ملخص: ثمة العديد من الأساليب المعروفة لإقناع الآخرين، ومن أبرزها الأساليب التي طرحها المؤلف المشارك، روبرت تشالديني. لكن عندما يتعين على القادة تحفيز تغيير سلوكي طويل الأمد، يجب تطبيق هذه الأساليب بطريقة مختلفة. يقترح تشالديني والمؤلف المشارك في هذه المقالة، وهو باحث في أساليب التأثير، 3 طرق لإقناع الآخرين بطريقة مستدامة في الأنظمة المعقدة مبنية على أعمال تشالديني السابقة: تقديم حلول وسط استباقية، وتعزيز الوحدة، وتعيين أمينٍ للنظام. والأهم من ذلك، توضح هذه الأساليب الثلاثة كلها أهمية تأكيد قدرة الأطراف المستهدفة على التصرف والمشاركة.
غالباً ما يحقق القادة المسؤولون عن تخطيط برامج التغيير وتنفيذها نتائج متباينة. بصفتنا باحثين في مجال التأثير والإقناع، اكتشفنا من خلال تجربتنا المباشرة أن الخطط التي تحقق نتائج فورية لا تؤدي بالضرورة إلى تغييرات مستمرة ومستدامة في هذه المواقف. مع ذلك، لدينا الحلول اللازمة لذلك.
إليك مثالاً على ذلك: أجرينا منذ عدة سنوات دراسة معروفة طبقنا فيها مبدأين من مبادئ تشالديني العالمية للتأثير لمساعدة هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة على مواجهة تحدي عدم التزام المرضى بالمواعيد الطبية التي يحددونها بأنفسهم. تؤثر هذه المشكلة سلباً على النظام الصحي والمرضى على حد سواء، إذ تزيد أوقات الانتظار وتفاقم الحالات الصحية، فضلاً عن تكبد النظام تكاليف إضافية كبيرة. اكتشفنا أن تنفيذ إجراءات تدخلية بسيطة، مثل مطالبة المرضى بتدوين موعد المراجعة بأنفسهم، وتغيير اللافتات التي تنتقد عدم حضور المرضى إلى لافتات تسلط الضوء على العدد الأكبر بكثير من الأشخاص الذين يحضرون في الوقت المحدد، أدت إلى تراجع عدم الالتزام بالحضور بنسبة 30%. وقد نشرت هذه النتائج مجلة رويال سوسايتي أوف ميديسن (Royal Society of Medicine) وكذلك هارفارد بزنس ريفيو.
بدت دراساتنا ناجحة جداً. لكن عندما تابعنا عيادات الأطباء بعد 6 أشهر، اكتشفنا أن الأمور قد عادت إلى سابق عهدها. كنا نظن أن إثبات فعالية هذه التغييرات سيحفز فرق الرعاية الصحية على تطبيقها دائماً، لكن ذلك لم يحدث للأسف.
على مدى السنوات الأربع الماضية، تعاون فريقنا المؤلف من علماء السلوك، بقيادة إلويز كوبلاند وأوليفيا باتيسون وكلارا فيديراث، مع مجتمعات المزارعين في فيتنام لتنفيذ برامج مختلفة تتعلق بالبيئة والتغير المناخي. تدعم زراعة الأرز حياة الكثيرين وسبل عيشهم في هذه المنطقة، لكنها تنتج أيضاً مستويات عالية من غازات الدفيئة، بما في ذلك غاز الميثان الذي يفاقم المشاكل المناخية. في الواقع، يأتي نصف انبعاثات الزراعة المحلية من مزارع الأرز، لذلك، وضعت الحكومة الفيتنامية في عام 2019 أهدافاً للمزارعين لتبنّي أساليب أكثر استدامة، مثل تقليل الاعتماد على بعض الأسمدة والحد من حرق المحاصيل للتقليل من انبعاثات غازات الدفيئة، وهي تغييرات يجب الاستمرار بها لسنوات حتى يكون لها تأثير بيئي ملموس.
بعد فترة من الدراسات الرصدية والاستقصاءات وجلسات مجموعات التركيز مع أصحاب المصلحة، وبدعم مالي من مؤسسة إيرث كير فاونديشن (Earthcare Foundation) الخيرية، نفذ فريقنا 3 تدخلات حققت آثاراً إيجابية استمرت 4 سنوات. استناداً إلى تجربتنا في هذا البحث، إلى جانب ملاحظاتنا الشاملة لآليات التأثير، نعتقد أن هذه الأساليب الثلاثة يمكن، ويجب أيضاً، أن يستخدمها أي شخص يهدف إلى إقناع الآخرين بطريقة مستدامة في الأنظمة المعقدة للأسباب الآتية:
لأنها تقدم حلولاً وسطاً استباقية
ثمة العديد من أساليب الزراعة التي أثبتت جدواها واستدامتها، لكن تبنيها منخفض غالباً بسبب تعقيد التنفيذ وتكلفته المرتفعة. على سبيل المثال، إقناع المزارعين بالتوقف عن استخدام بعض الأسمدة الكيميائية والتحول الكامل إلى طرق الزراعة الجافة هو مثالي، لكنه قد يؤدي إلى تفويت موعد الزراعة. بالنسبة للمزارعين الريفيين أصحاب الحيازات الصغيرة سيكون لذلك أثر حاسم في قدرتهم على تحقيق الربحية بدرجة كبيرة.
لذلك حدد فريقنا البحثي الحلول الوسط ورتّب أولوياتها؛ أي الإجراءات التي يمكن أن يتخذها المزارعون ليس على أساس ما سيحقق أقصى تأثير بيئي، ولكن على ما يمكنهم دمجه فعلاً في ممارساتهم اليومية. على سبيل المثال، أوصينا بالتناوب بين زراعة المحاصيل الرطبة والجافة بدلاً من التحول الكامل إلى الزراعة الجافة، وتقليل استخدام الأسمدة الكيميائية بدلاً من إلغاء استخدامها كلياً.
الاستعداد لتقديم الحلول الوسط مقدماً هو شكل غير مستثمر بالكامل من مبدأ المعاملة بالمثل لتشالديني، فالحلول الوسط مفيدة لأنه إذا جرى تقديمها بصورة استباقية يمكن أن تولد شعوراً قوياً بالالتزام (حتى إن لم يعترف به المتلقي صراحة)، ما يعزز المشاركة والاستعداد لتقبّل مبدأ المعاملة بالمثل. كما أن هذه الحلول عملية لأنها تقدم نهجاً تدريجياً لتبني التغيير الصعب.
لقد لاحظنا نجاح هذا النهج في سياقات أخرى. على سبيل المثال، في أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة، عندما انتقلت شركة نتفليكس من خدمة تأجير أقراص الفيديو الرقمية عن طريق البريد إلى خدمات البث المباشر عبر الإنترنت، قدمت مقدماً حلاً وسطاً للمشتركين من خلال السماح لهم بالاحتفاظ باشتراكات استئجار الأفلام دون تكلفة إضافية على خدمة البث. أخّر هذا الحل الوسط انتقال الشركة إلى خدمات البث المباشر عبر الإنترنت بالكامل، لكنه ضمن عدم شعور العملاء الحاليين بأنهم مجبرون على الاختيار بين الخدمتين القديمة والجديدة. شهدت قاعدة عملاء نتفليكس نمواً مذهلاً في العقد التالي وما تلاه.
وجدنا نهجاً مماثلاً كان ناجحاً أيضاً مع مجتمعات المزارعين. من خلال تقديم حلول وسط استباقية للمزارعين بدلاً من مساومتهم والضغط عليهم، نجحنا في تغيير سلوكياتهم، بحيث انخفضت مستويات انبعاثات غازات الدفيئة وتلوث الهواء الناجم عن الإفراط في استخدام الأسمدة إلى حد كبير على مدار السنوات الأربع الماضية. كما أن غالبية المزارع في مجموعات الاختبار تستخدم الآن كميات أقل من المياه لري المحاصيل.
الدرس الواضح للقادة هو أن تقديم تنازلات مقدماً ودون شروط للأشخاص بدلاً من إجبارهم على قبولها بصفتها جزءاً من المفاوضات، يساعد على إشراكهم ويعزز احتمالية تحقيق تغييرات مستدامة.
تعزيز الوحدة
تعزز قوة الهويات المشتركة بين الأفراد، المعروفة بمبدأ الوحدة، رغبتهم في المشاركة والاتفاق مع الآخرين، وذلك ليس لأنهم مثلهم بل لأنهم بدؤوا يشعرون بالانتماء إليهم. نتيجة لذلك، تزداد احتمالية أن تستمر البرامج على المدى الطويل عندما يحدد القادة الهويات المشتركة بين أفراد الفريق ويبرزونها ويضعون البرامج مع أعضاء الفريق، بدلاً من مجرد فرضها عليهم.
على سبيل المثال، من خلال فعاليات هارلي أونرز غروب (Harley Owners Group - HOG) والتجمعات التي كانت تنظمها ومنتدياتها عبر الإنترنت، بنت شركة الدراجات النارية الشهيرة، هارلي ديفيدسون (Harley-Davidson)، شعوراً بالوحدة بين أعضائها لأكثر من 40 عاماً. هذه الهوية المشتركة مربحة، حيث ينفق أعضاء المجموعة في المتوسط 30% أكثر على السلع والخدمات مقارنة بمالكي دراجات هارلي غير الأعضاء. وقد نجحت الشركة في استثمار الشعور القوي بالوحدة لدى المجموعة لجذب جيل جديد من الأعضاء الشباب.
لتعزيز الشعور بالوحدة في مبادرتنا للتغيير في فيتنام، سعينا إلى التعاون مع المجتمعات بدلاً من فرض التغييرات عليها، وقد انعكس ذلك بعمق في هيكل البرنامج؛ حيث تضمنت فرق العمل لدينا قادة المجتمع والمعلمين والمسؤولين الحكوميين وحتى تلاميذ المدارس.
فعلى سبيل المثال، كان المزارعون أنفسهم في النهاية القادة الفعليين للعديد من مبادراتنا. فبدلاً من التدريب النظري التقليدي، أنشؤوا حقولاً تجريبية في المجتمعات لعرض مقارنات مباشرة بين المحاصيل المزروعة بالطرق القديمة والمزروعة بالطرق المستدامة الحديثة. كما أنشأنا معاً برامج للتدريب المتبادل بين المزارعين تضمنت ورش عمل حول مهارات التواصل مصممة لتتناسب مع العادات والتفضيلات الثقافية المحلية فيما يتعلق بكيفية تجنيد المزارعين الآخرين وتدريبهم بفعالية. وقد قالت مديرة الشؤون الخارجية والتعاون في اتحاد المزارعين الفيتناميين، نوين ثي فييت ها: "إن بناء شبكة موحدة من المزارعين من خلال إشراكهم وتعزيز التواصل بينهم مكّنهم من التآزر والتغلب على الصعوبات والتحديات من خلال الدعم المتبادل والمساندة المجتمعية".
من خلال تعزيز الشعور بالوحدة، عن طريق تطوير الهوية المشتركة أو المشاركة في إنشاء أنشطة أساسية، يمكن للقادة مواءمة أهداف المسهمين مع أهدافهم وإلهام المزيد من التغيير الدائم.
تعيين مشرف النظام
يستحق النجاح المبكر الاحتفاء به، لكن ذلك قد يدفع القادة الذين يعملون لتحقيق تغيير مستدام إلى الاعتقاد أن الجميع موافقون على المشروع ويدعمونه، وأن العمل قد انتهى، هذا ما حدث في دراساتنا في هيئة الخدمات الصحية الوطنية حول عدم حضور المرضى إلى المواعيد المقررة. لمنع هذه الحالة التي تؤدي إلى نتيجة عكسية، يجب على مَن يقودون برامج التغيير الطويل الأمد تعيين مشرف النظام؛ وهو شخص مسؤول عن متابعة التغيير مع المجتمع المتأثر بمجرد انتهاء البرنامج. من المهم ألا يكون هذا الشخص هو من ينفذ التغيير على أرض الواقع، بل شخصاً منفصلاً عنك وعن فريقك تثق به ويعرفه المسؤولون عن تنفيذ التغيير ويحترمونه. يتولى مشرف النظام قيادة الجهود المستمرة وتدريب الأفراد ودعمهم للتكيف مع التغيير المستمر في العقلية الضروري لإدامة التغيير.
على سبيل المثال، من أسباب نجاح شركة إنترفيس إنك (.Interface Inc)؛ وهي إحدى أكبر الشركات المصنعة للأرضيات التجارية والسكنية في العالم، كما أنها تشتهر بجهودها في مجال الاستدامة، هو أن مؤسسها الراحل، راي أندرسون، عيّن خبيرة الاستدامة إيرين ميزن في دور مشرفة النظام لقيادة أهداف الاستدامة الخاصة بمبادرة ميشن زيرو (Mission Zero). حظيت ميزن بثقة أندرسون، وبفضل خبرتها التي امتدت 12 عاماً في الشركة، كان الموظفون يعرفونها جيداً ويثقون بها. لقد أتاحت لها شبكاتها والعلاقات التي أنشأتها إمكانية الوصول إلى جميع أنحاء المؤسسة، فحظيت آراؤها وتوجيهاتها بتقدير الجميع، وعلى الرغم من أنها لم تكن تملي بالضرورة على فرق المنتجات ما يجب فعله، كانت تطرح أسئلة محفزة مثل: "كيف تتعامل الطبيعة مع التحدي الذي نسعى لحله؟" ما سمح للشركة بتطوير بلاط أرضي جديد خالٍ تماماً من الغراء والمواد اللاصقة. بفضل توجيهات ميزن، حققت الشركة الحياد الكربوني الكامل في خطوط المنتجات كلها في مختلف أقسام المؤسسة.
امتدت برامجنا في جنوب شرق آسيا لتشمل العديد من الأعمال ومجتمعات المزارعين المختلفة، حيث أدى اتحاد المزارعين الفيتناميين (VNFU) دور مشرف النظام في دراساتنا، وكان اختياره لهذه المهمة مبنياً على دوره المهم بصفته وسيطاً موثوقاً به ولعلاقاته القوية بمجتمعات المزارعين كلها. لقد فهم الاتحاد الحاجة إلى التغيير وتمكّن من تحقيق التوازن بين تحدي المزارعين ودعمهم مع الحفاظ على مصالحهم.
كانت نتائج هذه الأساليب في مجتمع المزارعين الفيتناميين مثيرة للإعجاب بعد مرور 4 سنوات. قلل المزارعون في مجتمعاتنا التجريبية الآن استخدام الأسمدة بمقدار 12.5 كيلوغراماً لكل 500 متر مربع من الأرز المحصود، ومثّل ذلك تراجعاً بنسبة 31.5% في استخدام الأسمدة عموماً. وأيضاً، تراجع عدد المزارع التي كانت تحرق القش بعد الحصاد عادة من 57% إلى 17%، وهي ممارسة تدمر البيئة على الرغم من أنها طريقة سريعة للتخلص من القش. كما تبنت نسبة 90% من الحيازات الزراعية أسلوباً واحداً على الأقل من أساليب زراعة الأرز المستدامة واستمرت في استخدامها، ما أثّر إيجابياً في 1.7 مليون أسرة تعمل في الزراعة. لا يمكننا ضمان استمرار هذه التغييرات إلى الأبد، لكننا نعتبر استمرارها 4 سنوات مؤشراً إيجابياً، فهي فترة أطول بكثير من فترة استمرار نتائج تجربتنا في هيئة الخدمات الصحية الوطنية.
في مواجهة مجموعة من القضايا المعقدة، يجب على القادة اليوم تبنّي أساليب إقناع تتيح للأطراف المستهدفة المشاركة والشعور بأنها قادرة على التصرف والتأثير. يتطلب ذلك من القادة تقديم حلول وسط مقدماً، والبحث عن طرق لتعزيز جوّ من الوحدة، واختيار مشرف النظام المناسب.