قبل 12 شهراً فقط، كان النقاش العام يدور حول الثورة الصناعية الرابعة ومعدل التغيير السريع في الصناعات نتيجة تأثير التكنولوجيا والرقمنة. في ذلك الحين، كنا نعلم أن العمر الافتراضي للمهارات يتراوح بين 18 شهراً و5 سنوات، وأن جميع الصناعات تقريباً ستشهد زعزعة هائلة، وكانت هناك حاجة ماسة لتنمية المهارات وتطويرها. لكن بحلول جائحة "كوفيد-19"، وخلال عام واحد فقط، فُرِضت تغييرات لم تكن بالحسبان ومقدّر أنها ستستغرق حوالي 7 سنوات. وفي يناير/كانون الثاني من العام 2020، كانت أفضل التقديرات تشير إلى أن تنفيذ نموذج العمل عن بعد سيستغرق 453 يوماً، لكنه تحقق في غضون 10 أيام فقط! أي خلال وقت أقصر بـ 43 مرة من تلك التقديرات.
إن التغيير الذي نشهده اليوم يحدث بتسارع لم نشهده من قبل. ولقد انتقلنا من عالم المخاطر المفهومة إلى حالة من عدم اليقين أو الغموض، ما فرض علينا تغيير طريقة تفكيرنا السابقة. فهل جعلنا الوباء غير أكْفاء؟ هل نحن جاهزون لطرح الأسئلة الصعبة حول مهاراتنا ومهارات فرق عملنا؟ هل نحن جاهزون لإدراك حاجتنا إلى اكتساب مهارات ومعارف جديدة للتعامل مع مستقبل غامض؟
في خضم هذه المعادلة، نجد أن السبيل لحل مشكلة المهارات والخروج من هذه الأزمة -والانطلاق نحو مستقبل مشرق- يكمن في تطوير القيادات، والتطوير التنفيذي المستمر، وتنمية الفكر الرقمي لدى قادة الأعمال، لا سيما في مجال التكنولوجيا والرقمنة.
وفي هذا الصدد، نظمت "إم آي تي تكنولوجي ريفيو العربية" مؤخراً، بالاشتراك مع "هارفارد بزنس ريفيو العربية"، ندوة افتراضية بعنوان: "بناء وصقل الفكر الرقمي لدى قادة الأعمال"، شاركت فيها الدكتورة موضي الجامع، المديرة العامة لتطوير كفاءات الاتصالات وتقنية المعلومات في شركة "إس تي سي" (stc)، وضمت أيضاً كلاً من جولي شاكلتون، نائبة رئيس المبادرات الرقمية في قسم التعليم التنفيذي في "جامعة بيركلي"، والدكتور ريتشارد فريشتات، نائب رئيس مناهج قسم التعليم التنفيذي في "جامعة بيركلي"، واستضافتها سولفي نكلس، محاورة في "هارفارد بزنس ريفيو العربية"، ضمن سلسلة ندوات إدارة لاب.
ما هو التطوير التنفيذي؟ وما أهميته؟
وفقاً للدكتور فريشتات، فإن التطوير التنفيذي هو تجسيد لمفهوم أن التعلم لا يتوقف أبداً؛ فعندما تحصل على شهادتك، وبغض النظر عن تخصصك وعمرك، فإنك تنطلق في مسار حياتك المهنية وترتقي نحو المستوى التنفيذي. لكن سيبقى أمامك الكثير لتتعلمه، والكثير من التحديث والإضافات إلى ما تعلمته سابقاً. ومع التحولات السريعة في الاقتصاد العالمي، تتنامى حاجة القادة الملحة إلى مواصلة تطوير مهاراتهم وتحسينها وتنمية أدواتهم بمرور الوقت.
وأوضحت الدكتورة الجامع أن التطوير التنفيذي ينطوي على قسمين: الأول، هو المسؤولون التنفيذيون، الذين يديرون المؤسسات أو القطاعات المهمة، وهم في الأغلب مشغولون للغاية بالعمليات الاستراتيجية والتنفيذية وقد يغفلون عن التفكير في تطوير أنفسهم. وبالتالي، لا يدركون أهمية تخصيص الوقت والتركيز على أنفسهم للوصول إلى ما يطمحون إليه. لذلك "أنشأنا أكاديمية إس تي سي من أجل التركيز على تطوير القادة عبر أحدث التقنيات والمنهجيات المتعلقة بالقيادة. وثانياً، هناك قسم التطوير، الذي يتعلق بـ "تبادل الخبرات والإرشاد والمعرفة"، بالإضافة إلى التعلم. إذ لا بد للقيادي -على الرغم من انشغاله- أن يتوقف ويتعلم ويراقب ما يحدث في العالم من حوله. وفي منطقتنا، نحن نمر بتغييرات متسارعة، ومعظم القادة مدفوعون بالأداء، وقد يفكرون في تطوير فريقهم، لكنهم قد ينسون أنفسهم. ولهذا السبب من المهم التركيز على التطوير التنفيذي، خاصة في منطقتنا.
ما الذي يعنيه مفهوم الفكر الرقمي؟
يعني النظر إلى انتهاج الأسلوب الرقمي بصفته أهم الاعتبارات. وهذا لا يعني محاولة إنتاج نسخة رقمية من كل شيء، وإنما يعني أن تكون ملماً بكل ما هو رقمي بالمجال. الفكر الرقمي هو عبارة عن تحول ثقافي يبدأ من داخلنا ويتوسع إلى شركاتنا لتغدو مرنة وذات عقلية منفتحة للتعامل مع التقنيات الناشئة ودراسة إمكانية الاستفادة منها. حتى نتمتع بالفكر الرقمي، ينبغي علينا النظر إلى النتائج ودراسة كيفية الحصول عليها من منظور رقمي عوضاً عن نقل جانب ما من العالم الحقيقي وإتاحته عبر الإنترنت.
ما هي أهم التغييرات التي شهدناها خلال العام الماضي؟ وأي منها سيكون مستداماً بعد "كوفيد-19"؟
رأى الدكتور فريشتات أن أهم كلمة تعبر عن التغييرات التي سببها "كوفيد-19" هي كلمة "الابتكار". وعبر عن اعتقاده أنه بمجرد انتهاء الوباء، يجب على الشركات- شاءت أم أبت- أن تنغمس في وضعية مسرّعة للابتكار، لأن الابتكار كان طوق النجاة ووسيلة الانتعاش في جميع المجالات. وعندما يتعلق الأمر بالتحول الرقمي، فإن الشركات لم تعد تطرح أسئلة من قبيل: هل التحول الرقمي ضروري؟ ومتى يجب أن نقوم به؟ بل تتساءل اليوم: كيف يمكننا إنجاز التحول الرقمي؟ وكيف يمكننا تسريع هذه العملية وتوسيع نطاقها؟ وتبحث عن سبل جمع البيانات بطريقة أفضل لدعم عملياتها واكتشاف فرص جديدة لصالح الشركة أو المجتمع أو البلد أو العالم كله. علاوة على ذلك، أصبح الابتكار جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية الشركات. وهذا كله لن يكون أمراً مؤقتاً مرتبطاً بأزمة "كوفيد-19"، بل سيكون طويل الأمد ومستداماً حتى ما بعد الأزمة.
وأوضحت شاكلتون أن الشركات التي تبنت برامج التحول الرقمي تحقق أهدافها بالفعل متفوقة على الشركات الأخرى التي تأخرت في اعتناق هذا التحول.
بينما أشارت الدكتورة الجامع إلى أن المملكة العربية السعودية قد استثمرت في البنية التحتية التقنية، وأن التحول الرقمي لم يعد مشروعاً مكملاً، بل هو ضرورة ملحة. وأولئك الذين تأخروا في تبنيه سابقاً يندمون اليوم. وقد أدى الوباء إلى تغيير العقلية التنفيذية لتصبح أكثر ابتكاراً؛ حيث إن بعض القادة بدؤوا التفكير في الفرص التي ولدها الوباء وكيفية تقديم المزيد من الخدمات التي تساعد الناس وتعمل على تسهيل تجربة عملائهم وإثراء حياتهم.
تحول في العقلية والثقافة
رأت شاكلتون أن التغيير صعب جداً، والبعض كان ينتظر أن ينتهي الوباء ليستأنفوا عملهم كالمعتاد على مدى سنوات خلت. لكن في الحقيقية، فإن الأمور تغيرت جذرياً وإلى الأبد، وينبغي على الشركات والأفراد أن تغير عقلياتها في أسرع وقت ممكن.
واعتبر الدكتور فريشتات أن النجاح في هذا التحول يحدث حقاً عندما يتم على المستويين الكلي والجزئي في الشركات. أي عندما تدور النقاشات على مستوى القيادات التنفيذية حول الاستراتيجيات والرؤى والأهداف القائمة على البيانات وكيفية الاستفادة منها لصالح الشركة. ثم يجري تنفيذ هذه الرؤى على المستويات الأدنى في الشركة من خلال دفع الموظفين لاستخدام التكنولوجيا وجمع البيانات والاستفادة منها.
وأكد أن النجاح يعتمد في جوهره على الأشخاص؛ فالتكنولوجيا والأدوات موجودة لكن ينبغي أن ينخرط الجميع بشكل متناغم في المهام التي ينفذونها وكيفية إنجازها. وهذا لا يعني أنه ينبغي على القادة أن يصبحوا علماء بيانات مثلاً أو أن يصبحوا قادرين على تطوير الخوارزميات، وإنما يعني أن يمتلكوا ما يكفي من المعرفة والاطلاع حول هذه المواضيع حتى يتمكنوا من طرح الأسئلة الصحيحة، ووضع الاستراتيجيات المناسبة، واتخاذ قرارات مستنيرة بالبيانات. كما نوّه إلى أن هذه العملية تنطوي على الكثير من التجربة والاختبار والتكيف.
واتفق الجميع على أنه في الاقتصاد الرقمي، يجب أن يتمتع المدراء التنفيذيون بالعقلية الرقمية حتى ينجحوا في الدعم والعمل مع الجيل الشاب المتمكن تقنياً والأكثر فهماً للتكنولوجيا الجديدة. ويجب أن يتمتعوا بالانفتاح والتواضع، وأن يمتلكوا الوعي الذاتي للفجوة المعرفية وفجوة الأجيال، وأن يتحلوا بالجرأة لوضع خبرتهم الكبيرة في مجال الإدارة وصنع القرار جانباً، والاعتراف بعدم معرفتهم بالتقنيات الجديدة والسعي إلى الاطلاع عليها وفهمها.
شراكة بين جامعة "بيركلي" وأكاديمية "إس تي سي" في مجال التطوير التنفيذي
اتفقت الدكتورة الجامع على الشراكة بين الجامعة وأكاديمية "إس تي سي"، وأوضحت أن الأكاديمية تقدم دورات تدريبية لا تتطلب معرفة تقنية مسبقة حول مفاهيم مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وغيرها، التي تهدف إلى تمكين القيادات من فهم المفاهيم الأساسية وتزويدهم بالقدرة على خوض النقاشات حولها وفهم كيفية عمل هذه التقنيات وكيفية الاستفادة منها.
كما كشفت عن عقد شراكة بين أكاديمية "إس تي سي" و"جامعة بيركلي" حول التطوير التنفيذي؛ تهدف إلى تطوير القادة في المجال الرقمي ومجال التكنولوجيا بالإضافة إلى الجانب القيادي. وقد جاءت هذه الشراكة بعد مسابقة تعاون فيها الجانبان وتدعى "فكرة ذكاء اصطناعي" (AIdea) التي تستهدف المستوى المتوسط من القيادات في الشركة وتحثهم على الخروج بأفكار مبتكرة حول كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي في قطاعات عملهم. ثم تم منح أصحاب أفضل 50 فكرة دورات تدريبية لمدة 8 أسابيع لمساعدتهم في تطوير أفكارهم وفهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي وكيفية تنفيذها. بعد ذلك تم انتقاء أفضل 20 فكرة وتطوير نموذج العمل لها في حاضنة أعمال الشركة (inspireU) لتحويلها إلى نماذج قابلة للتنفيذ. وأخيراً، سيتم اختيار 3 فائزين ليجري تنفيذ أفكارهم في الشركة. أي باختصار انطوت المسابقة على تحويل الفكرة إلى منتج نهائي بعد عدة مراحل.