في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، انضم الأمير وليام دوق كامبريدج إلى مناقشة حول العمل في بيئات تتسم بالضغوط العالية خلال مؤتمر "هذا يمكن أن يحدث" (This Can Happen)، وهو أكبر مؤتمر سنوي في المملكة المتحدة عن الصحة النفسية. واعتماداً على خبرته في العمل كطيار إسعاف جوي، أشار الأمير وليام إلى أنه "عمل مرات عدة في مهمات مؤلمة للغاية شملت ضحايا من الأطفال"، وأن إحدى هذه المهمات على وجه الخصوص سببت له حالة من عدم الاستقرار العاطفي. كان مفتاح تعامله مع هذه الحادثة هو: مناقشة تفاصيلها مع زملائه. أشار الأمير وليام إلى الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه القادة في دعم الصحة النفسية من خلال مشاركة قصصهم الخاصة، ومنح الموظفين العاملين بمؤسساتهم إحساساً بالأمان للتحدث بانفتاح عن مشكلات الصحة النفسية التي يعانون منها.
ونحن في شركة "أكسنتشر" (Accenture) نتفق مع ذلك. إذ نعتقد -وتثبت أبحاثنا التي أُجريت نيابة عن هذا المؤتمر- أن عدد الأشخاص المتأثرين بمثل هذه المشكلات أكبر بكثير من عدد المشتبه بمعاناتهم أو عدد الحالات المسجلة مسبقاً. على سبيل المثال، قال ثلثا عمال المملكة المتحدة الذين أجرينا دراسة استقصائية عليهم إنهم عانوا أو يعانون حالياً مشكلات متعلقة بالصحة النفسية، أو راودتهم أفكار ودوافع للانتحار. وقالت الغالبية العظمى -9 من كل 10 أشخاص- إنهم تأثروا بمشكلات متعلقة بالصحة النفسية بطريقة ما -متأثرين إما بصحتهم شخصياً وإما بمشكلات واجهها أحد أفراد العائلة أو صديق أو زميل.
ينتبه الناس بشكل متزايد لحجم هذه المشكلة وأهميتها في عالم العمل. من المهم بصفة خاصة أن يشعر الناس أن بإمكانهم إظهار المشكلة للعلن دون خوف. لكننا نرى أن التغيير بطيء، إذ قال ربع العمال فقط إنهم شهدوا نوعاً من التغيير الإيجابي في جهود المسؤولين عن أماكن عملهم خلال العامين الماضيين لإظهار أهمية الصحة النفسية للجميع.
هذا لا يهم الأشخاص الذين يعانون من هذه المشكلات فحسب، بل يهم المؤسسة أيضاً. عندما يبني أصحاب العمل ثقافة تدعم الصحة النفسية، يكون العمال أكثر ميلاً بنسبة أكبر من الضعف للقول إنهم يحبون وظائفهم، وأكثر ميلاً للبقاء مع أصحاب أعمالهم على الأقل في العام المقبل.
ما الذي يمكن أن تفعله الشركات في الواقع لمواجهة هذه المشكلة؟ تشير الأبحاث إلى ثلاث نقاط رئيسية:
الإشارة إلى أهمية المشكلة: هناك الكثير من القلق تجاه إظهار المعاناة من المشاكل النفسية للعلن في العمل. يخشى الكثيرون من أن فعل ذلك قد يقلص فرصهم ويعترض طريقهم للترقية، ويُنظر إليه عموماً على أنه علامة ضعف.
يمكن أن يحقق كبار القادة تقدماً كبيراً في تغيير هذا المفهوم من خلال بدء المحادثة، أي التحدث عن تجاربهم الخاصة ورغبة الشركة في المساعدة بنشاط. وفي دراسة أكملناها في وقت سابق من عام 2018، قال 14% من المشاركين فقط إنهم سمعوا أحد كبار قادتهم يتحدث عن أهمية الصحة النفسية. وقال واحد فقط من كل 10 مشاركين إنه سمع أحد كبار قادته يتحدث عن تأثره شخصياً بمشكلات الصحة النفسية.
يمكن أن يضمن كبار القادة أيضاً أن الموظفين في جميع مستويات المؤسسة على دراية بالخدمات والدعم الذي تقدمه الشركة.
زيادة الوعي من خلال التدريب: قد يكون من الصعب للغاية -بالنسبة لكل من المتحدث والمستمع- بدء محادثة عن مشكلة متعلقة بالصحة النفسية، ومن ثم معرفة ما يجب فعله بعد ذلك. يُعد التدريب بجميع أشكاله أمراً ضرورياً، ويجب أن تشمل أدوات هذا التدريب فصولاً تدريبية عبر الإنترنت لمساعدة الموظفين على تمييز علامات الإجهاد أو اعتلال الصحة النفسية في أنفسهم وفي الآخرين، بالإضافة إلى ندوات عبر الإنترنت يقودها كبار القادة.
يشمل برنامجنا الخاص "أصدقاء الصحة النفسية" (Mental Health Allies) كلاً من التدريب في الفصول الدراسية والتدريب عبر الإنترنت. في المملكة وحدها، درّبنا أكثر من 1,700 موظف -نحو 15% من القوى العاملة في شركة "أكسنتشر" في المملكة المتحدة- ليكونوا "أصدقاء": أي زملاء عمل يمكن للآخرين اللجوء إليهم مع علمهم بأنّ مناقشتهم ستظل سرية تماماً. يخضع كل "صديق" أولاً لدورة تدريبية قصيرة على الإنترنت، ثم يشارك في جلسة تدريبية داخل قاعة دراسية لمدة نصف يوم لزيادة الفهم للمشكلات المتعلقة بالصحة النفسية، مع بناء الثقة والمهارات اللازمة للتعامل مع المشكلات الشائعة من خلال لعب الأدوار والتدريب بالسيناريو. يستكشف هذا التدريب أيضاً الحدود بين مسؤوليات المدراء المباشرين -الذين يجب عليهم التدخل بشكل استباقي- والتزامهم بواجب رعاية موظفيهم، ودور صديق الصحة النفسية.
حتى الخطوات الصغيرة نحو بناء ثقافة أكثر تقبلاً لمشاكل الصحة النفسية يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي كبير. إذ وجدنا أنّ معظم الأشخاص الذين تمكنوا من التحدث إلى شخص ما في العمل عن المشاكل التي واجهوها قوبلوا برد فعل إيجابي (تعاطف أو دعم أو لطف) من أول شخص أخبروه. وسجل هؤلاء الأشخاص انخفاضاً في مستويات الإجهاد ومشاعر العزلة، وزيادة في الثقة.
تنظيم الأدوات عبر الإنترنت وتحسينها: معظم الأشخاص مستعدون للجوء إلى الأدوات والتطبيقات عبر الإنترنت للحصول على المعلومات والنصائح حول الصحة النفسية. هذا منطقي؛ فهذه المعلومات متاحة دائماً ويمكن استخدامها خفية. في شركة "أكسنتشر" بالمملكة المتحدة، يمكن لجميع الموظفين الدخول إلى برنامج "بيغ وايت وول" (Big White Wall)، وهو برنامج محادثة سري يُدار باحترافية، ويمكن لهم من خلاله أن يظلوا مجهولي الهوية.
حتى الشركات التي لديها موارد شحيحة لتكريسها لهذه الأنواع من المزايا يمكنها أن توفر للموظفين قائمة منظمة من أكثر المصادر المتاحة للعامة موثوقية مع إتاحة إمكانية الوصول لهذه المصادر. إنه أمر عادي بالنسبة للفرد الذي يريد الدعم، أما بالنسبة للشركة فهو غير ذلك؛ لأنها تتحمل مسؤولية تنظيم هذه المصادر للموظفين (أو التوصية بها ضمنياً). هناك حاجة إلى اختبار مستقل أكثر صرامة للموارد الرقمية المتاحة، وهذا من شأنه أن يساعد الشركات والأفراد على نحو أفضل لاختيار ما يناسب احتياجاتهم.
يُعد موقع "الصحة النفسية في العمل" (Mental Health at Work) الذي أُطلق مؤخراً مصدراً جديداً مثيراً للاهتمام وذا قيمة كبيرة، لاسيما للمؤسسات الصغيرة التي قد لا تتمكن من توفير دعماً داخلياً كاملاً، حيث يمكن لأصحاب العمل العثور على النصائح حول كل شيء في مكان واحد، بداية من كيفية تدريب المدراء المباشرين على الوعي بالصحة النفسية وانتهاء بكيفية تنظيم برنامج كامل للدعم النفسي.
أحد المخاطر التي يجب وضعها في الحسبان هو احتمال أن يزيد أحد الموظفين الاعتماد على موارد الدعم التكنولوجية على الرغم من توافر علاج مباشر وأكثر احترافية. يحتاج قادة الأعمال إلى التأكد من أنهم يمضون قدماً من خلال التدريب الشخصي والمبادرات الأخرى التي تدعم الصحة النفسية. ويجب أن يدرك الموظفون ما هي الاحتياجات التي يمكن تلبيتها عبر الإنترنت ومتى يكون من المهم الحصول على المساعدة من طبيب محترف.
يتعامل معظم الموظفين الذين أجرينا دراستنا الاستقصائية عليهم مع المشاكل المتعلقة بصحتهم النفسية بفعالية ويعتبرونها بقدر أهمية صحتهم الجسدية. يشير هذا السلوك الإيجابي تجاه الاهتمام بالصحة النفسية إلى أنه من المرجح أن يرحب الموظفون -لاسيما الشباب- بالتدريب والمبادرات في العمل التي تساعدهم على النجاح وإدراك متى يحتاجون إلى المساعدة.
ما زال هناك الكثير لفعله، وكما قال الأمير وليام: "ما زالت هناك وصمة عار حول الصحة النفسية. نحن نحاول التخلص منها، لكن يجب تحطيم هذا الجدار".
وبصفتي قائدة برنامج شركتنا للصحة النفسية في المملكة المتحدة، أحب أن أتولى إدارة الدورات التدريبية لأصدقائنا الجدد. وبينما نستكشف الموضوع، يتلو الحاضرون قصصهم واحداً تلو الآخر: مدير يعاني الاكتئاب منذ سن المراهقة ومتدرب انتحر أحد زملائه في الفصل بالمدرسة ومتخرج جديد يعيش مع صديق يعاني القلق الحاد. ووصف أحد المنضمين الجدد، الذي كان يعتني بصديقه الذي يعاني مرض فقدان الشهية العصبي، القدرة على التعامل بانفتاح مع مشاكل الصحة النفسية على أنها "راحة تامة" و"أمر يقلب الحياة للأفضل".
عندما أنظر حولي، أرى كيف تؤثر مشاكل الصحة النفسية علينا جميعاً بطريقة ما وفي وقت ما من حياتنا. وبصفتنا أصحاب عمل، تكون لدينا القدرة على المساعدة: لتسهيل الأمر على الأشخاص للتحدث، ولمساعدتهم في الحصول على الدعم الذي يحتاجون إليه بالطريقة المناسبة لهم، ولمساعدتهم في أن يتمتعوا بأفضل حالاتهم في المنزل وفي العمل.