كثيراً ما تضيّع المؤسسات على نفسها فرصاً ذهبية لجلب أفضل المواهب المتاحة في سوق العمل والمناسبة للمهمات الحالية والمستقبلية. فعندما تبحث هذه المؤسسات عن كوادر بشرية أو تحاول تعيين موظفين جدد وإلحاقهم بالعمل بها، فكثيراً ما تلجأ إلى أساليب تتصف بالروتين المقيت والتقليد الأعمى وعرضة لسوء التقدير والخطأ. وهذه العملية مكلفة وغير مثمرة في نهاية المطاف.
يبدأ هذا الفشل من الخطوة الأولى ممثلة في كتابة الوصف الوظيفي. وقد أعربت دوروثي دالتون، الخبيرة الدولية في إدارة المواهب، عن أسفها حينما قالت: "يعد التوظيف بطريقة النسخ واللصق بشكل عام من قبيل الأعمال المعتادة في معظم المؤسسات... وحتى لو كان قد مضى خمس سنوات كاملة على آخر مرة تم فيها شغل الوظيفة، فمن النادر أن يفكر أي شخص في ضرورة صياغتها بشكل مختلف. وأرى بصورة عامة أن التغيير الوحيد الذي تجريه المؤسسات هو تضخيم المؤهلات".
كيفية صياغة الوصف الوظيفي
وإذا كنت تعتقد أن الوظيفة الشاغرة التي تريد شغلها لم تتغير في السنوات الخمس الماضية أو حتى في العام الماضي، فاعلم أن تفكيرك هو الشيء الوحيد الذي لم يطرأ عليه التغيير في مؤسستك. وغالباً ما يؤدي تضخيم المؤهلات الوظيفية إلى تثبيط عزيمة المرشحين الذين نتوسم فيهم الخير ونتمنى أن يتقدموا لشغل الوظيفة الشاغرة، وهؤلاء هم المرشحون المحتملون الذين لن يملّوا أداء مهمات وظائفهم بسهولة. لذا يُنصح بأن تتخلى عن الاعتماد على هذه الأساليب وأن تتعلم تحديد ما تحتاجه حقاً من الموظفين الجدد بحيث تستطيع صياغة الوصف الوظيفي المناسب وكتابته بالطريقة الصحيحة. وإليك 4 مقترحات في هذا السياق:
معرفة احتياجاتك الحالية، ولكن دون أن يغيب المستقبل عن مخيلتك
تخيل أن الوظيفة تتخذ شكل منحنى تطور الأعمال، بما يعني وجود مساحة كبيرة للنمو في الطرف السفلي، أما الطرف العلوي فينعم بالكفاءة العالية ولكنه يمتلك إمكانات ضئيلة. وأنصح شخصياً مسؤولي التوظيف في معظم الأحوال بتعيين شخص يمتلك مقومات الطرف السفلي ويتمتع بشغف النمو المتواصل، بالإضافة إلى امتلاكه درجة مساوية من الاستعداد للاندماج الوظيفي والشعور بالرضا والقدرة على الإنتاجية في أثناء صعوده المنحنى للوصول إلى الكفاءة العالية.
ولكنك تحتاج في بعض الأحيان إلى قناص لديه الخبرة لحل مشكلة مُلحة. إذ لا يمكنك الانتظار حتى يحقق النمو المطلوب. فتتنازل عن هذا المطلب مقابل التنازل عن عنصر الاستقرار، ذلك أن هذا الموظف سيغادر منصبه على وجه السرعة، إما إلى مؤسسة أخرى أو إلى تحدٍّ جديد في مؤسستك (إذا أتحته له) وستضطر إلى البحث من جديد عن شخص آخر يشغل الوظيفة، ونأمل أن يكون ذلك لمدة أطول هذه المرة.
وعلى هذا الأساس، يجب أن تفكر في أفضل ما يخدم المؤسسة على المديين المنظور والبعيد. وقد يكون من الأنسب في بعض الحالات أن تتعاقد مع موظف بنظام العمل المستقل لحل المشكلة الطارئة وتعيين موظف آخر لتحقيق النمو على المدى البعيد.
فهم سياق التعيين
احرص على تقييم المنصب في سياق الفريق إذا كنت تعمل في مؤسسة كبيرة، أو في سياق المؤسسة بأكملها إذا كنت تعمل في شركة صغيرة. إذ يعتبر شغل وظيفة شاغرة فرصة مواتية لنمو الأعمال التجارية، وليس نمو الأفراد فقط، ويمكن العثور على أفضل ملاءمة وظيفية عندما تتيح إمكانية تحقيق النمو لكليهما. ويمكنك المواءمة بشكل أفضل بين فرص العمل وأوصافك الوظيفية مع ما يحتاجه عملك من خلال فهم مناصبك الحالية بصورة أفضل.
وقد قدمنا خدماتنا الاستشارية، على سبيل المثال، لشركة حفزت مدراء المستوى المتوسط الذين كانوا غير واثقين من فرص الترقي، فشجعناهم على التقدم لشغل المناصب الوظيفية الشاغرة. وكان هذا ينطبق بشكل خاص على الأشخاص الذين عملوا في المؤسسة لأكثر من 10 سنوات. ولأن الشركة كانت قد طوّرت وظائف جديدة لا بد من شغلها، فقد أوصينا بإجراء استقصاء لمجموعة مستهدفة من الأفراد ترتبط بالوظيفة التي يريدون شغلها. تضمن الاستقصاء أسئلة تطلب من هؤلاء الأفراد تحديد ما أنجزوه فعلياً مقابل الوصف الوظيفي لمنصبهم. وشملت الأسئلة ما يلي: ما أسباب وجود هذه الاختلافات؟ ما الذي دفعهم إلى فعل الأشياء بشكل مختلف عما يوحي به الوصف الوظيفي؟ ما المهمات المرتبطة بالعبارة القياسية "والوظائف الأخرى على النحو المحدد"؟ ما التحديات التي واجهوها وتغلبوا عليها في سبيل تحقيق النجاح؟ كيف يتم قياس النجاح، وما المعايير المستخدمة؟ وأخيراً، منذ متى كانوا يشغلون هذا المنصب؟
يمكن الاستفادة من نتائج هذه الاستقصاءات في تحديد المناصب التي يجب تهذيبها أو تشذيبها تماماً. فبمقدورها تيسير عملية توزيع الموارد البشرية القيمة بالشكل المناسب، كما أنها تسهم في تحديد فرص التحركات الداخلية وترقية الكوادر التي تثبت موهبتها. بل قد تجد أنك لست بحاجة إلى توظيف أشخاص من خارج المؤسسة على الإطلاق، أو أنك بحاجة إلى شغل وظيفة مختلفة عن الوظيفة الشاغرة. وفي النهاية ستظهر أمامك الحقائق بالطريقة الصحيحة عند كتابة الوصف الوظيفي إذا كنت تعرف ما يفعله الموظفون الحاليون وما يريدون أن يفعلوه، حيث ستتكشف الفجوات من تلقاء نفسها.
تجنُّب اللغة التقييدية
كما أشرت سابقاً، فإن الهدف من الوصف الوظيفي هو دعوة أصحاب المؤهلات المناسبة للتقدم لشغل الوظيفة الشاغرة. ولا بد هنا من تجنُّب اللغة التقييدية حتى تنجح في تنفيذ هذه الخطوة. فعلى سبيل المثال، من المعروف أن اللغة المتحيزة لأحد الجنسين تثبط عزيمة المرشحين المحتملين. ربما ينطبق هذا بشكل خاص على المرأة عندما تنحاز لغة الوصف الوظيفي إلى المفردات الذكورية بشكل مفرط (ومن أمثلتها استخدام كلمات مثل "المكاشفة" أو "التنافسية" أو "القتال"). لكنها لا تقتصر على التحيز للمرأة وحدها. فاللغة المتحيزة للمرأة تثبط عزيمة الرجال (ومن أمثلتها "قادرة على تقديم الرعاية" أو "تعاونية" أو "مخلصة")، لاسيما في الوظائف التي جرت العادة على هيمنة المرأة عليها، مثل التمريض.
وبالمثل، يمكن للغة المستهترة أن تثبط عزيمة المتقدمين لشغل الوظيفة من الأقليات أو المرشحين غير التقليديين مثل المبتكرين (كيف يبدو لهؤلاء مصطلح مثل "ملتزم بمجال العمل"؟) أو العمال المستقلين الذين يبحثون عن وظيفة تقليدية (كما أوضحت في السابق) أو حتى العمال المبتدئين (الذين تحبطهم عبارة "من ذوي الخبرة"). فإذا كانت الوظيفة لا تتطلب امتلاك عامين من الخبرة، فلا داعي لاشتراطها. وإذا كنت تحاول تنويع قوة العمل في شركتك (وآمل أن تحرص على ذلك)، فعليك استخدام لغة تدعو على وجه التحديد إلى اهتمامات متنوعة. فيمكنك أن تقول، مثلاً: "نحن ملتزمون بتحقيق التنوع في قوة العمل لدينا". وتنصح كريستين بريسنر، رئيسة الموارد البشرية على مستوى العالم في شركة "روش دايغنوستكس" (Roche Diagnostics)، بأن "نحوله إلى اختبار" للغتنا: فإذا كنت رجلاً، كيف ستبدو لغتك بالنسبة للمرأة؟ وإذا كنت من ذوي البشرة البيضاء، فكيف ستبدو قراءة الوصف الوظيفي لشخص من ذوي البشرة السمراء؟ وإذا كنت شخصاً يحرص على النزول إلى مقر العمل، فهل تصوغ وصفاً وظيفياً يشجّع المرشحين الذين يحتاجون إلى العمل من المنزل؟ اختبر أيضاً اللغة التي تستخدمها مع مجموعة متنوعة من الأفراد قبل نشر الإعلان. ويمكنك بذلك إلقاء الضوء على النقاط المبهمة.
التفكير في المعنى
يريد كل إنسان أن يحقّق إسهامات إيجابية وأن يشعر بالشغف تجاه ما يفعله وبأنه يُقبِل على فعله بكل همة وحيوية. يريد أن يستلهم الأفكار التي تسهم في حل المشاكل وتلبية الاحتياجات. وإن كان هذا لا يعني بالضرورة تغيير العالم أو معالجة القضايا الكونية الملحة. لكنه يعني بالضرورة الإيمان بأننا نجعل البقعة التي نعيش بها في هذا العالم أكثر سعادة وإشراقاً وأماناً بطريقة بسيطة ولكنها مهمة.
ومن الأهمية بمكان أن تضمن المؤسسات أن الوظائف التي تريد شغلها تمثّل فرصاً جيدة للعمل الهادف والنمو الشخصي والتأثير الإيجابي. ويجب أن تعكس هذه المعاني من خلال الوصف الوظيفي، بل وفي أثناء المقابلة الشخصية. فتحرص شركة "تشات بوكس" (Chatbooks)، مثلاً، على مساعدة موظفيها على إعداد سجلات مطبوعة من صورهم على حساباتهم على موقع "إنستغرام". ولا تركّز على مهارات محددة، وتلجأ بدلاً من ذلك إلى استخدام عبارات مثل "الإبداع الممزوج بالأداء المتميز" و"ناضج" و"متفائل" لوصف قيم الشركة ونوعية المرشحين الذين يسعون لتوظيفهم. وعندما تعيّن فرداً تتوافق قيمه مع أغراض مؤسستك، فإن ذلك سيحقق النفع للطرفين. فاحرص على صياغة الوصف الوظيفي بطريقة تشجّع هؤلاء الأشخاص على التقدم لشغلها.
عندما تتوصل إلى الوصف الوظيفي المناسب، فسوف تتيح الفرصة أمام موظفك التالي لاستخدام نقاط القوة المميزة لديه في تقدير مخاطر السوق واقتحام مجالات لا يعرف الآخرون عنها شيئاً في مؤسستك. وستكون احتمالات النجاح حينذاك أعلى بكثير مما لو كانت تواجه مخاطر تنافسية تضطر فيها إلى خوض الصراع مع المنافسين مستعيناً بموظفيك المتمترسين خلف مهاراتهم التقليدية. وتعني الملاءمة الوظيفية الصحيحة أن الموظف الجديد لديه مساحة للنمو، وعندما ينمو موظفوك، فستنمو مؤسستك بكل تأكيد.