ملخص: يوجد العديد من الأفكار الخاطئة المتأصلة فينا بعمق حول كيفية اتخاذنا القرارات، بدءاً من جملة "أحب أن أكون شخصاً فاعلاً" إلى "أثق بحدسي" وحتى "أنا قادر على اتخاذ قرار عقلاني"، لكن غالباً ما تسفر تلك الأفكار عن نتائج عكسية. ومن بين تلك الأفكار الخاطئة، هناك 3 منها شائعة لكنها ليست ذات جدوى على الإطلاق: أولاً، لا ينبغي لنا تخصيص وقت محدد لاتخاذ قرارات جيدة لأننا مشغولون أساساً. ثانياً، نحن بشر نتمتّع بالحكمة وقادرون على حل المشكلات الشائكة وذات المخاطر العالية في عقولنا. ثالثاً، صناعة القرار مهمة شخصية ولا تحتاج إلى إشراك أي شخص آخر. وللتصدي لتلك التحيزات، توصي المؤلفة بتخصيص وقت للتفكير في الصورة الأكبر.
هل يمكنك تخيّل الحياة دون هواتف ذكية؟
لا يمكن للكثيرين منا تخيّل ذلك بالطبع. نحن نعتمد على هواتفنا الذكية في كل شيء، بدءاً من إعلامنا بالاتجاهات وحتى إطلاعنا بدرجة الحرارة خارجاً وتتبع عدد خطواتنا اليومية ومعدل ضربات قلوبنا. لقد جعلتنا ثقافة "مرحباً سيري" نوازن السرعة مع الكفاءة والفاعلية، وغيّرت بذلك طريقة معالجتنا المعلومات. وأصبحت أدمغتنا مهيأة للاستجابة بسرور للتنبيهات والنغمات والإشعارات التي تصدر عن الهواتف وأجهزة الكمبيوتر.
وعلى الرغم من أن "سيري" و"أليكسا" و"جوجل" أدوات رائعة عندما نتطلع إلى تناول الطعام الإيطالي ونرغب في الحصول على مساعدة في العثور على مطعم جيد، لا تعتبر أدوات رائعة أو حتى مرغوبة عندما يتعلق الأمر بصناعة قرارات معقدة، فضلاً عن أنها تؤدي إلى تمكين سلسلة من الأفكار غير المثمرة والسلوكيات التفاعلية التي تضعف قدرتنا على اتخاذ قرارات مستنيرة.
لنفترض على سبيل المثال أنك تريد شراء سيارة، وتجري في عقلك مقارنة بين سيارة "بريوس" (Prius) وسيارة "كروستريك" (Crosstrek). قد توفر لك أداتا "سيري" و"جوجل" جميع أنواع المعلومات، مثل كفاءة استهلاك الوقود أو سعر الفائدة الحالي على قرضك. لكن لن يعرف محرك البحث سبب شرائك السيارة، أو كيفية استخدامك لها، أو تأثير شرائها في ميزانيتك. ويجب أن تتوصل إلى قرارك في النهاية بعد تحديد احتياجاتك وقيمك وأهدافك، وهي معلومات لا يمكن لخوارزميات تلك الأدوات تقديمها لك.
11 فكرة خاطئة حول صناعة القرار
درست صناعة القرار لأكثر من 20 عاماً، وحددت عدداً من الأفكار الخاطئة والمتأصلة فينا بعمق التي قد تسفر عن نتائج عكسية وتقوّض قدرتنا على اتخاذ القرارات. وتشمل أكثر تلك الأفكار الخاطئة شيوعاً ما يلي:
1. أحب أن أكون شخصاً فاعلاً. يعتقد الكثير منا أن الكفاءة تعني التطوع واتخاذ القرار. لكن لكي نكون فاعلين حقاً، يجب أن نكون واضحين بشأن المشكلة التي نحاول حلها. قد يقودك التسرع إلى اتخاذ قرارات مستندة إلى عوامل خاطئة، ما يجعلك تندم في النهاية. على سبيل المثال، قد تشعر أنك شخص كفؤ عند الدخول إلى وكالة بيع السيارات وشراء السيارة الأولى التي تراها، لكن قد يعني ذلك أنك اشتريت السيارة التي يريد مندوب المبيعات التخلص منها، وليس السيارة التي تناسب احتياجاتك وميزانيتك.
2. أنا مشغول جداً وليس لدي وقت لاتخاذ هذا القرار. إن تأجيل اتخاذ القرار هو قرار في حد ذاته. ومع ذلك، قد يؤدي الإبطاء المتعمد بهدف توضيح المشكلة التي تحاول حلها إلى تعزيز كفاءتك؛ فهو يجنّبك إعادة النظر في القرار وهدر الوقت لاحقاً من خلال قضاء وقت مركّز في التفكير فيه الآن. على سبيل المثال، قد يساعدك قضاء بعض الوقت في التقصي عن الأسعار قبل زيارة أحد وكلاء السيارات في التفاوض بشأن سعر السيارة بشكل أفضل.
3. يجب عليّ حل هذه المشكلة على الفور. يُعتبر ذلك مثالاً كلاسيكياً على "التركيز على الحاضر بدلاً من المستقبل". هناك سياق محدد لمشكلاتنا دائماً في الواقع. وقد يؤدي التركيز الضيق إلى حل مشكلة خاطئة أو حلها بشكل جزئي فقط. إذا تعطلت سيارتك بشكل غير متوقع واندفعت لشراء سيارة جديدة، فهل تفكر في احتياجاتك خارج نطاق الحاضر؟
4. هذا قراري وحدي، ولست بحاجة إلى إشراك الآخرين. بل يجب إشراك أصحاب المصالح الآخرين في قراراتنا المهمة. وقد يؤدي تجنب الصورة الأكبر حول هوية الأشخاص الآخرين المعنيين في القرار إلى حل المشكلة جزئياً فقط، وقد يؤدي إلى تفاقمها أحياناً. على سبيل المثال، إذا كان زوجك/ زوجتك أو ابنك لا يستطيعان قيادة سيارة ذات ناقل حركة يدوي، فهل تريد حقاً شراء سيارة لا يمكن لأي شخص آخر في الأسرة قيادتها في حالة الطوارئ؟
5. أعلم أنني على حق. وأريد فقط بعض البيانات أو الآراء لتأكيد معتقداتي. كان الضعف في صناعة القرار، المعروف باسم "الانحياز التأكيدي"، هو السبب وراء الهجوم الفاشل للقوات الأميركية في كوبا المعروف باسم عملية خليج الخنازير وانهيار سوق القروض العقارية، وانفجار مكوك الفضاء "تشالنجر" (Challenger) الذي أطلقته وكالة "ناسا"، والكارثة البيئية الناجمة عن انفجار منصة "ديب ووتر هورايزون" (Deepwater Horizon) النفطية. كانت البيانات غير المؤكدة متاحة في كل حالة وكان ينبغي لها أن تثير المخاوف، لكن لم يجر استخدام نهج التفكير الجماعي، ولم يرغب أحد في إطلاق الإشارة التحذيرية. لذلك، ابحث عن أمثلة مناقضة وقيّم التفسيرات المنافسة لتضع حدوداً حول اعتقاداتك وتفهمها تماماً. قد تجنّبك تلك التقنيات "عمى التفكير" أو التركيز على ما تؤمن به وتتيح لك التفكير في احتمالات أخرى. على سبيل المثال، قد تختار سيارة "كروس تريك" عند البحث عن سيارة مناسبة، لكنك تقرر النظر في خيارات أخرى رغم ذلك. هل يمكن أن يؤثر تفضيلك لموديل "كروس تريك" في كيفية تقييمك للسيارات الأخرى؟ هل تتطلع إلى تأكيد رغبتك بدلاً من شراء أفضل سيارة تناسب احتياجاتك؟ باختصار، طوّر حيّزاً معرفياً بوضع احتياجاتك في الاعتبار أولاً ثم البحث عن السيارات التي تتوافق مع تلك المعايير.
6. أنا أثق بحدسي. من الجيد الاعتماد على غرائزك عند اختيار وجبات إفطار صحية. لكن عندما نعتمد على حدسنا فيما يتعلق بالقرارات الأكبر وذات المخاطر العالية، فإننا نعتمد بذلك على التحيز والذاكرة الخاطئة. تستفيد القرارات المهمة من تطوير حيز معرفي لأنه يتيح الحصول على معلومات ورؤى ثاقبة جديدة. قد تختار سيارة "سوبارو آوت باك" (Suburu Outback) في عقلك لأن لديك ذكريات جميلة عنها مع أسرتك العام الماضي، لكن بعض السائقين يجدون أن مقعد السائق فيها غير مريح. وقد يؤدي تخطي اختبار القيادة إلى شرائك سيارة تجعلك غير مرتاح عند قيادتها مسافات طويلة.
7. عملية صناعة القرار خطّية. في الواقع، تُعتبر عملية صناعة القرار الجيد دائرية؛ فهي تستند إلى أفكارنا وإلى حلقة من الملاحظات في أثناء جمعنا المعلومات وتحليلها. قد نضطر إلى الرجوع خطوة للوراء أحياناً للبحث عن معلومات أغفلناها، أو لجمع معلومات جديدة أو إجراء نوع مختلف من التحليل. على سبيل المثال، قد تعتقد عند شراء سيارة أن إجراء البحث أولاً ثم الذهاب إلى تاجر والتفاوض على السعر يُعد كافياً. لكن يوجد العديد من التجار، ولكل منهم أسلوبه في التفاوض على السعر، لذلك، قد يكون إلقاء نظرة على مختلف العروض ومقارنتها مفيداً في منحك سعراً أفضل.
8. يمكنني جمع أفكاري معاً جيداً في عقلي. تتكون القرارات الكبيرة من عدة قرارات أصغر. وعندما نحتفظ بكل تلك الأفكار الصغيرة في عقولنا، تتقوّض كفاءة ذاكرتنا ويتشتت تفكيرنا. وقد تعترض عواطفنا الطريق أيضاً، ما يقود إلى التفكير المتحيز. ويُعد الاحتفاظ بسجل ملاحظات جزءاً مهماً من عملية التفكير والتحليل؛ وقد احتفظ كل من ألبرت أينشتاين وليوناردو دا فينشي بدفاتر ملاحظات بالفعل. قد لا نتصف بالبراعة أو الإبداع مثل أولئك المفكرين العظماء، لكن يمكننا التعلّم من أسلوبهم وكتابة بعض الملاحظات لإنشاء سجل لأفكارنا وأعمالنا.
9. لديّ كل المعلومات التي أحتاج إليها. على الرغم من رغبتنا في اتخاذ إجراءات فورية، يمكننا تحسين قراراتنا ومدى رضانا عنها بإجراء بعض البحوث ومواجهة الافتراضات بالأدلة. قد يحب صديقك المقرب سيارته، لكن لا يعني هذا أن موديل سيارته مناسب لك، لا سيّما إذا كانت السيارة لا تتسع معدات رياضة الهوكي التي تمارسها ابنتك. وقد يساعدك التواصل مع الخبراء، مثل منصة "كونسيومر ريبورتس" (Consumer Reports) التي تجري بحوثاً موضوعية، في اتخاذ قرار مستنير يناسبك.
10. يمكنني اتخاذ قرار عقلاني. أظهر العديد من علماء النفس، مثل أموس تفيرسكي ودانيال كانيمان، أن البشر لا يتمتعون بالعقلانية، على الرغم من إيماننا بذلك المعتقد. بل جميعنا ننساق وراء تحيزاتنا القائمة على التجارب والمشاعر السابقة. قد تعتقد أنك لن تتعرض للخداع من قبل تاجر سيارات، لكن يعرف مندوبو المبيعات المحترفون كيفية إثارة الاستجابات العاطفية بالفعل.
11. توجد طريقة واحدة لحل المشكلة فقط. بل هناك أكثر من طريقة للتوصل إلى "القرار" دائماً، سواء كانت طريقة ترتيب السرير أو النظام الغذائي الذي يجب اتباعه أو كيفية تقسيم حساب التقاعد. لكننا اعتدنا على عدم الإصغاء للأفكار الأخرى، وانغلقنا على دوائر معلوماتنا البيئة والاجتماعية (وسائل الإعلام). من جهة أخرى، قد يساعدك الخروج عن روتينك وأنماطك في رؤية الأمور بشكل مختلف. ربما اعتدت التوجه إلى وكالة السيارات لشراء سيارة جديدة، لكن عدد الأشخاص الذين يتفاوضون بشأن شراء السيارات عبر الإنترنت ومن خلال الرسائل النصية والبريد الإلكتروني في تزايد اليوم.
خذ وقتاً مستقطعاً
ومن بين تلك الأفكار الخاطئة، هناك 3 منها شائعة لكنها ليست ذات جدوى على الإطلاق: أولاً، لا ينبغي لنا تخصيص وقت محدد لاتخاذ قرارات جيدة لأننا مشغولون أساساً. ثانياً، نحن بشر نتمتّع بالحكمة وقادرون على حل المشكلات الشائكة وذات المخاطر العالية في عقولنا. ثالثاً، صناعة القرار مهمة شخصية ولا تحتاج إلى إشراك أي شخص آخر.
لكن كل تلك الافتراضات الثلاثة خاطئة وإشكالية وتقوّض قدرتنا على التفكير والتحليل بوضوح. نحن لسنا أجهزة كمبيوتر، بل نحن كائنات اجتماعية عاملة، ونحن بحاجة إلى الوقت للتفكير، وإلى القوة لمواجهة الانحياز اللاإرادي أو التركيز على الصورة الأكبر.
وتتمثل إحدى طرق مواجهة تلك التحيزات في أخذ وقت مستقطع للتفكير، وهو نقطة توقف استراتيجية تمنح عقولنا استراحة صغيرة لرؤية الصورة الكاملة والتفكير فيما نواجهه. قد يساعدنا الإبطاء في تحسين الفاعلية من خلال تجنيبنا الاعتماد على الأفكار الخاطئة والسلوك الانعكاسي لصناعة القرار.
وأطلق على تلك التوقفات الاستراتيجية "وقفة الفهد". وتوصلت إلى هذا المصطلح بعد أن علمت أن سبب مهارة الصيد المذهلة لدى الفهد لا يعود إلى سرعته، بل إلى قدرته على الإبطاء بسرعة تجعله صياداً مخيفاً. عادةً ما تجري الفهود وراء فرائسها بسرعة تقارب 60 ميلاً في الساعة، لكنها قادرة على خفض سرعتها بمقدار 9 أميال في الساعة بخطوة واحدة، ما يتيح لها الانعطاف بقوة والقفز بشكل جانبي وتغيير اتجاهها.
وبالعودة إلى مجال صناعة القرار، تُعدّ فترات الإبطاء المدروس مفيدة في تعزيز عملية التفكير. إذ تتيح لك عمليات التوقف المحسوبة تلك التحقق من تحيزاتك وتحديها، وتعزيز معارفك، وإشراك الآخرين وتمكينك من تحديد ما إذا كنت تريد إعادة التمحور والتحرك في اتجاه جديد أو الاستمرار في المسار نفسه قبل الإسراع مرة أخرى.
وإليك 5 أسئلة يجب أن تطرحها على نفسك في وقفات الفهد تلك:
- ما هي الأفكار الخاطئة التي أعتمد عليها في عملية اتخاذ هذا القرار؟
- كيف يساعدني هذا القرار في تحقيق أهداف حياتي؟
- هل مشاعري مرتبطة بهذا القرار استناداً إلى ما يجري بالفعل أو أنها تعكس أنماط سلوكي المكتسبة فقط؟
- ما هي المعلومات المتاحة التي يمكن أن تساعدني في اتخاذ هذا القرار بشكل أفضل؟
- كيف يمكنني فهم تصورات المعنيين في اتخاذ القرار ووجهات نظرهم على نحو أفضل؟
في المرة القادمة التي تسرع فيها نحو اتخاذ قرار ما، دع وقفة الفهد تذكرك بأهمية إجراء وقفة استراتيجية، إذ قد يساعدك هذا الحل البسيط في تجنّب الأفكار الخاطئة لعملية صناعة القرار وتحديد التحيزات التي تستند إليها، ما يؤدي إلى تحسين مهارة صناعة القرار لديك. وتذكّر أن صناعة القرار مهمة شخصية والقرار النهائي المعقد موجود في عقلك، ولديك كل الأدوات للتوصل إليه (دون مساعدة هاتفك الذكي).