إليك هذا المقال عن عائلة الغرير تحديداً. تشير الدراسات التي قمنا بها في مجلس الشركات العائلية الخليجية، أن نحو 80 مليار دولار ستنتقل خلال السنوات العشر القادمة من الجيل الثاني إلى الجيل الثالث في الشركات العائلية الكبرى لهذه الدول. وحذرنا وأحذر اليوم من التأخر في اتخاذ الخطوات اللازمة من قبل هذه الشركات للانتقال إلى مأسسة عمل هذه الشركات لضمان الاستمرارية والانتقال السلس لإدارات هذه الشركات من جيل إلى جيل، والحذر من عدم تفكك تلك الإمبراطوريات العائلية التي عاشت لسنين طويلة كمحركات أساسية لاقتصاديات دول الخليج العربي، لكنها اليوم - وككل الشركات العائلية في العالم- تواجه تحدي الانتقال للجيل الثالث.
أذكر ذلك باعتباري رئيساً لمجلس الشركات العائلية الخليجية، كما أذكر في هذا المقال تجربة الشركة العائلية التي أنتمي إليها "شركة الغرير القابضة المحدودة" والتي قامت بخطوات مهمة أشرف عليها الوالد عبدالله الغرير حيث طبقت بموجبها الشركة مبدأ فصل الإدارة عن الملكية ووضع النظام الأساسي الذي يحفظ الشركة، ويقلل أي احتمال للاختلاف والخلاف بين أصحاب الحقوق من أفراد عائلة الغرير، ويعمل في الوقت ذاته على زيادة انتمائهم للمؤسسة الأم مع المحافظة على هامش واسع في استيعاب الأفكار والمشاريع الريادية للشباب.
هذه المبادرة التي حرص الوالد على صياغتها ضمن النظام الأساسي للشركة الأم لتصبح نصاً قانونياً ملزماً، لم تكن في الواقع إلاّ أحد المؤشرات التي طالما برهن عليها التخطيط الاستراتيجي الجريء لعبدالله أحمد الغرير، فعندما استعرض بداية عمله الاستثماري عندما قرر وأخيه العم سيف تأسيس بنك المشرق (باسم بنك عمان آنذاك) عام 1967، كثاني بنك يتم تأسيسه في دولة الإمارات العربية المتحدة، فإن الجرأة في الانتقال من عمل تقليدي كانت تنخرط فيه عائلة الغرير عبر تجارة اللؤلؤ بين دبي وشمال الخليج العربي والعراق والهند وأفريقيا، إلى عالم مختلف كلياً من الاستثمار وهو عالم المصارف والبنوك، في الوقت الذي كانت فيه ثقافة التعامل مع البنوك محدودة في تلك الفترة، لكنها بدت واعدة مع بدء الاستثمارات النفطية وقيادة الشيخ زايد للبلاد. فكان قرار الدخول في هذا القطاع يدل على رؤية ثاقبة لدى الآباء المؤسسين.
ثم تابع الوالد عبدالله الغرير العمل بهذه العقلية المبادرة، عبر تأسيس أول شركة تأمين في الإمارات هي شركة "عمان للتأمين" ثم التوسع في قطاعات أخرى جديدة منها تأسيس أول مصنع للأسمنت في الإمارات، ثم تأسيس مركز الغرير، وهو أول مركز تسوق في دبي يحمل طابع "المول" بمصطلحات اليوم.
وأعتقد أن العائلة بأسرها وأنا شخصياً تعلمنا من الوالد كيفية تشرّب هذه المنهجية في التفكير الاستراتيجي المبادر. حيث حصل ذلك حينما انتقل الوالد في توسيع محفظته الاستثمارية نحو العديد من الصناعات في المجال الغذائي والاسمنت والتجارة والعقارات والطاقة والتأمين، فهي كلها استثمارات متنوعة كان الهدف منها الوصول إلى تكامل منتجات المجموعة، وتحقيق صيغة استثمارية تستطيع تجنب أية اهتزازات اقتصادية قد تصيب قطاعاً معيناً فتؤدي لضرر أعمال المجموعة. لقد منحنا هذا التنوع وصفة للأمان، استطعنا معها الانطلاق بجرأة في تبني التكنولوجيا الحديثة دون تردد وذلك بسبب شعورنا بأهمية الريادة، ولأننا في الوقت ذاته نستند إلى محفظة متنوعة تخضع لمعايير الحوكمة والشفافية التي تتطلبها البورصات المحلية والدولية، حيث تم إدراج الأركان الرئيسية لشركات المجموعة (ومنها بنك المشرق، عمان للتأمين، الأسمنت الوطنية) في بورصة دبي، فيما تخضع باقي الشركات التابعة للمجموعة لمعايير الشفافية والحوكمة ذاتها.
كانت الفكرة التي عمل الوالد على ترسيخها في ذهني هي أن أعمل على بناء العمل المؤسسي على أسس متينة وصحيحة، ثم بعدها أنطلق بكل ثقة نحو تطبيق كل الأفكار التي أجدها مجدية وواعدة حتى ولو كانت غريبة عن المألوف في الأسواق أو يحذر المستثمرون من الاقتراب منها، لذلك فإننا عبر استعراض مسيرة بنك المشرق على سبيل المثال والذي يعيش تجربة مرور أكثر من خمسين عاماً على تأسيسه، فإننا نجد أن نقاط التحول في هذه المسيرة، كانت تحمل كلمة "أول" والتي حرصنا على تبنيها من رؤية عبدالله الغرير والتي ينتهجها في كثير من أعماله. وهكذا فإن بنك المشرق قد سجل نفسه كأول بنك إماراتي يعتمد بطاقات الإئتمان وأول بنك يوزع الصرافات على مستوى الدولة، وأول بنك على مستوى الشرق الأوسط يتبنى الدفع عبر الهواتف الذكية، وأول بنك في الإمارات يتيح خدماته بالكامل عبر الإنترنت وغيرها الكثير.
إدارة اسم العائلة
كانت هذه المرحلة التي أسميها مرحلة "التأسيس" والتي قادها الوالد بالشراكة مع شقيقه العم سيف، قد وصلت لنقطة تحول في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، حينما قرر الوالد وشقيقه الانفصال كلاً في مساره الخاص حاملين اسم "الغرير" كاسم للشركات العائلية التي تولوا إدارتها بشكل مستقل. وقد كان الحرص على حفظ إرث الشركة العائلية الأم وتكريس تقاليد العمل العائلي الموحد مبدأ انتهجه الشقيقان. فقد حافظ العم سيف وأبناؤه على أسهم ضمن شركتنا الأم والشركات التابعة لها والتي أدارها والدي وأبناؤه بمن فيهم أنا.
كان هذا التعاضد بين الشقيقين وأبنائهم والانخراط ولو بأسهم رمزية ضمن عمل الشركة الأم، رسالة مهمة للأجيال الجديدة من أبناء العائلة تبين لهم أهمية الترفّع عن الاختلاف في وجهات النظر الشخصية لصالح العمل ووحدة الأسرة. هذا التعاضد أثمر نتائجه حتى على صعيد العمل الخاص والمستقل لكل من أبناء الجد أحمد الغرير، فقد كانت السمة المشتركة هي "صدق الكلمة وجودة العمل".
وقد شهدنا في هذه الفترة نمواً ونجاحاً لشركاتنا بهذا الخصوص، كما ساهمت أعمالنا في مشاريع تاريخية مثل تعهد إكساء واجهة برج خليفة -الأطول في العالم- بالألمنيوم المنتج في مصانعنا.
كما شهد التنويع في المحفظة الاستثمارية توسعاً أكبر، حيث حرصنا على تنويع مواردنا وتوزيع خبرتنا في قطاعات أخرى، لأن معيار النجاح الذي نؤمن به والدي وأنا، هو أن "الإدارة" هي من يميز عملاً ناجحاً عن آخر فاشلٍ ربما. وإدارة الغرير التي تربط اسم العائلة بمنتجاتها المالية والغذائية والصناعية وغيرها من الخدمات هي أمر مقصود نهدف منه تذكير أبناء العائلة ممن يعملون في هذه الشركات بأن يحافظوا على جودة المنتجات والخدمات بمقدار حفاظهم على اسم عائلتهم، وأن أي إهمال أو تقصير سيسيء بالنتيجة لسمعة العائلة.
تحدي الخبرة
باعتباري أحد أبناء عبدالله الغرير والملازم له في أعماله منذ الصغر، فقد تدرجت في العمل ضمن المؤسسة الأكبر التي يديرها الوالد وهي "بنك المشرق"، حيث عملت فيه كموظف مبتدئ ثم تدرجت في المناصب عبر سنوات حتى وصلت لمنصب الرئيس التنفيذي في البنك. وفي هذه المرحلة كان عليّ أن أترجم ثقة الوالد والذي عينني رئيساً لأحد أكبر البنوك في المنطقة وكان عمري يومها 35 عاماً، فقررت العمل على تحديث بنية البنك وهيكليته وفقاً لأحدث المعايير العالمية، وكذلك تأهيل كوادر البنك وبنيته التحتية لتواكب تطورات التكنولوجية المتسارعة التي بدأت تظهر في بداية التسعينيات مع بوادر ظهور عصر الإنترنت. في تلك الفترة لم يكن في المنطقة مكاتب للشركات الاستشارية العالمية الكبرى، فقررت استدعاء خبرات شركة استشارية عالمية لمساعدتنا في إعادة هيكلة البنك وفقاً لأحدث المعايير، لكن هذا الطموح واجه تحدٍ غير متوقع، إذ حصل غزو العراق للكويت وبدأت طبول الحرب تدق في المنطقة، وهنا هرب المستشارون ولم يكملوا عملهم. لكن الذي حصل بعد هذه التجربة وهذا التحدي، هو أنني شخصياً وكل زملائي في فريق العمل تعلمنا أن نعتمد على أنفسنا ونؤهل خبرات محلية تكون قادرة على مواكبة المعايير العالمية.
انعكست هذه الخبرة إيجاباً وذلك بالانتشار الواثق لأعمالنا في نحو عشرين بلداً حول العالم، كما حققت جودة العمل الكثير من الجوائز التي تم من خلالها تكريم البنك كأفضل بيئة عمل لخمس سنوات على التوالي، وتم تكريمنا أكثر من مرة بسبب مواكبتنا لأحدث تقنيات التكنولوجيا وتطبيقات الهواتف الذكية.
وإذا أردت أن أُجِمل تطور الغرير كشركة عائلية، فإنني أربطها بتطور تاريخ الإمارات كدولة، فقد بدأت الشركة مع الجد المؤسس أحمد الغرير ثم انتقلت لمستوى ريادي مع الوالد عبدالله والعم سيف، حيث كان لهما الفضل في إدخال قطاعات واستثمارات جديدة والتوسع نحو بلدان العالم، ثم جاءت المرحلة التي ساهمت فيها مع أبناء الجيل الثاني والثالث من عائلة الغرير في توسيع وإعادة هيكلة حديثة لكل مؤسساتنا، مع الحفاظ على القيم الراسخة التي مازلنا نتعلمها من المؤسسين وأهمها الحرص على "السمعة"، والتي نترجمها -كما ذكرت- بتأكيد المحافظة على سمعة اسم عائلة الغرير من أي تشويه قد يتسبب به أي سلوك مسيء أو خدمة أو منتج مخالف لمواصفات الجودة العالية.
نقطة التحول
كانت المرحلة التي وثّقت فيها عائلتنا معاييرها ودستورها للمرحلة القادمة هي عام 2012، حينما قرر الوالد مع دخوله العام الثمانين من العمر، أن يوثق العمل بشكل مؤسسي متكامل بما فيه علاقة أبناء العائلة والشركاء بالمؤسسة.
لقد كانت هذه الخطوة واعدة و تستبق أية احتمالات لخلافات في وجهات النظر مهما كانت صغيرة، والحيلولة دون تأثيرها بشكل سلبي على مستقبل الشركة وأعمالها. لقد تعلم الوالد من تجربة انفصال العمل مع عمي سيف، والتي أدارها الشقيقان بكل مهنية ومسؤولية في الحفاظ على اسم العائلة، تعلم منها أن اتساع حجم العائلة وعدد أفرادها وأعمالها، أصبح يتطلب أساساً قانونياً عادلاً ينظّمه.
وهكذا كانت في هذا العام نقطة التحول الكبرى في تاريخ عائلة الغرير، حيث أسس الوالد أولاً للخطوة الأولى التي يحول بينها وبين أي خلاف قد ينشأ بين ورثته -أطال لله في عمره- فكانت الخطوة الأولى هي تأسيس شركة في مركز دبي المالي باسم شركة الغرير القابضة المحدودة، تمتلك جميع شركاته وحصصه في الشركات الأخرى والعقارات التي يمتلكها، وقرر توزيع هذه الثروة بالكامل على ورثته وفقاً للشريعة الإسلامية، فحصل كل أبناءه وبناته وزوجاته على حصصهم في هذه الشركة الأم. وقد حقق الوالد في هذه الخطوة عدة أهداف، أولها هو أن تكون جميع الممتلكات والشركات مملوكة من شركة أم واحدة تتبع لها باقي الشركات في الملكية، وهذا ما حال دون الخطأ الذي تقع فيه بعض الشركات العائلية التي تبقى مفتتة، فبعد وفاة المؤسس تحدث عادة عملية توزيع الحصص، فيأخذ بعض الأبناء الشركة الفلانية، وبعضهم شركة أخرى وبعضهم بناية معينة أو عقار، وهذا ما يؤدي لتفتت أعمال تلك الشركات ونشوء الخلافات المحتملة، حيث يدب النزاع بين أبناء العائلة حول من يحق له الحصول على هذا المصنع أو ذاك أو تلك الشركة أو هذا العقار.
ما فعله الوالد هو تجنب هذه الإشكالية، وخلق شعور من العدالة لدى جميع أبناء العائلة، فجميعهم لديهم حصص في جميع الشركات والممتلكات باعتبارهم يمتلكون حصصاً في الشركة الأم.
كما أن النظام الأساسي الذي سجله الوالد قانونياً للشركة الأم، لم ينس فيها أبناء بناته من حصص وأسهم بالرغم من أنهم لا يحملون اسم "عبدلله أحمد الغرير". ومع ذلك، فقد وُضع لهم بموجب رؤية الوالد لهذا النظام حصصاً من الفئة (ب) وهي فئة تخولهم الانتفاع من الأسهم دون الحق في التصويت ودخول مجالس الإدارة.
أما على صعيد حملة الأسهم من أبناء وأحفاد عبدالله الغرير، فقد كان شرط الوالد واضحاً في هذا النظام الأساسي والذي يعتبر بمثابة دستور للعائلة، وهو أنه يجب عليهم المحافظة على هذه المجموعة من الشركات كوحدة اقتصادية متكاملة، فلا يمكن تسييل أصولها أو توزيع أكثر من 50% من أرباحها، كما حدد هذا النظام أسلوباً للتخارج من الشركة يحافظ على هذا المبدأ، فإذا قرر أحد من أفراد الأسرة التخارج وبيع حصته- وهذا لم يحدث حتى الآن- فيمكنه القيام بذلك سنوياً بعد تدقيق حسابات الشركة وتقييمها من قبل شركة متخصصة، حيث يجب أن يعرض حصته أولاً على الشركة الأم نفسها، بحيث يدرس مجلس إدارتها المكوّن نصفه من أبناء العائلة والنصف الآخر من خبراء مستقلين، ثم يقرر فيما إذا كانت الشركة راغبة بشراء هذه الحصة أم لا وفقاً لسعر عادل. وفي حال لم يتم الاتفاق فيمكن لصاحب الحصة أن يعرضها على باقي المساهمين والشركاء في الشركة، فإن لم يحدث توافق فيمكنه العودة للتفاوض مع الشركة على السعر من جديد ولو بقيمة أقل من السعر الذي حددته الشركة المقيّمة للحصة. والمهم في كل هذه العملية هو أن تباع الحصة ضمن كيان الشركة ومساهميها وليس خارجها.
وهكذا ضمن الوالد بقاء ممتلكات الشركة وأبناء العائلة ضمن تعاضد مؤطر قانونياً. وقد كان هذا واضحاً من خلال إشراك الوالد في هذا النظام للبنات وأبنائهن في الحصص، خلافاً لما هو سائد في كثير من الشركات الخليجية والتي تتجه لمنح البنات بدلاً نقدياً عن حصصهن في الشركات بعد رحيل المؤسس، لكن الوالد حرص في هذا النظام على منحن حصصاً ضمن الشركات كما منح أبنائهن حصصاً أيضاً واعتبرهم جزءاً من استمرارية هذه الشركة العائلة وجزءاً من أصحاب المصلحة فيها.
التعامل مع الجيل الثالث
كانت عملية توزيع ثروة الوالد حياً على ورثته، نقطة ملفتة وتجربة لم أشهد لها مثيلاً من الحرص على وحدة الشركة العائلية، وقد تم توثيقها في نظام قانوني مكتوب ومؤطر، كما أنه لم يغفل باقي التحديات التي يمكن أن تواجه الشركات العائلية في الجيل الثاني والثالث، فقد أخذ بعين الاعتبار عملية توظيف أبناء العائلة ضمن شركات المجموعة، فحدد لها بنوداً واضحة تنص على ضرورة عمل أي فرد من أفراد العائلة لمدة خمس سنوات خارج المجموعة قبل أن يحق له التقدم للعمل في أي من شركات الغرير، ثم يتم تعيينه بناء على كفاءته والحاجة له كأي متقدم آخر.
لدينا الآن حوالي 40% من أبناء العائلة ممن هم في سن العمل يعملون في مجموعة شركات الغرير والباقي لديهم أعمالهم الخاصة أو هم ما زالوا قيد اكتساب الخبرة في شركات خارجية.
وفي الوقت ذاته، فقد أسسنا قسماً داخل شركاتنا مهمته تقييم عمل أبناء العائلة، ويشرف عليه خبراء ومختصون من خارج العائلة، حيث يتم على هذا الأساس تقدير حاجة كل فرد من أفراد عائلة الغرير العاملين في الشركة للتدريب والتطوير أو الترقية في العمل.
ولأن الوالد أدرك أيضاً الحاجة لاستيعاب أفكار الشباب من أبناء عائلة الغرير ممن لا يرغبون بالعمل ضمن اختصاصات الشركة، فقد فتح الباب لاستقبال طلباتهم لعرض مشاريعهم الخاصة أو أفكارهم الريادية لتطويرها وتمويلها أو تبنيها من قبل إحدى شركاتنا، وقد عملنا مؤخراً على صياغة كل متطلبات هذا المشروع، وبدأنا باستقبال طلبات الراغبين ودراستها بكل انفتاح.
وما يساهم بتقديري في نجاح هذه الوصفة المتكاملة لعبدلله الغرير، هو أنها تنطلق من شركة مؤسسة بالكامل على أسس الشفافية، حيث تم إدراج ثلاثة من أكبر شركاتها ضمن البورصة وهي (بنك المشرق، اسمنت الوطنية، عمان للتأمين)، كما تتم عملية إدارة جميع شركاتها بعقلية مؤسسية غير مستندة لأسس عائلية فردية. فرئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة الغرير القابضة المحدودة والتي تمتلك الحصة الأكبر في شركات يرأسها شخص من خارج أفراد العائلة، وأتولي فيها أنا منصب عضو مجلس الإدارة، كما أن تركيبة باقي أعضاء مجلس الإدارة للشركة الأم قائمة على مبدأ تكوينها من نسبة 50% ينتمون لأفراد العائلة و50% من الكفاءات المستقلة من خارج العائلة. والجميع من أبناء العائلة يعلم أننا لا نقوم بذلك بهدف التنويع فقط، بل لأننا نبحث عن الأكفأ لكل منصب. وأذكر أنني ناقشت هذه الفكرة مع أحد أصحاب الشركات العائلية الكبرى في ألمانيا، فسألته، لماذا تشترط أن يكون الرئيس التنفيذي من خارج العائلة، فأخبرني أن لديه في العائلة ولداً وبنت فقط، وأن المنطق يفرض عليه الاختيار بين كفاءات موجودة بين 80 مليون شخص -وهم مجموع الشعب الألماني- وبين اثنين هم أبناءه، وأن المنطق يفرض أن الخيار الأكثر احتمالاً لإيجاد أفضل الكفاءات هو من بين الـ 80 مليون شخص وليس بين اثنين.
خطوة غير مسبوقة
كانت الخطوة غير المسبوقة على مستوى المنطقة والتي أعلنها الوالد عام 2015، هي التي شكلت نقطة التحول وأعطت لأبنائه درساً يكتمل فيه النجاح بالعطاء، حيث أعلن التبرع بثلث ثروته قبل توزيع الحصص على الورثة، وخصص هذا القسم لتأسيس مؤسسة عبدالله الغرير للتعليم والتي تهدف لإنفاق هذا المبلغ الذي يزيد عن المليار دولار في تعليم ما يزيد عن 15 ألف طالب إماراتي وعربي خلال عشر سنوات من ذلك التاريخ.
لقد كان هذا المشروع حدثاً كبيراً في المنطقة تعلّم منه كثيرون من أصحاب الثروات كيف يردون العطاء لمجتمعاتهم، وأن لا تشغلهم ثرواتهم عن مسؤوليتهم الاجتماعية وخاصة في تبني دعم الطامحين للنجاح عبر الترقي في سلم التعليم. كما تعلم أبناء عائلة الغرير الكثير من هذا الدرس، وهو أن عليهم ألا ينسوا حصة المجتمع في حصصهم التي حصلوا عليها أو في مشاريعهم التي سيبنونها مستقبلاً، وهذا ما تعلمته شخصياً وهو ما أعمل باستمرار على تذكير نفسي وباقي أفراد العائلة به.
أعتقد اليوم وأنا أكتب هذا المقال، أنني فخور بما أسسته مع ووالدي عبدلله الغرير من قواعد تضمن استمرارية هذه الشركة وارتباط أبناء عائلة الغرير بها على أسس متينة. بل إنني واثق من أن هذه التجربة يمكن أن تقدم للكثير من الشركات العائلية في المنطقة نموذجاً ملهماً، ويمكن أن تطبق بخطوات واثقة مع انتقال منطقة الخليج العربي من نموذج اقتصادي معتمد على النفط إلى نموذج آخر معتمد على الكفاءة والقيمة المضافة في الإنتاج.