جديدة، فهو لا يزود المجرمين السيبرانييين بأدوات قوية لشن هجمات متطورة فحسب، بل يعرّض العلامات التجارية أيضاً إلى "هجمات حقن التعليمات البرمجية" (prompt injection attacks)، تتيح لهم خداع روبوتات الدردشة للكشف عن بيانات حساسة أو إنشاء محتوى مضلل. من وجهة نظر تسويقية، تخلق هذه التهديدات أعباءً مالية هائلة بمتوسط تكلفة عالمية تبلغ 4.45 ملايين دولار، لكن المشكلة الأهم هي أنها تسبب ضرراً دائماً لسمعة العلامة التجارية وثقة المستهلكين بها.
ومع ذلك، ترسم البيانات الحديثة من شركة آي بي إم صورة محيرة. من الناحية النظرية، يدرك المدراء أهمية الأمن السيبراني في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي، لكن التطبيق الفعلي لهذا الفهم ما زال محدوداً. يبدو الحل واضحاً، على الرغم من أن القول أسهل من الفعل، وهو الاطلاع الدائم على بروتوكولات الأمن السيبراني للحماية من التهديدات المتطورة. وإذا كان الأمر يتعلق بالتعاون مع شركات الأمن السيبراني الراسخة أو بناء الخبرة الداخلية، فالوقت الحالي يتطلب اتخاذ إجراءات إدارية استباقية.
المضي قُدماً
مخاطر الذكاء الاصطناعي التوليدي حقيقية، لكن هذا لا يبرر التقاعس عن العمل على معالجتها، ولا يعني أن يتبع خبراء التسويق نهجاً شاملاً في التعامل مع الذكاء الاصطناعي التوليدي، فإما أن يتبنوه بالكامل من دون دراسة مخاطره وإما أن يتجنبوا استخدامه تماماً. في الواقع، هناك طريقة واعدة للتعامل مع هذه المسألة، وهي نهج دقيق يحدد فيه خبراء التسويق بطرق مدروسة المجالات التي يمكنهم تجربة الذكاء الاصطناعي التوليدي فيها، وتلك التي تتطلب منهم التروي.
وفي هذا الشأن، أنصح بإطار عمل من أربع خطوات وهي (التجزئة والتحليل والإدراك والتقييم)، للانتقال إلى استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في التسويق.
1) تجزئة الأدوار التسويقية
ابدأ بإعادة صياغة أدوار التسويق لا بوصفها كيانات موحدة بل مجموعة من المهام. خذ مثلاً دور متخصص تسويق المحتوى؛ فهو مزيج من مهام مثل إنشاء المحتوى وتحسين محركات البحث وأبحاث الجمهور وإدارة التقويم وتحليلات الأداء والتعاون مع فريق الوسائط وغير ذلك الكثير.
2) تحليل المهام
قارن الفرص المحتملة لكل مهمة فردية بمخاطرها الجوهرية، وحدد درجة على مقياس من 1 إلى 10، لقياس كل منها، ثم تعمق أكثر من خلال التطرق إلى تفاصيلها. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي نشر الذكاء الاصطناعي التوليدي لإنشاء محتوى الوسائط الاجتماعية إلى توسيع نطاق الإبداع مع توفير النفقات المعرفية العامة، ولكنه قد يتضمن مزالق مثل هلوسات الذكاء الاصطناعي أو خلق مقاومة نفسية لدى المستهلك.
3) إدراك أولويات التحول
خطِّط هذه المهام على مصفوفة 2×2 تضع الفرص مقابل المخاطر، وستصبح هذه المصفوفة دليلاً يوجه استراتيجية التحول.
المهام ذات الأولوية العالية (ربع الفرص العالية والمخاطر المنخفضة): أصبحت هذه المهام جاهزة للتحول القائم على الذكاء الاصطناعي التوليدي، ما يعِد بمكاسب كبيرة مع الحد الأدنى من المخاطر، لذا فإن التجريب الفوري هنا في محله.
المهام ذات الأولوية المتوسطة (ربع الفرص العالية والمخاطر العالية): هذه المهام سلاح ذو حدين، فهي تحمل الكثير من الوعود والكثير من المخاطر في آن معاً، ما يستدعي توجيه الجهود الإدارية إليها بصورة استباقية، وعليك استكشاف طرق تخفيف مخاطرها قبل الانخراط فيها.
المهام ذات الأولوية المنخفضة (ربع الفرص المنخفضة والمخاطر المنخفضة): هذه هي المهام التي تتطلب منك التروي، ويجب أن تكون في أسفل أولويات استراتيجية التحول التي ستتبعها، إذ يمكنك الانخراط فيها عندما تسمح الموارد بذلك.
المهام غير ذات الأولوية (ربع الفرص المنخفضة والمخاطر العالية): في هذه الحالة، تابع عملك وفق المعتاد، فالفوائد المحتملة للذكاء الاصطناعي لا تبرر التعامل مع التحديات المرتبطة به.
4) التقييم المتكرر
راجع خطتك للتحول إلى الذكاء الاصطناعي وأعِد ضبطها.
مشهد الذكاء الاصطناعي في تطور مستمر، فالابتكارات الجديدة، مثل الإنجازات الأخيرة في مجال الذكاء الاصطناعي المتعدد الوسائط، تغيّر مفهوم الممكن باستمرار. ومع اقتراح جهات فاعلة، مثل جوجل، حلولاً لتحديات مثل مشكلات حقوق النشر، تتطور المخاطر بالقدر نفسه، ومن ثم يجب أن يكون التقييم مستمراً.
دور البشر في التحول
في خضم دوامة التحول الاستراتيجي، قد نغفل عن الجانب الإنساني من التغيير، لكنه عنصر بالغ الأهمية لنجاح جهود التحول.
توقَّع قدراً من التخوف لدى الموظفين، فنحن البشر متحفظون بطبيعتنا تجاه التغيير والابتكار، لا سيما عندما يلقيان بظلالهما على أمننا الوظيفي، لذلك فالتواصل بشفافية وصدق ضروري جداً. وضح لأفراد فريقك أن التحول لا يتمحور حول استبدال الوظائف بل حول إعادة توزيع المهام، فأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي أنشئت في معظم الحالات لتعزيز عمل الموظفين وليس لاستبدالهم، والغرض من استخدام هذه التكنولوجيا ليس الاستغناء عن اللمسة الإنسانية بل إعادة تخصيص الموارد المعرفية، وحتى عندما يتدخل الذكاء الاصطناعي لمعالجة مهام محددة، فهذا لا يعني إلغاء مهام وظيفة بأكملها.
وللاستفادة حقاً من إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي، فأنت بحاجة إلى فريق يتمتع بمجموعة المهارات المناسبة، مثل صياغة المشكلات والاستكشاف والتجريب والتقييم النقدي. وإذا كان التحول القائم على الذكاء الاصطناعي يتعلق بتحديد المهام المناسبة له أو ضمان توافق نتائجه مع رؤيتك، فنجاح تحويل قطاع التسويق لن يكون ممكناً دون تجهيز فريقك للمرحلة التالية.
عموماً، يبدو أن إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي غير محدودة، وكذلك المخاوف المحيطة بتطبيقه، ويميل العديد من المدراء الذين يواجهون التحديات وأوجه الغموض إلى الاكتفاء بالمراقبة، وقد أظهر استطلاع حديث أجرته مجموعة بوسطن الاستشارية أن أغلب المدراء التنفيذيين يعارضون بشدة استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في مؤسساتهم.
لكن تجنب موجة الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يكون محفوفاً بالمخاطر، تماماً مثل ركوبها بطريقة غير مدروسة.
من الجدير بالذكر أننا لسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: تبني هذه التكنولوجيا أو رفضها بالكامل، بل ثمة طريق مدروس يتوسطهما، طريق استراتيجي للمضي قدماً لا يتطلب إيماناً أعمى وتهوراً.