خلال بضعة أيام فقط من إطلاق منصة "نتفليكس" للموسم الثالث من مسلسل "أشياء غريبة" (Stranger Things)، كان نصف مشاهدي المسلسل تقريباً، وعددهم 40 مليون، قد شاهدوا الحلقات الثمان بأكملها. ولحسن حظ هؤلاء المشاهدين، هناك طرق أخرى تمنحهم تجربة العيش في المدينة التي ترتكز عليها أحداث المسلسل، وهي مدينة هوكنز في ولاية إنديانا الأميركية، بل وتعود بهم إلى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين. فلقد كلفت "نتفليكس" محلات الآيس الكريم المؤقتة والموزعة عبر مدينة لوس أنجلوس، وبالتعاون مع محلات باسكن روبنز (Baskin Robbins)، بمحاكاة متجر "سكوبز أهوي" (Scoops Ahoy) المعروض في المسلسل. كما يستطيع جمهور المسلسل زيارة مركز تسوق "ستاركورت مول" (Starcourt Mal) في مبنى تاور ريكوردز (Tower Records) القديم في لوس أنجلوس. وفي ميناء مدينة سانت مونيكا، يمكنهم أيضاً رؤية ملاهي هاوكينز (Hawkins fun fair). وفي شيكاغو، نظم فريق شيكاغو كابز (Chicago Cubs) حفلاً ليلياً يحمل طابع مسلسل "الأشياء الغريبة"، وذلك في ملعب ريجلي فيلد (Wrigley Field). بل وحتى في لندن، تباع حالياً تذاكر لخوض تجربة غامرة بروح الثمانينيات في مدينة هاوكينز للخريف القادم، حيث تعاونت "نتفليكس" مع سينما سيكريت (Secret Cinema) التي تجمع بين عروض الأفلام والعروض التفاعلية.
وبشأن طرق المحاكاة هذه، تنبأ خبيران من خبراء الإدارة، قبل أكثر من 20 عاماً، بظهور ما يسمى بـ"اقتصاد التجربة"، وكتبا في "هارفارد بزنس ريفيو" أن التقدم في قيمة الاقتصاد تحوّل من الاعتماد على السلع والبضائع إلى الخدمات، وسيستمر ليصبح مبنياً على التجارب. ولقد كانا محقَّين بالفعل في هذا التنبؤ، وخاصة في عالم الترفيه، إذ لا يرغب جماهير الأعمال الفنيّة تلك سواء في "الأشياء الغريبة" أو "هاري بوتر" أو "حرب النجوم" وغيرهم بالاكتفاء فقط بمشاهدة شخصياتهم المفضلة أو القراءة عنهم وحسب، بل بخوض تجاربهم أيضاً. فهم يريدون مثلاً ارتداء عباءات شخصية "غريفيندور" في فيلم "هاري بوتر"، والنقر بالعصيان السحرية، واحتساء مشروب الزبدة. وقد وجد بول بلوم، اختصاصي علم النفس في جامعة "ييل" (Yale)، أن المراهقين الأميركيين يقضون أكثر من 4 ساعات يومياً في المتوسط في عوالم خيالية.
ويدرك أصحاب تلك الممتلكات الخيالية هذه الحقيقة، لذلك يتعجلون الاستفادة من تدفق القيمة المتنامية هذه بطرق جديدة. ويشير بحثي إلى زيادة استخدام الشركات لحقوقها التجارية، وهي حقوق حصرية قائمة على حقوق التأليف والنشر والعلامة التجارية، بغرض التحكم بالبضائع التجارية القائمة على ممتلكات خيالية وكسب الربح منها، وذلك للسيطرة على الطريقة التي يعيش بها الجمهور قصصه المفضلة. إن هذا التوجه للمطالبة بحقوق حصرية على التجربة له تداعيات عدة سواء على الشركات أو المستهلكين أو على قوانينا الحالية أيضاً في الولايات المتحدة لحماية الملكية الفكرية. ومع تزايد حدية الشركات لترخيص الأنشطة الجماهيرية، من مخيمات صيفية ذات طابع خيالي إلى المقاهي المؤقتة، سيتعيّن علينا هنا التوقف للتفكير في تداعيات الحصول على مثل هذه الحقوق الحصرية لترخيص التجارب. إذ يمكن أن تهدد هذه المبالغة من الشركات عمليات الإبداع والتنافسية وثقة الجمهور، والأهم من هذا كله، تهديدها لممارسة حماسنا وشغفنا تجاه القصص التي نحب.
وحتى وقت قريب، كانت الشركات تتسامح كثيراً مع الأفراد الذين يسعون إلى إحياء عوالمهم الخيالية، انطلاقاً من نظرية أن ملاحقة الجمهور لن تحقق نفعاً للشركة. فعندما بدأت فرق رياضة كوديتش (Quidditch) الخيالية بالظهور في الجامعات، فكرت استديوهات وارنر براذرز (Warner Brothers) في تحويلها إلى سلعة كجزء من سلسلة "هاري بوتر"، ولكنها في النهاية تراجعت عن ذلك. وبناءً عليه، يوجد الآن أكثر من 300 فريق "كوديتش" حقيقي في الجامعات حول العالم.
ولكن مع نمو اقتصاد التجربة الذي نتحدث عنه هنا، ومع تفضيل المستهلكين، وخاصة جيل الألفية، للتجربة أكثر من مجرد الامتلاك، يعيد الكثير من أصحاب الممتلكات الثقافية التفكير في سلوكهم الحيادي القديم، وبالتالي نرى اليوم المزيد من الجهود لتسليع الأنشطة الجماهيرية التي تغاضوا عنها لفترة طويلة، والكسب منها. كما يتزايد الآن إصدار الشركات طلبات "الكف والتوقف" إلى الأطراف الثالثة التي تستخدم رأس مالها الإبداعي، وتقدم لها بدلاً من ذلك خياراتها البديلة والرسمية.
وهناك العديد من الأمثلة: إذ أوقفت الهيئة المسؤولة عن أملاك الكاتب جون رونالد رويل تولكين (J.R.R. Tolkein) مخيماً صيفياً يحمل طابع فيلم "سيد الخواتم“ (Lord of the Rings). كما منعت شركة النشر "دي سي كوميكس" (DC Comics) شركة لصناعة السيارات المخصصة من صناعة نماذج حقيقية مماثلة لسيارة باتموبايل (Batmobile) التخيلية التي تقودها شخصية باتمان. ورفعت شركة "ديزني" قضية علامة تجارية على شركة لصناعة الألعاب بسبب إنتاجها نسخة للهواتف المحمولة من لعبة البطاقات الخيالية، سبك "Sabacc"، المأخوذة من فيلم "حرب النجوم". وأغلقت شركة "وارنر براذرز" (Warner Bros.) مكاناً يحاكي موقع ذا غريت هول (The Great Hall) في قصر هوغوارتس (Hogwarts) في فيلم "هاري بوتر". وأرسلت "نتفليكس" قبل عام رسالة كف وتوقف إلى أصحاب مقهى مؤقت غير مرخص مستوحى من مسلسل "الأشياء الغريبة" في شيكاغو، وهي الآن تستعد لإطلاق مقاهي خاصة مرخصة رسمياً في جميع أنحاء البلد. كما منعت قناة "ذا كارتون نتورك" (The Cartoon Network) الجمهور من افتتاح مقهى مؤقت غير مرخص يحمل طابع المسلسل الكوميدي "ريك آند مورتي" (Rick and Morty) في واشنطن دي سي.
وقد تبدو هذه الإجراءات منطقية من الناحية التجارية، إذ إن في اقتصاد اليوم، تتجاوز قيمة السلع وتجارب الترويج قيمة الممتلكات الفكرية الأساسية بحد ذاتها كثيراً. خاصةً أن قيمة قطاع الترويج تبلغ 262 مليار دولار سنوياً. ومن شأن تراخيص الترويج الحصرية تلك الحث على الإنتاج الثقافي مما يسدّ تكاليف صناعة الأفلام وإدارة المشاريع الإبداعية التي تستحق المتابعة في المقام الأول. فعلى سبيل المثال، حققت سلسلة أفلام "حرب النجوم" 8.2 مليار دولار. بينما حققت سلع "حرب النجوم" 37 مليار دولار. ولكنّ قيمة سوق السلع لم ترتفع هكذا إلا مع ظهور تقنيات جديدة وإتاحتها أنماط جديدة من التجربة تركز على التفاعلية ولعب الأدوار والأداء والتجسيد.
ومثلما ذهب السوق، تبعه القانون إلى الاتجاه ذاته. فبعدما كانت الممارسات الثقافية غير مقيدة أبداً، أصبحت الآن تتعرض للتسليع، وتُنظم بالتراخيص والحقوق، وتتطلب دفعاً وتصريحات. وكان هذا نتاجاً لقانون حقوق التأليف والنشر الصادر في عام 1976، والذي أعطى الشركات حق التحكم لا بالأعمال المُعاد إنتاجها ضمن وسيلة الإعلام ذاتها والتي تشابه جداً العمل الأصلي فقط، بل أيضاً بالأعمال المُشتقة ضمن مجموعة واسعة من وسائل الإعلام وحتى تلك الأعمال البعيدة جداً عن العمل الأصلي. إذ يطالب اليوم أصحاب حقوق تأليف الممتلكات الخيالية تلك بحق التحكم بأي سوق محتمل ومستلهم من عالمهم المحمي بحقوق تأليفهم، والاستفادة منه مالياً. إذ أنهم يتقبلون على مضض كل شيء من أدب المعجبين إلى المقاهي المؤقتة وفرَق رياضة الكوديتش، أو يطالبون بإيقاقها برسالة الكف والتوقف عند غياب الترخيص. ويرى أصحاب العلامات التجارية أن التجار غير المرخصين ينتفعون مجاناً من علامات تجارية لأشخاص آخرين ويستفيدون منها مادياً.
ومع ذلك، فإن فرض حقوق فكرية غير محدودة للتحكم بجميع الأسواق الثانوية المحتملة هو أمر يرتكز على أساس قانوني هش. فلم يسبق أن شهدت المحكمة العليا ما يمسيه الباحثون "حق التسويق". كما أن هناك قانون الاستخدام العادل، والذي يهدف إلى ضمان بقاء قانون حقوق التأليف والنشر محققاً لغرضه الحقيقي والذي يتمثل في تحفيز ابتكار أعمال جديدة، وفي الوقت ذاته دون إعاقة إبداع لاحق. وعلى سبيل المثال، تتعاون الآن أسواق إلكترونية مثل "إتسي" (Etsy) مع منتجات إبداعية غير مرخصة مستوحاة من عالم "هاري بوتر"، و"صراع العروش"، و"الأشياء الغريبة". فهل يجب توجيه هذه السلع، وتقييد الأسواق بعرض الملابس وعلب الأطعمة المرخصة؟ وهل يعني ابتكار ظاهرة ثقافية قيّمة منع الآخرين من تقديم طرق أخرى لاستمتاع الجمهور؟ أجابت محكمة فيدرالية واحدة، على الأقل، بالنفي عن هذا السؤال، فعندما قاضت فرقة "نيو كيدز أون ذا بلوك" (The New Kids on the Block) صحيفة بسبب إجرائها مسحاً ربحياً عبر الهاتف، لتسأل الجمهور عن الفرد المفضل من الفرقة (تبرعت الصحيفة بالعائدات إلى جمعية خيرية)، رأت محكمة الاستئناف الفيدرالية أنه لا مشكلة في هذا النشاط الجماهيري، مبررة ذلك بأنه لا يحق لأصحاب الملكية الفكرية السيطرة على الجمهور.
ولكن حتى وإن كان القانون يسمح بذلك، فينبغي على الشركات التفكير في النتائج العكسية التي قد تؤدي إليها جهودها الساعية تلك لإيقاف نشاط جماهيري غير مرخص. إذ يمكن أن يحوّل مطالبتهم الجمهور "بالكف والتوقف" محبته سريعاً إلى كره. كما قد يتسبب في خنق الإبداع وكبته. ويمكن القول إن الجمهور أكثر ابتكاراً من الشركات عندما يتعلق الأمر بخلق طرق جديدة للاستمتاع بعوالمهم الخاصة. ومن غير العادل أن تحبط الشركات جهود الجمهور الابتكارية لمجرد رغبتها بالاستفادة منها، ومحاولة تحقيق ربح مادي لاحقاً. فنجد أن شركة "توينتياث سينتشري فوكس" (Twentieth Century Fox) لصناعة الأفلام تعرضت إلى مشاكل لهذا السبب، وتحديداً عندما أوقفت بيع قبعات محاكة يدوياً على موقع إتسي، لأنها كانت مستوحاة من المسلسل التلفزيوني الذي لم يدُم طويلاً لمخرجه جوس ويدون (Joss Whedon)،"فاير فلاي" (Firefly)، وقررت ترخيص القبعات حصرياً. وأثار هذا القرار استياء الجمهور، لأن الشركة لم تخلص للمسلسل، وألغته قبل إكمال الموسم الأول. وحينها كان الجمهور هو سبب استمرار المسلسل من خلال صناعة القبعات وبيعها وارتدائها. الأمر ذاته حدث مع فيلم "رحلة النجوم" (Star Trek)، حينما ثار جمهوره ضد أشكال الحظر على الأنشطة الجماهيرية. إذ نشرت شركة "بارامونت" (Paramount) لإنتاج الأفلام مبادئ توجيهية لصناع الأفلام من الجمهور تطالب بألا تتجاوز الأفلام من صنع الجمهور 15 دقيقة، واعتبر الجمهور هذه القيود بمثابة "إعلان الحرب".
إن قانون الملكية الفكرية، والذي كان يهدف إلى تحفيز ابتكار الأعمال الفنية بغرض استمتاع البشرية، يتعرض للتوسعة من جهة الشركات، وذلك لتحويل المزيد من أشكال المتعة إلى سلع. فما هو تأثير توسيع نطاق الحقوق على النشاط البشري، مثل القدرة على التفنن في استخدام الأعمال الثقافية والإشارة إليها، والتي تشكّل حياتنا ومجتمعاتنا؟ ربما يكون أكثر أصحاب النظريات تأثيراً حول جمالية التجربة الفيلسوف جون ديوي، والذي يقول إنه لا ينبغي قياس التطور بابتكار الأعمال الفنية، وإنما بدرجة انخراط البشر ومشاركتهم في الأعمال الثقافية. لذلك، يؤيد الانراط في الفن والثقافة من حولنا لتحفيز جميع الحواس: وهذا لأن القدرة على الانخراط بحرية في نشاط جمالي إبداعي ومبهج هي عنصر أساسي في بشريتنا. وبالتالي لا يتطلب التقدم الثقافي إنتاج المزيد من الأعمال وحسب، بل المشاركة أيضاً في العوالم الإبداعية والتي أصبحت الآن معلماً جمالياً من الثقافة الحديثة.
وهنا، يتعيّن على أصحاب الممتلكات الثقافية المحبوبة التفكير في نهج مدروس لفرض حقوق ملكية فكرية على تجارب الجمهور. كما يتعيّن على الشركات حقاً أن تقدّر الجمهور الذي يرغب بإحياء العوالم الخيالية. إذ إنّ انخراط الجمهور يمدّ عمر العمل الفني ويوسع نطاق قيمته. ففي النهاية، الجمهور هو القادر على جعل العمل مهماً له وللآخرين، ومحبته وإخلاصه هو ما يسعى صناع الأعمال الفنية إليه.