حتى حدوث أزمة فيروس كورونا لم تكن المؤسسات الحكومية أو الخاصة في مختلف دول العالم قد فهمت أهمية خوض الأزمات أو افترضت هذا السيناريو من الانقلاب المفاجئ في أساليب العمل، وكان أقصى ما تخيله العقل البشري هو حدوث أزمة اقتصادية مشابهة لما عشناه في عام 2008. لكن لماذا لم يتخيل العالم أزمات من نوع آخر، وكان جلّ ما تدرب عليه العاملون في بعض الدول ذات الأنظمة اليقظة، هو تدريبات الإخلاء للموظفين في حالات حدوث الحرائق المفترضة، حيث كان الموظفون والسكان يخلون مكاتبهم ومساكنهم خلال هذه التجارب، وهم يتبادلون النوادر والضحكات. لكن هل تدرب العالم بشركاته وسكانه عملياً على افتراض ضرب الزلازل والفيضانات العنيفة لمناطق ربما لم تعتد على ذلك، ومنها منطقتنا العربية رغم أنها قريبة من الفوالق الزلزالية؟ هل تدرب العالم، ومنه منطقتنا، على سيناريو الوباء المتفشي، واستعدوا وجربوا سيناريوهات إدارة الدول والشركات والمؤسسات العامة عبر الإنترنت؟ هل استعد العالم لسيناريو حقيقي يمكن أن يتم فيه قطع الإنترنت عن العالم، ونحن جميعاً نقر بمخاطر الأمن السيبراني؟
فيروس كورونا كشف أهمية خوض الأزمات
من العيوب التي يكتشفها العالم اليوم في أنظمته الإدارية وأنظمة التعليم والعمل، أنه لم يكن مستعداً لأبسط السيناريوهات وهي العمل عن بعد أو التعليم عن بعد، فاكتشفنا مثلاً أن موظفي الحكومة ليس لديهم كمبيوترات محمولة للعمل من المنزل، وأن المؤسسات الحكومية غير قادرة على إنهاء معاملات متكاملة عبر الإنترنت، وأن أساتذة الجامعات والمدارس والطلاب لم يتدربوا على تقنيات التعليم عبر الإنترنت! تخيلوا ذلك.. رغم أن التدريب على العمل عن بعد أو التعليم عن بعد أو تقديم الخدمات الطبية عن بعد ليس أمراً طارئاً حتى، بل بات ضرورة منذ خمس سنوات على الأقل، وقد اتجهت إليه شركات عالمية وعربية كثيرة بنسب مختلفة. وقد كشفت دراسة نشرنا عنها في هارفارد بزنس ريفيو عام 2018، أُجريت خلالها مقابلات مع 18 ألف موظف من 96 شركة عالمية أنّ 70% من الموظفين يعملون عن بعد مرة في الأسبوع، وأنّ 53% منهم يمضون نصف الأسبوع خارج المكتب. هذه تدريبات ربما لم نسمع عنها في منطقتنا ولذا فإننا نشعر اليوم بالصدمة جراء هذه التغييرات التي تبدو مفاجئة رغم أنها طبيعية، بل ضرورية.
اقرأ أيضاً: عليك تجنب إخفاء الأخبار السيئة في الأزمات
وهكذا، فعندما نرى تقصيرنا في التدريب على التحولات الضرورية في الحياة، فلن نستغرب التقصير في التدريب على الطوارئ. وبحسب الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال ستيفان ثومك، فإن العائق الرئيسي أمام التجارب في المؤسسات ليس نقص التكنولوجيا، بل هو نقص "الثقافة" ويقصد ثقافة الإدارة وفريق العمل للقيام بالتجارب والتدريب على الطوارئ والمستجدات.
الخروج من منطقة الراحة
للأسف، تسيطر علينا في المنطقة العربية ثقافة الغرق في منطقة الراحة، فلا نتخيل أننا سنتعرض لأزمة أو سنضطر لتغيير أساليب عملنا التقليدية. ففي الوقت الذي نجد فيه شركات ومؤسسات عالمية تقدم التجارب باستمرار والتي تحاكي مختلف الظروف، ومنها شركة بوكينغ دوت كوم التي تحتفظ بمستودع للتجارب والاختبارات على طرق جديدة للعمل يمكن العودة إليه في كل وقت للتعلم، تتفاجأ أن المؤسسات في منطقتنا العربية وربما في كثير من دول العالم التي لم تفكر خارج منطقة الراحة وخارج الصندوق المألوف، ليس لديها سوى سيناريو واحد للعمل، وهناك سيناريو واحد لإنجاز معاملات المراجعين لا تقبل غيره. وهذا ما يفسر عدم قدرتها على تقديم الخدمات كاملة عبر الإنترنت، وعدم قدرتها على إيجاد حل عندما ينقص المراجع بعض المستندات، كما أنها لم تستطع إيجاد صيغة للاعتراف بالتعليم عبر الإنترنت. ببساطة لأنها لا تعرف سوى سيناريو واحد للعمل والتعليم، فلم يخطر على بالها تأمين كمبيوترات محمولة وتجربة العمل عن بعد وفوائده على المؤسسات والعاملين، ولم يخطر في بالها ضرورة التعليم عن بعد وفوائده على مؤسسات التعليم وعلى المعلمين والطلاب.
وقعت كثير من المؤسسات الرسمية والخاصة في عقلية السيناريو الواحد، ولم تضع في حسبناها الخطة (ب) بأي شكل. فهل يعقل أن ثمة شركات في منطقتنا تنص قوانينها الداخلية أن مجلس الإدارة لا يصح أن يجتمع إلاّ بحضور أعضائه شخصياً؟. هل يعقل أن تجد مثل هذا النص في قوانين شركة تعيش في القرن الواحد والعشرين مع وجود كل تقنيات الاجتماعات والمؤتمرات عبر الإنترنت؟
اقرأ أيضاً: لماذا لن تؤثر أزمة هاتف نوت 7 في سامسونغ على قوة علامتها التجارية على المدى الطويل؟
طريقة التفكير بالسيناريو الاحتياطي وتغيير الروتين والاستعداد للخروج مما اعتدنا عليه، هو منهج فكري يوصي به العلماء مثل دانييل كانمان الحائز على جائزة نوبل، حيث يدعو في كتابه (التفكير السريع والبطيء)، أن نعتاد على كسر العادات اليومية لتشغيل الجزء المبدع من أدمغتنا، فهو يبين أن تكرار عاداتنا اليومية دون تغيير، يشغّل ما يسمى "التفكير السريع" وهو التفكير الذي نتحول فيه كالطيار الآلي في تنفيذ أعمالنا وتفكيرنا، بينما يحتاج "التفكير البطيء" الذي ينبع منه الإبداع إلى تغيير عاداتنا وكسر الروتين باستمرار، والتعود على الفضول وتجريب غير المألوف لفهم أهمية خوض الأزمات بدءاً من تغيير خط سيرنا إلى العمل، إلى تنويع أساليبنا في العمل، وصولاً إلى تحريك حدقتي عينيك باتجاهات لم تعتد النظر إليها.
اقرأ أيضاً: