ملخص: من الجيد أن تقود بكفاءة في فترة تشوبها درجة معتادة من عدم اليقين، بكل ما تنطوي عليه من تقلبات، ولكن كيف تنجح في القيادة بظروف تتكاثر فيها الاضطرابات والزعزعة والانحرافات عن المسار المخطط له وغير ذلك من عوامل التهديد، مثلما شهدناه في السنوات القليلة الماضية؟ ليس للقائد سيطرة تذكر على البيئة التنافسية الخارجية، ولكنه يؤثر بدرجة لافتة على بيئة الأداء داخل شركته، وخاصةً مشاركة الموظفين ومعنوياتهم وإنتاجيتهم. والسؤال هنا: كيف يساعد القائد موظفيه على النجاح في ظل ظروف عدم اليقين الشديدة؟ يقدم الكاتب 4 استراتيجيات عملية لمساعدة القائد على إشراك الموظفين وضمان التزامهم في ظل أقسى الظروف التي قد تمر بها الشركة.
بينما يتصاعد مستوى الاضطرابات التي تعايشها شركات عدة، يضطر القادة إلى ممارسة دورهم القيادي في عصر الأعباء المرهقة. ويكفي أن نلقي نظرة على الاتجاه التصاعدي طويل الأمد على "مؤشر عدم اليقين العالمي" (World Uncertainty Index). وفي هذا السياق، نستشهد بنظرية كلايتون كريستنسن "المهام الواجب إنجازها" (job-to-be-done theory)، ونسأل: لماذا نستعين بالقادة؟ ما مهامهم الواجب إنجازها؟
من الإجابات أننا نستعين بالقادة لقدرتهم على التوجيه والإرشاد خلال فترات عدم اليقين، إنها حالة "توازن منظم وسلس ومكتفٍ وذاتي التجديد" وصفها الفيلسوف السياسي أشعيا برلين بشيء نظري لا يمكن تحقيقه في الواقع. ولأن فترات عدم اليقين حقيقة لا ريب فيها، فلا يمكن أن تنتفي الحاجة إلى وجود قائد. ولكن، هل هو أهل للمهمة حقاً؟
من الجيد أن تقود بكفاءة في فترة تشوبها درجة معتادة من عدم اليقين، بكل ما تنطوي عليه من تقلبات، ولكن كيف تنجح في القيادة بظروف تتكاثر فيها الاضطرابات والزعزعة والانحرافات عن المسار المخطط له وغير ذلك من عوامل التهديد، مثلما شهدناه في السنوات القليلة الماضية؟ كيف تقود بينما توهِن التقلبات عزيمة أفراد المؤسسة؟ كيف تحفز موظفيك وتحشد قدراً أكبر من الطاقة الكامنة في منظومة الشركة؟ وكيف تمضي نحو مستقبل تجهل معالمه دون خوف؟
لقد اتضح لي، خلال 30 عاماً من العمل مع قادة في مجموعة واسعة من القطاعات أنه ليس من الحتمي أن تؤدي حالة عدم اليقين إلى شيوع الإحباط بين الموظفين أو إحساسهم بالانفصال أو إلى تدهور الإنتاجية؛ والواقع أنني شهدت العديد من الأمثلة المناقضة لهذا المنطق حيث تطور الأداء وتصاعدت قوته مع اشتداد حالة عدم اليقين وتزايد تعقيدها. فما التفسير المنطقي لهذه الظاهرة؟
ليس للقائد سيطرة تذكر على البيئة التنافسية الخارجية، ولكنه يؤثر بدرجة لافتة على بيئة الأداء داخل شركته، وخاصةً مشاركة الموظفين ومعنوياتهم وإنتاجيتهم. والسؤال هنا: كيف يساعد القائد موظفيه على النجاح في ظل ظروف عدم اليقين الشديدة؟ إليك 4 استراتيجيات عملية لمساعدة القائد على إشراك الموظفين وضمان التزامهم في ظل أقسى الظروف.
بناء الثقة المتينة
يواجه القائد الجدير بالثقة حالة عدم اليقين الشديدة في بيئة العمل بقدرة عالية على التنبؤ بسلوك الأفراد من حوله. عملت سنوات طوال مع رئيس تنفيذي في واحدة من شركات قائمة فورتشن 500، نجح في بناء "الثقة المتينة" (القائمة على المعرفة الشخصية الوطيدة) (thick trust) مع موظفيه؛ بعبارة أخرى، وصل موظفوه إلى درجة الإحاطة بسلوكه والتنبؤ بتصرفاته. قال لي نائب الرئيس لشؤون الموارد البشرية في تلك الشركة: "نعرف قيمه ومهاراته ومسيرته المهنية الحافلة، وبالتالي يتسنى لنا توقع ردود أفعاله وخطواته. ويمكنني القول إنه شخص متوقع، بالمعنى الحسن للعبارة!" عندما يكون القائد على قدر التوقعات في مناسبة تلو الأخرى، تتوطد العلاقة بينه وبين موظفيه بمرور الوقت لتصبح عقداً غير معلن وحالة ثقة متينة تعزز نفسها بنفسها.
وفي فترات عدم اليقين، وحده القائد الجدير بالثقة يستطيع تحفيز موظفيه على بذل أقصى جهودهم طواعية، فيواصلون المشاركة ويقدمون أفضل أداء لأنهم اكتسبوا ما أسماه الفيلسوف راسل هاردن "إبستمولوجيا الثقة لدى المجتمع العام": لقد راقبوك من كثب في العمل فترة طويلة فأصبح بوسعهم تقدير خطواتك مستقبلاً بناءً على شخصيتك وكفاءتك، فتخمد مصداقيتك مخاوفهم وتمنحهم ثقةً أكبر للمضي قدماً.
التسلح بالرؤية
من سمات القيادة رسم صورة للمستقبل وإلهام الآخرين لتحقيقها، وفي فترات عدم اليقين تحفز الرؤية الموظفين وتمنحهم دافعاً أقوى من غريزة البقاء ليؤدوا أعمالهم ويمتصوا توترهم. ونجاحك في صياغة رؤية دقيقة تعكس طموحات الشركة بوضوح يعني أنك سوف تساعد الموظفين على التعامل مع عدم اليقين كتعاملهم مع بقية جوانب هذه الرحلة وصولاً إلى الوجهة النهائية، ورؤيتك المتبصرة ملاذ آمن وموثوق لموظفيك من براثن الأزمات العاتية.
خذ مثلاً الطبيعة الدورية الفائقة لصناعة أشباه الموصلات عالمياً؛ سبق لي العمل مع رئيس تنفيذي في هذا المجال يعتمد على رؤيته بدرجة كبيرة، إذ يستطيع توقع حالة الزعزعة التي تواكب كل فترة ركود قصير الأجل بسهولة وينبّه الشركة باستمرار إلى الاضطرابات، لكنه يشترط كذلك على الشركة أن تنظر إلى ما هو أبعد من الاضطراب العابر، لتتبنى رؤيةً أوسع نطاقاً وأطول أمداً لطرق تحقيق الريادة العالمية في القطاع. فالرؤية طويلة المدى تحصين فعال ضد الإحباط قصير الأمد، هذه هي الميزة الضمنية للرؤية المصوغة بدقة وهي حافز بنّاء لتجاوز حالة عدم اليقين الشديدة، وبتوسيع نطاق الرؤية يكتسب الموظفون المنظور الذي يحتاجون إليه بشدة.
رفع سوية الأمانة والشفافية
الأمانة والشفافية هما ثالث القوى الموازنة لحالة عدم اليقين. لا أسوأ من قائد يحاول صنع حالة يقين زائفة بتبني خطاب لا علاقة له بالواقع، ويزعجني أن أرى قادةً يستعينون بما لديهم من كاريزما في محاولات لتهدئة مخاوف موظفيهم بوعود لا يمكنهم الوفاء بها. وكم سمعت قادة يقولون عبارات مثل: "سوف يتعافى السوق خلال الأشهر الستة المقبلة" و"لن يفقد أحد وظيفته" و"هذه الأولويات ثابتة" و"سوف يتجاوز هذا المنتج الجديد بكثير توقعاتنا المتحفظة للإيرادات" و"لن يتأثر فريقكم بهذه الحالة".
في ظل أزمة عدم اليقين، يميل الناس إلى الجمود أمام التهديد وتتدهور قدرتهم على التفاعل وصنع القرار، كما أنهم ينشغلون بمآلات كارثية ويملؤون فجوة التواصل بينهم بنقاشات سلبية وتفسيرات مشوهة وتنبؤات سيئة وسيناريوهات حتمية. وهنا، من المهم أن تعبر عن ثقتك بقدرتك على مواجهة المستقبل؛ لكن احرص على ألا تقدم ضمانات لا أساس لها، فمغبة ذلك خطيرة.
على سبيل المثال، راقبت مديرة عمليات تقود فريقها في أثناء تنفيذ خطة إعادة تنظيم بموجب الفصل الحادي عشر من قانون الإفلاس ولم تسمح لفريقها بأن يملأ فجوة التواصل بنقل الإشاعات والنقاشات السلبية، بل اتخذت الاتجاه المعاكس وعززت جودة التواصل مع فريقها ووتيرته. وسعياً إلى تحضير أفراد فريقها لمواجهة حالة عدم اليقين الشديدة المرتقبة جمعتهم لحوار صريح بلا تحفظات، وأوضحت لهم أن دورها هو توضيح الحقائق لهم لا حجبها عنهم، وأن هناك أربعة حقائق ستبقى حاضرة بينهم في تعاملهم مع مشكلة الإفلاس هذه:
- أنها لا تملك كل المعلومات.
- أنها لن تستطيع إزالة كل المخاطر.
- أنها لا تعدهم بعدم تكبد خسائر.
- أنها ليس بمقدورها محو كل الآلام.
وقد أدى توضيح الحقائق البديهية ولكنها محببة بأسلوب يظهر الالتزام الشخصي إلى تماسك الفريق بدرجة غير مسبوقة. وبدلاً من أن يتمثل رد فعل الفريق تجاه حالة عدم اليقين في رفض بذل الجهود الاختيارية ورفع الإنتاجية، ازداد التزامه بهما وارتفعت نتائج مقاييس كل من الإنتاجية والعائد والجودة. وبعد معاناة عام كامل من عدم اليقين الشديد نجحت الشركة في الخروج من إجراءات الإفلاس.
تحويل عدم اليقين إلى فرصة
الاستراتيجية الأخيرة للقيادة في فترات عدم اليقين هي ترويض المجهول ليصبح فرصة. ضع في اعتبارك أن الشركات تنهض بمهمتين أساسيتين: التنفيذ والابتكار؛ التنفيذ هو تحقيق القيمة وتسليمها في الوقت الحاضر بالاستفادة من "حقائق" الوضع الراهن التي تشمل مكونات مثل الاستراتيجية الحالية والقدرة والموارد، في حين يشير الابتكار إلى تحقيق القيمة وتسليمها في المستقبل باستكشاف حالات عدم اليقين، فليس من الممكن الاستفادة من حقيقة غير مؤكدة لتحقيق مكاسب في الوقت الراهن.
أعمل مع رئيس تنفيذي يستمتع بكل فترة ركود في الدورة الاقتصادية لهذا السبب عينه؛ فعندما يسود عدم اليقين القطاع الذي تنشط فيه شركته، يرى في ذلك أعظم فرصة للبحث عن أسواق ومنتجات وصفقات استحواذ جديدة. فعند تراجع الطلب مثلاً، ينتظر إلى أن يلجأ منافسوه لسياسات التقشف وخفض التكاليف ليستفيد من قوة ميزانيته في الاستحواذ على أصول بسعر أدنى من قيمتها الحقيقية ويخطط لجني عائدات هذا الاستغلال حالما يتعافى السوق. عندما اعتبر الرئيس التنفيذي حالة عدم اليقين فرصة سانحة تمكن من تغيير ثقافة الشركة والتصور السائد لدى الموظفين عن انعدام اليقين، أي أنه جرد حالة عدم اليقين من تأثيرها المخيف وجعلها مبعثاً للثقة ومجالاً لاستطلاع الفرص وتوقع النتائج المبشرة؛ وبينما يتمهل المنافسون ويلزمون الحذر، تنشط الشركة تحقق نمواً سريعاً.
خلال فترات عدم اليقين، يمثل القائد مصدر استقرار داخلي في وجه الاضطرابات الخارجية، وسوف تتزايد حاجة عالمنا المتقلب إلى ما تتمتع به الشركة القوية من قدرة على التكيف، ومن الضروري أن يتوصل القادة إلى سبل لبناء الثقة وضمان الاستمرارية في خضم حالة عدم يقين شديدة. ويمكن للقائد أن يحقق ذلك ببناء الثقة المتينة والتحصن بالرؤية الثاقبة وتعزيز الصدق والشفافية والاستفادة من حالة عدم اليقين على اعتبارها فرصة.