ملخص: بعد عقود من ابتكار الجيش الأميركي نظام المراجعة بعد العمل (أو مراجعة الأداء المهني)، تبنته الشركات باعتباره وسيلة للتعلم من الفشل والنجاح على حدٍّ سواء، لكنه تعرّض للاختزال إلى أن بات مجرد ممارسة شكلية في كثير من الأحيان. ويستعرض مؤلفو المقال تاريخ النسخة الأصلية لهذا النظام وفلسفته، ويكشفون زيف 3 أوهام تحيط به وتعرقل تطبيقه بالأسلوب الصحيح، ومن ثم يقترحون 3 توصيات للتحسُّن بمقدورها مساعدة قادة الشركات على تحقيق أقصى استفادة ممكنة منه.
كيف تُصلِح عملية باءت بالفشل؟ وكيف تكرر نجاحاً غير متوقع؟ وإذا وقعت كارثة، فكيف تضمن عدم تكرار وقوعها مجدداً؟ يجب على كل مؤسسة أن تطرح مثل هذه الأسئلة.
توصّل الجيش الأميركي في السبعينيات إلى إجابة عن هذه الأسئلة تمثلت في نظام "المراجعة بعد العمل" ( After Action Review) أو اختصاراً (AAR). وفي العقود التالية، تبنت الشركات هذا النظام الذي لاقى اهتماماً كبيراً بعد نشر مقال مؤثر عنه في هارفارد بزنس ريفيو عام 2005. وتطبّق كبريات الشركات هذا النظام حالياً بصورة روتينية، وعلى رأسها شركتا مايكروسوفت وبوينغ، كما أصبح أسلوباً شائعاً لمواجهة الأزمات في مؤسسات أخرى عديدة.
حاز نظام المراجعة بعد العمل هذه الشهرة الواسعة بفضل فعاليته الهائلة؛ فبمقدوره وقف هبوط الأرباح وتسريع النمو والحيلولة دون تكرار الفواجع.
لكن الحقيقة أن غالبية أنظمة المراجعة بعد العمل عديمة الفعالية، وبدلاً من تقديم تحليل عميق وصادق للأخطاء والزلات، تعرّضت للاختزال إلى أن باتت مجرد ممارسات شكلية يستغلها قادة الشركات للتهرب من تحمّل المسؤولية والتمويه على الأخطاء؛ إذ تتجاهل المؤسسات الآراء المزعجة أو تحاول إسكاتها، وتتجنّب المحادثات الصعبة والتفكير في الأخطاء الشاق على النفس، مع الإعلان بزهو وافتخار عن تغييرات سطحية، ثم تثني المؤسسة على أدائها وتواصل المضي قدماً.
هذا كله ليس بجديد، ومثلما قال بيتر سينغي قبل 30 عاماً: "يمكن القول إن نظام المراجعة بعد العمل الذي ابتكره الجيش الأميركي هو أحد أنجح أساليب التعلم المؤسسي حتى الآن، لكن غالبية الجهود التي بَذَلتها الشركات لدمج هذا النظام المبتكر في ثقافاتها المؤسسية باءت بالفشل؛ لأن المسؤولين، ومثلما أسلفنا من قبل، يختزلون أدواته الفعالة إلى أن يصبح مجرد ممارسة عقيمة".
عملنا على مدار العامين الماضيين مع بعض فِرق العمليات الخاصة بالجيش الأميركي لدراسة التفاعلات الدماغية المسؤولة عن القدرة على التحمل وحلّ المشكلات بأساليب إبداعية ولتطوير تقنيات جديدة للتعامل مع الصدمات والتعافي من الآثار النفسية للعثرات. ويبلغ مجموع خبراتنا أكثر من 60 عاماً قضيناها في دراسة أنظمة المراجعة بعد العمل وتيسير تطبيقها في فرق من مختلف أنحاء العالم تعمل في مجالات حساسة لا مجال بها للفشل وإلا كانت العواقب كارثية؛ إذ تابعنا آلافاً من أنظمة المراجعة بعد العمل التي جرى تطبيق الكثير منها لتحليل أسباب وقوع حوادث خطيرة، وشهدنا خلالها نجاح أنظمة وإخفاق أخرى، وعايشنا عواقب النجاح والإخفاق.
ولمعالجة مشكلة تردِّي أداء أنظمة المراجعة بعد العمل، أطلقنا مشروعاً تعاونياً مع شركاء في الجيش الأميركي؛ إذ عملنا مع وحدات المهام الخاصة ذات السمعة المرموقة التابعة لقوات النخبة بالجيش، وتوصَّلنا إلى مجموعة بسيطة من التغييرات على النسخة الأصلية لنظام المراجعة بعد العمل. اختبرنا هذه التغييرات مئات المرات في مؤسسات أخرى بخلاف الجيش الأميركي، بدءاً من مكتب التحقيقات الفيدرالي وصولاً إلى شركة غاب (Gap)، ووجدنا أن التغييرات أدت إلى تحسين فعالية نظام المراجعة بعد العمل بدرجة كبيرة، ما أدى إلى رفع مستوى الأداء بمعدلات هائلة؛ إذ أجرينا تجربة موسَّعة بإحدى كبريات المؤسسات المسؤولة عن مواجهة الأزمات على مدى عامين أثبتت ارتفاع إنتاجيتها بأكثر من 150% عقب تطبيق نظام المراجعة بعد العمل.
وسنتناول هنا الدروس المستفادة من هذه الخبرات، أولاً من خلال استعراض تاريخ نظام المراجعة بعد العمل، ثم بكشف زيف 3 أوهام تحيط به، وأخيراً بتقديم 3 توصيات لتحسين أساليب تطبيقه.
النسخة الأصلية لنظام المراجعة بعد العمل
ابتكر الجيش الأميركي نظام المراجعة بعد العمل باعتباره بديلاً للنهج المعروف باسم "نقد الأداء"، الذي يتألف من محاضرة يلقيها القائد بعد الانتهاء من مشروع أو مهمة ما بغرض تحديد الأخطاء وإملاء التغييرات المطلوبة. كان هذا النهج يهدف إلى تعزيز الأداء، لكنه بدلاً من ذلك كان يسبّب في كثير من الأحيان حالة من الجفاء والغضب والانقسام.
ولمعالجة هذه المشكلات، صمم الجيش نظام المراجعة بعد العمل بميزتين محوريتين:
أولاً: كان الطابع العام للنظام تشاركياً، فبدلاً من أن يأخذ نظام المراجعة بعد العمل الطابع التوبيخي الصادر من القمة إلى القاعدة، بدا أشبه بمحادثة مفتوحة بين أعضاء الفريق بهدف استعراض مختلف الرؤى والتصورات والتعرُّف إلى أفكار الأطراف المعنية كافة وضمان شعور أعضاء الفريق كلهم بالشمول والقضاء على حالة السخط وتعزيز التضامن.
ثانياً: كان الطابع العام للنظام سردياً، فبدلاً من الانشغال بإعداد قائمة بالتوجيهات، اهتم بدراسة تسلسل الحدث. أتاح هذا النهج السَّردي القدرة على إجراء تحليلات أدق، وبدلاً من اختزال الإخفاقات والنجاحات في مبادئ عامة، ربط النهج النتائج المتحققة بظروف وسلوكيات محددة. ولأن العقل البشري يتعلم من الأمثلة السردية أكثر من المبادئ العامة، كان هذا النهج أكثر فعالية أيضاً في إحداث التغيير المؤسسي المنشود.
واقتضى تجسيد هاتين الميزتين الجديدتين صياغة نظام المراجعة بعد العمل من 4 أجزاء، يركز كلٌ منها على سؤال مختلف: 1) ما الذي توقعنا حدوثه؟ 2) ما الذي حدث فعلياً؟ 3) لماذا اختلف ما حدث عما توقعناه؟ 4) ما الذي يمكننا تغييره في المرة المقبلة؟
خصَّص النظام نحو 25% من الوقت للجزأين الأول والثاني، بينما خصَّص نسبة 75% المتبقية للجزأين الثالث والرابع. ولتشجيع المشاركة الكاملة، جرى استخدام طرف ثالث محايد بصفة ميسّر.
3 أوهام تحيط بأنظمة المراجعة بعد العمل
نظام المراجعة بعد العمل أفضل كثيراً من أساليب مراجعة الأداء السابقة، لكنه محاطٌ بثلاثة أوهام تعرقل تطبيقه بالأسلوب الصحيح:
الوهم الأول: أنظمة المراجعة بعد العمل غير إلزامية. لا تنفّذ المؤسسات كلها نسخاً رسمية لأنظمة المراجعة بعد العمل، بل ينفّذها كل عضو في كل مؤسسة بأسلوب غير رسمي، وذلك لأن عقل الإنسان يُفعِّل تلقائياً عملية معروفة باسم "التفكير المخالف للواقع" بعد كل مرة يدرك فيها تعرُّضه لأزمة أو فشل بطريقة أو أخرى؛ إذ يحدد الفجوة بين التوقعات المأمولة والواقع الفعلي، ومن ثم يسرح في خيالاته متسائلاً: ماذا لو تصرفتُ على نحو مختلف؟
يعني هذا من الناحية العملية أن كل فرد في فريقك سيتوصَّل إلى استنتاجاته الخاصة حول الأخطاء التي وقعت وما يمكن تحسينه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تريد أن يطبّق موظفوك أنظمة المراجعة بعد العمل على انفراد في غرف الاستراحة والمقاهي، ما يؤدي إلى خلق جدران عازلة بين الأفكار وتفكيك وحدة فريقك؟ أم تريد تطبيقها جماعياً كي يستفيد الجميع من عرض الصورة كاملة، ومن ثم يطوّر فريقك إحساسه بوحدة الغاية؟
الوهم الثاني: الغاية من أنظمة المراجعة بعد العمل هي إعداد قائمة بالدروس المستفادة. تبدو القوائم مثيرة للإعجاب وهي مُعلَّقة على الحوائط، لكن الهدف من أنظمة المراجعة بعد العمل هو إحداث تغييرات جوهرية في سلوك الفريق، وتتطلب هذه التغييرات تحويل المواقف الفكرية والتمتع بالإيجابية والتفكير في إجراءات محددة. تتولَّد هذه العناصر الثلاثة ذهنياً من خلال السردية؛ أي القصص المحددة التي يرويها المشاركون لأنفسهم حول ما حدث وأسبابه، وبالتالي فالغاية الحقيقية من نظام المراجعة بعد العمل هي إنشاء قصة جماعية يعتبرها كل فرد قصته، ما يؤدي إلى تطوير أدائه في المستقبل.
الوهم الثالث: لا بأس باختلاف سرديات المشاركين في نظام المراجعة بعد العمل. يستلزم نجاح نظام المراجعة بعد العمل توافق الجميع على السردية نفسها. ولا يصح حجب الآراء المعارضة أو إخفاء الاختلافات، كما لا يصح أن تفرض القيادة توافق الآراء قسراً، بل يجب إتاحة الفرصة أمام الجميع لعرض آرائهم كاملة بخصوص الحدث، ولا بد من خوض المحادثات الصعبة.
على الرغم من ذلك، فليس بالإمكان دائماً إظهار حقيقة ما جرى، لكن يجب على أي مؤسسة ألا تسمح لأعضائها بتكوين آراء منفصلة حول أسباب النجاحات والإخفاقات. ويجب أن تعترف المؤسسة صراحة بغموض الموقف وتعمل بفعالية على إزالة هذا الغموض خلال العمليات المستقبلية.
3 توصيات للتحسُّن
بعد كشف زيف هذه الأوهام، إليك 3 طرق لتحسين نظام المراجعة بعد العمل.
1. وجِّه تركيزك إلى المجتمع، لا إلى آلية العمل.
تركز أنظمة المراجعة بعد العمل بمفهومها التقليدي على آلية العمل بشدة، وذلك لسبب وجيه وهو أن آلية العمل تفتقر إلى الطابع الشخصي؛ إذ تسمح للمشاركين بتحديد الأخطاء دون توجيه أصابع الاتهام لأحد، ما يحد من فرص إلقاء اللوم واتخاذ المواقف الدفاعية التي تمنع التعلم المؤسسي.
بيد أن التغيير يتطلَّب التزام الأفراد أنفسهم، والتركيز على آلية العمل يقوّض هذا الالتزام، فآلية العمل عنصر نظري مستقل يرتبط بالمراكز المعرفية في الدماغ، لكنه يهمل مراكز العاطفة التي تؤدي دوراً محورياً في تحفيز المرء على اتخاذ إجراءات عملية.
ولمنع تحول أنظمة المراجعة بعد العمل إلى ممارسات شكلية، وجِّه تركيزك إلى أعضاء الفريق والعملاء وغيرهم من المعنيين. حدِّد دوافعهم التي تحفّزهم على التغيير، وتعرّف إلى القصص التي تتناول تأثير الحدث عليهم شخصياً، وأعط الأولوية لاكتشاف هذه القصص الشخصية ومشاركتها.
2. خصِّص 75% من وقتك للجزء الثاني.
يتصف هذا التغيير بالبساطة، لكن أثره هائل؛ إذ يتحرك المشاركون بعجالة في الجزء الثاني من النسخة التقليدية لنظام المراجعة بعد العمل ("ما الذي حدث فعلياً؟") من أجل التركيز على الجزأين الثالث والرابع ("ما هي الأخطاء التي وقعت؟" و"ما الذي يمكننا فعله على نحو أفضل؟"). أما في النسخة المحدَّثة من نظام المراجعة بعد العمل فنخصص الوقت المتاح كله تقريباً للجزء الثاني، ما يتيح القدرة على تحليل كل جزء في الحدث من وجهة نظر المشاركين كلهم. يضمن هذا التغيير الجذري في توزيع الوقت إظهار مختلف أشكال الحقائق المعرفية المرتبطة بالحدث، كما أنه يحول دون القفز إلى الاستنتاجات أو إسكات الأفكار والتصورات المتنوعة، ويعترف بقدرة التصور الجماعي لحدث معين على مساعدة الأفراد في التفكير في ذكرياتهم على نحو بنّاء.
قد يبدو أن هذا التغيير يقلل من قيمة الأجزاء الأخيرة لنظام المراجعة بعد العمل، لكنه يعززها في واقع الأمر؛ فهو يسمح بظهور الإجراءات العملية على نحو طبيعي نتيجة تحليل ما حدث فعلياً، ما يؤدي إلى إعداد قائمة قصيرة بالتحسينات الدقيقة والمحفزة التي تستند إلى مصادر تجريبية وتحظى بالقبول العاطفي لدى أفراد الفريق جميعهم.
3. اذكر الحقائق كلها.
تسعى أنظمة المراجعة بعد العمل بمفهومها التقليدي إلى تعزيز الشمول والصراحة من خلال تجنب اللوم بأي وسيلة. وعلى الرغم من توافر حسن النية بهذا المسعى، فإنه يؤدي في كثير من الأحيان إلى ظهور دينامية هدّامة؛ إذ يتهرب بعض الأفراد من تحمّل مسؤولية سلوكياتهم في حين يضحي آخرون ويتحملون مسؤولية نتائج لم تكن لهم يد فيها من قريب أو بعيد.
وبعد تطبيق المئات من أنظمة المراجعة بعد العمل، وجدنا أن هذه الدينامية أكبر مصادر الفشل، لكن علاجها بسيط؛ فعندما يدّعي أحدهم مسؤوليته عن نتيجة معينة أو يلقي اللوم على سوء الحظ أو أي عامل خارجي آخر باعتباره السبب الوحيد لوقوع حدث ما، اطلب من كل شخص كان على دراية بالموضوع أن يعرض سرديته الخاصة لتفسير ما حدث. باختصار: أعِد بناء قصة الحدث كلها، على مهل وبصورة كاملة، من ذاكرة الجميع. سيؤدي هذا إلى استكشاف الأسباب الجذرية لكلٍّ من النتائج الجيدة والسيئة.
تعمل التغييرات التي أجريناها وأشرنا إليها فيما سبق على تحسين أنظمة المراجعة بعد العمل من خلال توسيع نطاق التحول نحو المشاركة السردية. وشهدنا تطبيقها في سبيل المساعدة على تعافي فِرق مسؤولة عن مهام حرجة عانت إخفاقات كارثية وصلت إلى حد الوفيات، وتعزيز مؤسسات كبرى تعرّضت لأزمات خطيرة وحققت نجاحات غير متوقعة. وقد آتت هذه التغييرات ثمارها، وستؤتي ثمارها معك بكل تأكيد. سيسرد المشاركون قصصهم حول ما جرى في أعقاب أي مشروع أو حدث، لذلك فالسؤال الحقيقي الذي يجب طرحه خلال تطبيق نظام المراجعة بعد العمل في المرات المقبلة هو: هل ستعزز هذه القصص مؤسستك أم ستضعفها؟