يزعم المدراء باستمرار أن عملية التخطيط الاستراتيجي التي ينفذونها تؤدي إلى إنشاء وثائق وخطط ضخمة ومفصّلة، دون ترجمة هذه الخطط إلى إجراءات ملموسة وتنفيذ فعال. يبدو الأمر كأن العملية تركز فقط على إعداد الخطة، في حين يبدو أن تنفيذ هذه الخطة هو عملية منفصلة إلى حد ما.
نعتقد أنه من الممكن تحقيق نتائج أفضل من خلال معاملة صياغة الاستراتيجية بوصفها عملية تصميم. لسنا أول من اقترح أنه من الممكن الاستفادة من مجال التصميم لوضع الخطط الاستراتيجية؛ فقد شبّه الكاتب هنري مينتزبيرغ صياغة الاستراتيجية بعملية صناعة الفخار في مقالاته في هارفارد بزنس ريفيو، بالإضافة إلى ذلك، أنشأ الكاتب روجر مارتن علاقة واضحة وصريحة بين عملية صياغة الاستراتيجية وعملية التصميم. لكنّ الجانب الذي نريد التركيز عليه في عملية التصميم مختلف قليلاً.
تتسم عملية التصميم بميزة أساسية سنركز عليها، وهي مفهوم "مستويات التصميم" (levels of design)، الذي يشير إلى أن عملية إنشاء التصميم تمر عبر سلسلة من المستويات التي تزداد تعقيداً وتفصيلاً تدريجياً.
على سبيل المثال، عندما يصمّم المهندس المعماري منزلاً جديداً، فإنه يفعل ذلك على عدة مراحل تزداد فيها التفاصيل تدريجياً. في المستوى الأول، يحدد بعض المبادئ الأساسية التي يتفق عليها مع العميل، على سبيل المثال، يجب أن يكون المطبخ في جهة الشرق للاستفادة من الشمس في الصباح ويجب أن يكون موقف السيارة قريباً من المطبخ لتسهيل عملية نقل المواد الغذائية والمشتريات من السيارة إلى المطبخ دون عناء ويجب أن تكون الشرفة في جهة الجنوب، بالإضافة إلى تخصيص 3 مناطق استقبال في الطابق الأرضي، وغيرها.
في المستوى الثاني، يرسم المهندس مخططاً تقريبياً للمبنى. قد يتضمن ذلك تصميماً أساسياً لكل طابق ومخططاً يوضح كيفية وضع المبنى على الأرض المخصصة له وشكل المبنى من الجهات كافة.
في المستوى الثالث، يجري إنشاء مخطط هندسي أزرق بمقاييس دقيقة، يوضح بالتفصيل الجوانب الأساسية وغير المرئية، مثل الجدران التي تتحمل الوزن وتدعم الهيكل الإنشائي للمبنى، بالإضافة إلى كيفية توزيع أنظمة السباكة والتمديدات الكهربائية داخل المبنى. قد يتضمن هذا المخطط أيضاً اقتراحات لمواقع أجزاء الأثاث الرئيسية واختيار بعض المواد المهمة، مثل بلاط السقف الفخاري والأرضية الخشبية في غرفة المعيشة.
أما المستوى الرابع، فهو المرحلة التي يعمل فيها المسؤول عن تحديد كميات المواد على إعداد قائمة تفصيلية بالمواد المطلوبة وكمياتها، مثل عدد البلاط الفخاري المطلوب أو عدد أمتار الأسلاك النحاسية اللازمة للتمديدات الكهربائية. في هذه المرحلة يجري اتخاذ القرارات النهائية المتعلقة بمنافذ الكهرباء وصنابير الماء في الحمام ولون جدران المطبخ، وذلك بالاستعانة بخبرات متخصصين مختلفين.
يتضمن المستوى الخامس العديد من المشكلات التي تظهر في أثناء بناء المنزل الجديد. على سبيل المثال، يلزم توفير مأخذ كهرباء إضافي لتشغيل جهاز التوجيه (الواي فاي). تتطلب مدفأة الحطب توفير تجويف أو مساحة أكبر في الجدار مقارنة بما كان مخططاً له في الأصل.
من المرجح أن يؤدي تطبيق مفهوم "المستويات الخمسة للاستراتيجية" إلى تقليل احتمالية الوقوع في مصيدة الخطط النظرية ذات التنفيذ المحدود. سنحتاج بالتأكيد إلى وثائق التخطيط الاستراتيجي، لكننا سندرك أنها مجرد مخططات أولية في المستوى الثاني. إذا قررنا عدم المضي في تنفيذ الاستراتيجية، فيمكننا تركها عند هذا المستوى، لكن إذا أردنا تنفيذها، فسندرك أنه تجب علينا صياغة الخطط في المستويين الثالث والرابع.
تحدد الخطط في المستوى الثالث الوحدات التنظيمية الرئيسية المسؤولة عن أجزاء مختلفة من الاستراتيجية ونموذج التشغيل الذي يربط بين هذه الوحدات التنظيمية. بالنسبة لكل وحدة، تحدد الخطط النتائج المتوقعة والأطر الزمنية وطريقة عمل الوحدة مع الوحدات الأخرى والقيود التي ستواجهها والموارد المتاحة. سيحقق مجموع النتائج في المستوى الثالث الأهداف المحددة في المستوى الثاني.
تحدد الخطط في المستوى الرابع الموارد البشرية والمالية والزمنية المطلوبة لكل مهمة فرعية داخل كل وحدة، وتوضح أيضاً كيفية استمرار الوحدات في الأنشطة الحالية وكيفية تسلسل تنفيذ المهام الإضافية المطلوبة لتحقيق الاستراتيجية.
على غرار ما يثيره عمل المسؤول عن تقدير الكميات من تحديات يحتاج حلها إلى تدخل المهندس المعماري، فإن الخطط في المستوى الرابع ستؤدي إلى ظهور مشكلات يجب حلها في المستويين الثاني والثالث. لذلك، يجب أن يتضمن التخطيط الاستراتيجي تفاعلاً مستمراً وحواراً متواصلاً بين المستويات المختلفة. يتطلب ذلك فهماً واضحاً لمفهوم مستويات الاستراتيجية والدور المحدد لكل مستوى. في المجالات العسكرية، يطلقون على عملية الحوار "الإحاطة العكسية" (back-briefing). تجدر الإشارة إلى أنه لا توجد لدينا تسمية محددة تصف هذا النشاط في مجال العمل الاستراتيجي.
أخيراً، يتعلق التخطيط في المستوى الخامس بالتعديلات الحتمية التي يجب إجراؤها استجابة لتطور الأحداث، مثل حدوث تأخير أو تأجيل في توفر الأموال، أو أن يترك الأشخاص الرئيسيون العمل دون إشعار مسبّق تقريباً، أو التعرض لردود فعل المنافسين القوية تجاه الخطة، أو حدوث تأخيرات من المورّدين.
في بعض الأحيان، لا يمكن التعامل مع تطورات الأحداث من خلال إجراء التعديلات في المستوى الخامس، إذ تكون التغييرات مطلوبة في المستوى الرابع أو الثالث أو الثاني. في هذه المرحلة يكون وضوح المعلومات والتفاصيل المتعلقة بهذه المستويات المختلفة مفيداً. من المهم معرفة المستوى المناسب للاستجابة، سواء كان المستوى الخامس أو المستوى الثاني، عند مواجهة أحداث معينة؛ إذ يضمن ذلك عدم انحراف الاستراتيجيات عن مسارها دون داعٍ، وكذلك ضمان تصحيح المسار عندما تتطلب الظروف ذلك.
ربما يؤدي إدراك مفهوم مستويات العمل الاستراتيجي إلى تحسين قدرة المؤسسات على تنفيذ التخطيط الاستراتيجي بطريقة أفضل. لا يمكن أن يكون الوضع أسوأ بكثير مما هو عليه.