رئيس مجلس إدارة شركة “ماريكو” يحدّثنا عن الابتكار في كل جانب من جوانب العمل

14 دقيقة
ماريكو

تقوم فكرة شركة ماريكو (Marico) الهندية للسلع الاستهلاكية على ابتكار المنتجات، تلك الشركة التي أسستُها وما زلتُ أتربّع على قيادتها من واقع منصبي رئيساً لمجلس الإدارة. كنتُ شاباً أعمل في شركة "بومباي أويل إندستريز" (Bombay Oil Industries)، وهي شركة عائلية أسَّسها والدي وجدي عام 1948، وتعمل في مجال صناعة زيت الطعام والزيوت الوسيطة ومستخلصات التوابل وبيعها بالجملة. لقد كان نشاطها التجاري يعتمد على تداول السلع بهوامش أرباح متذبذبة ومعدلات نمو منخفضة، لكنني عكفتُ على تحليل عروضنا وعملياتنا ودرستُها باستفاضة، وسافرتُ إلى مختلف أنحاء الهند لمراقبة سلوك المستهلكين في مختلف المناطق الجغرافية، وتحدثتُ إلى المستخدمين النهائيين لمنتجاتنا للتعرُّف على الفرص غير المُستغلَّة، وتوصلتُ إلى نتيجة مفادها ما يلي: يمكننا أن نحقّق نتائج أفضل من خلال بيع الزيوت في وحدات أصغر بعلامات تجارية خاصة. كنتُ أعرف كيف تُدار الأعمال التجارية الهندية التقليدية، ولكن بعد زيارتي للولايات المتحدة، رأيتُ ديناميات سوقية مختلفة تلوح في الأفق. ومن هنا بدت لي المهمة واضحة: يجب أن ننشئ قسماً صغيراً للمنتجات الاستهلاكية داخل الشركة الأم.

إذ يجب أن ينصب تركيزنا على خلق القيمة من خلال تعزيز فرص الابتكار وإيجاد مسارات إضافية للنمو واقتحام الأسواق غير المُستغلَّة في السابق. ومن المعروف أن طرح مُنتَج جديد في الأسواق ومشاهدته يكتسب زخماً يوماً بعد آخر يجعل المرء ينتشي فرحاً، وقد شعر كل مَنْ شارك في هذا القسم الوليد بهذه المشاعر، خاصة أنا. وما إن هلّ علينا عام 1990، حتى اتسع حجم أعمالنا بما يكفي لتنفصل تحت علامة تجارية خاصة باسم "ماريكو". واكتسبت شهرة واسعة على مدار العقد التالي، حتى أصبحت اسماً مألوفاً في عالم الأعمال.

ولطالما أصررتُ على أن نستمر في ابتكار أفكار جديدة وتجربتها وتكرارها وتقديم أفضل العروض في السوق. ولا يقتصر هذا الالتزام على المنتجات الجديدة والتعبئة والتسويق فحسب، بل يمتد أيضاً ليشمل سلسلة التوريد وممارسات إدارة المواهب ونموذج عملنا. إذ لا يتوقّف النجاح على الاستفادة من نقاط قوتك فقط، ولكنه يستلزم أيضاً المخاطرة والتغلب على التحديات والتعلُّم من الفشل وتطوير رؤيتك وأحياناً إعادة اكتشاف نفسك. وتنطبق هذه القاعدة على كلٍّ من المؤسسات والأفراد.

وقد ساعدتني هذه الروح على تحويل قسم صغير في شركة عائلية بحجم مبيعات سنوية تبلغ في البداية نحو 61,000 دولار إلى كيان مستقل يُدار بطريقة مهنية احترافية ويتم تداول أسهمه في البورصة ويضم عشرات العلامات التجارية الرائدة وبقيمة سوقية تتجاوز 8 مليارات دولار. والأهم من ذلك أنني أعتقد أنني أنشأت مؤسسة سيتواصل فيها الابتكار لفترة طويلة من الزمن بعد تقاعدي. وقد حاولتُ أيضاً إلهام زملائي من رواد الأعمال وأصحاب الأعمال في جميع أنحاء الهند وتكريمهم ودعمهم من خلال مبادرات وبرامج "مؤسسة ماريكو للابتكار" (Marico Innovation Foundation) التي أسستُها عام 2003.

جذور أعمالنا العائلية

ترجع جذور أنشطتنا التجارية العائلية إلى بواكير عمل أفراد الأسرة في تجارة التوابل الهندية. فقد كان جدي وعمه يعملان في تجارة الزنجبيل والكركم وجوز الهند والفلفل، وينقلانها من ولاية كيرالا إلى تُجَّار التوابل في دلهي وكلكتا وأمريتسار وكراتشي. وافتتحا متجراً للتوابل ومصنعاً لتجهيزها، وسرعان ما حصل كلاهما على لقب "رجل الفلفل"، وهو الاسم الذي اشتهرت به أُسرتنا فيما بعد.

وبعد أن أعلنت الهند استقلالها عن بريطانيا عام 1947، بدأ جدي رحلة التصدير إلى أوروبا. وواصل والدي بعد ذلك المُضيّ قُدماً في أعمال التصنيع، وبدأ بإنشاء مطحنة صغيرة لتحويل لب جوز الهند إلى زيت جوز الهند. وأنشأ بعدها كسَّارة ومصفاة لزيت الطعام ومعملاً للزيوت الوسيطة ووحدة لاستخلاص التوابل، ما أتاح تحويل المواد الخام إلى منتجات تامة الصنع. وأسَّس بالتعاون مع والده شركة "بومباي أويل إندستريز" وحازا سمعة طيبة في مجال المنتجات عالية الجودة. وفي عام 1965، كانت لديهما علامتان تجاريتان: "باراشوت" (Parachute) لزيت جوز الهند و"صافولا" (Saffola) لزيت العصفر (القرطم) المكرر، لكن معظم منتجاتهما ظلت دون علامة تجارية، وكان يتم بيع كل شيء في صفائح وقوارير وعبوات تزن 15 كجم.

لقد نشأتُ وأنا أراقب كبار السن يديرون العمل بطريقتهم الخاصة، وكان من المتوقع أن أسير على خطاهم. وبعد دراسة المحاسبة والاقتصاد في "كلية سيدنهام" (Sydenham College)، تقدمتُ بطلب للالتحاق بكبرى كليات الإدارة في الهند، ولكن لم يتم قبولي. فسألتُ والدي عندئذٍ عمّا إذا كان بإمكاني التقديم في برامج ماجستير إدارة الأعمال في الولايات المتحدة وأوروبا، لكنه رفض رفضاً قاطعاً، وطلب مني القيام برحلة قصيرة إلى الخارج بدلاً من ذلك ثم العودة للانضمام إلى شركة "بومباي أويل". شعرتُ بخيبة الأمل، ولكنني حينما أعود بذاكرتي إلى الوراء، أدرك أنه أسداني نصيحة غالية.

فقد تعرّفتُ خلال رحلاتي إلى الخارج على المحال والمراكز التجارية الغاصَّة بالعلامات التجارية التي تباع إلى المستهلكين من كل فئة. كانت تصميمات المحال التجارية في غاية التنظيم، وكانت العبوات جذابة للغاية، وكانت الإعلانات مغرية. وبالمقارنة مع الخيارات المحدودة في السوق الهندية، كان هذا بمثابة إلهام لي. ولدى عودتي إلى شركة "بومباي أويل" عام 1971، وجدتُ نفسي موظفاً دون مسؤوليات إدارية أو إشرافية حقيقية. بدا الأمر وكأنني أعمل هناك بالمحسوبية، وكان الأمر كذلك، لكنني استطعتُ استغلال حريتي تلك بذكاء. فقد زرتُ مصانعنا، وصحبتُ المدراء في جولات تفقدية، وتحدثتُ مع موظفي الشركة في مختلف الإدارات، واستمعتُ إلى مكالمات المبيعات وحضرتُ بعضها بنفسي، وتحدثتُ مباشرة مع المشترين حول مستوى الجودة والأسعار والخدمات ومواعيد التسليم والشكاوى. لقد درستُ نقاط القوة والضعف لدى المنافسين، وتعرَّفتُ من قرب على مواردنا المالية، ولم أكتفِ بزيارة أسواقنا الرئيسية فقط، بل زرتُ أيضاً الأسواق التي لم يكن لنا فيها موطئ قدم، وحرصتُ على زيارة الموزعين وتحليل ديناميات العمل في مختلف أنحاء البلاد.

كنتُ قد تلقيتُ دورات تدريبية على الإدارة أيضاً لتعلُّم أساليب إدارة الموارد البشرية والمحاسبة وما شابه، لكن أبحاثي على أرض الواقع هي التي قدمت لي أهم الدروس وأكثرها فائدة، وهي التي شجّعتني في النهاية على اقتراح تغييرات جذرية في شركة "بومباي أويل". وقد تضمنت هذه الأنظمة أتمتة المصانع وتطبيق أنظمة الإدارة المالية والمبيعات الحديثة وأحدث أساليب إدارة الموارد البشرية، وصولاً إلى تحويل نموذج العمل في نهاية المطاف من المبيعات بالجملة إلى السلع الاستهلاكية المعبأة التي وضعت الشركة وحياتي المهنية على مسار مختلف تماماً.

بناء علاماتنا التجارية الاستهلاكية

حظيت العلامتان التجاريتان التابعتان لشركتنا في ذلك الحين، "باراشوت" و"صافولا"، بالاحترام والتقدير في الأسواق. وغالباً ما كنّا نزوّد تجار التجزئة بعبوات تزن 15 كجم، ومن ثم يقسّمونها إلى كميات أصغر من الزيت "السائب" مقابل الحصول على هوامش ربح بسيطة من العملاء الذين يأتون إليهم بزجاجات فارغة لملئها عندهم. وكان بإمكاننا الحصول على هذه الهوامش وزيادة حصتنا في السوق من خلال بيع زيوتنا بأحجام أكثر ملاءمة للمستهلك النهائي. فقدّمنا عبوات تزن 1 كجم و2 كجم، ثم أتبعناها بعلب سعة 500 و200 و100 مللي لتر. وعيّنا مدير مبيعات من شركة "هندوستان ليفر" (أحد أفرع شركة "يونيليفر")، كما عيّنا عدداً من مندوبي المبيعات لإجراء جولة في البلاد للترويج لتلك الأحجام الجديدة من منتجاتنا للموزعين وأصحاب المتاجر. وقد كثّفنا أيضاً حملاتنا الإعلانية وأصبحنا أكثر إبداعاً، حيث دشّنا أول حملة إعلانية على الإطلاق لمنتجات "باراشوت" والترويج لمنتجات "صافولا" من خلال الترويج لمزايا زيت العصفر منخفض الكوليسترول. ولم تكن أي علامة تجارية لزيت الطعام في الهند تركز على الصحة من قبل. وقد روّجنا لمنتجاتنا من خلال التركيز على الدعاية المرتبطة بالحفاظ على صحة القلب، واستعنا في هذا الصدد بآراء الأطباء وتنظيم المؤتمرات الطبية وطباعة كتب للوصفات الصحية، ما أثرى حياة المستهلكين الهنود بالتوازي مع الترويج لمنتجاتنا. وكانت عبواتنا الأصغر تلقى قبولاً واسعاً بالفعل بين الكثير من المستهلكين، لكنني كنتُ أؤمن بأن التمايز الأقوى سيؤدي إلى زيادة حصتنا في السوق بشكل كبير.

أسفرت كل هذه الجهود عن التوصُّل إلى ابتكار مهم في مجال التعبئة والتغليف. فلم تكن عبواتنا المعدنية جذابة للمستهلك أو سهلة الاستخدام: إذ كان عليك ثقب العبوة أو قطع الرقاقة المعدنية لصب الزيت. وأدركت أن العبوات البلاستيكية ذات الأنبوب المضغوط ستكون أفضل من الناحية الجمالية وتجعل صب الزيت أسهل من ذي قبل، كما أن تكلفتها أقل من تكلفة العبوات المعدنية، ما يسمح لنا بتخفيض أسعارنا مع تحقيق أرباح إضافية لزيادة الاستثمار في العلامة التجارية. وعلى الرغم من أن أبحاث المستهلكين أكدت تفضيل العبوات البلاستيكية على مثيلاتها المعدنية، فإن الموزعين وأصحاب المحال التجارية عارضوا الفكرة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن شركة أخرى لصناعة زيت جوز الهند أقدمت قبل بضع سنوات على تجربة زجاجات بلاستيكية مربعة الشكل، ولكنها لم تكن مُحكمة الغلق، وهو ما جذب الفئران التي كانت تلعق الزيت وتقرض حواف العبوات. فماذا كان الحل الذي قدمناه؟ صنعنا عبوات مستديرة الشكل، دون حواف تسمح بتسرب الزيت أو قرض العبوة، حتى إننا اختبرنا تصميم العبوة الجديدة من خلال وضع زجاجات مليئة بالزيت في أقفاص بها قوارض لمدة يومين مع كاميرا مُسلَّطة عليها. ولم يحدث شيء! وقد نشر فريق مبيعاتنا هذا الدليل المصوَّر فوتوغرافياً ووزّعه على كافة الأطراف المعنية، مؤكداً لتجار التجزئة أنه سيتم تعويضهم في حال حدوث أي تسريب أو تلف، وشرح إمكانية خفض الأسعار وتكثيف الحملات الإعلانية. وسرعان ما لاقت الزجاجات البلاستيكية قبولاً واسع النطاق.

ومع ذلك، فلم نتوقف عن متابعة الوضع: فعندما أدركنا أن الزيت سيصبح لزجاً في الزجاجات البلاستيكية خلال أشهر الشتاء، أعدنا تصميمها بحيث تكون فوهاتها أكثر اتساعاً بالحد الذي يسمح بصب الزيت وسكبه. وأخذنا ننتقل من منطقة إلى أخرى، ونُظهِر النتائج الإيجابية في كل منطقة قبل الانتقال إلى المرحلة التالية، حتى استطعنا التوسُّع في مجال السلع الاستهلاكية المعبأة على مستوى الهند في أقل من 10 سنوات.

المرحلة التالية

حقّقت مبيعات منتجات "باراشوت" نجاحاً ملموساً بعد أن ارتفعت حصتها في سوق زيت جوز الهند من 15% إلى 45%، ما أسفر بدوره عن ارتفاع مبيعات شركة "بومباي أويل" بمقدار 5 أضعاف خلال الثمانينيات. وأدركتُ منذ البداية أنني سأحتاج إلى محترفين لتطوير قسم المنتجات الاستهلاكية، حتى نستطيع التنافس مع الشركات متعددة الجنسيات، مثل "يونيليفر" و"نستله" و"بروكتر آند غامبل". لكن، وعلى الرغم من قدرة قسمنا على تحمُّل تكاليف هؤلاء الموظفين، فقد واجهتُ مقاومة شديدة من أفراد الأسرة الذين كانوا يقودون أقساماً أخرى في الشركة. وقد شعرتُ بالإحباط في الوقت نفسه بسبب عدم وجود أنظمة وعمليات لتتبُّع التكاليف والإيرادات والأرباح بدقة عبر أعمالنا التجارية المختلفة. كنا نفتقر إلى أنظمة للمساءلة، وكان الهيكل الإداري في شركتنا يقوم على التراتبية استناداً إلى السن والأقدمية، لا على الجدارة والكفاءة.

وأدركتُ أننا بحاجة إلى إحداث تغيير جذري، لذا بدأت التباحث مع بعض أبناء عمومتي الأصغر سناً في شركة "بومباي أويل" الذين شعروا أيضاً بأن تطلعاتهم التجارية مقيَّدة بالروتين العقيم. واتفقنا على أن أفضل طريقة للمضي قدماً هي تحويل كلٍّ من أعمال شركة "بومباي أويل" إلى شركات مستقلة، ومن ثم شرعنا في إطلاع كبار السن على نتائج مباحثاتنا. وبعد الكثير من الوقت والجهد والمداولات، تمت الموافقة على الخطة، وهي لحظة فاصلة نجحنا من خلالها في نيل الموافقة والإجماع من خلال الحوار والمثابرة والإيمان برؤيتي. وشعر الجميع بالإلهام للمضي قدماً ومواجهة تحديات المستقبل. وقررتُ تسمية شركة المنتجات الاستهلاكية المستقلة "ماريكو" تيمناً باسمي.

كنا نعرف أن الاستفادة من نجاحنا حتى هذه النقطة واسترداد بعض تكاليف الانفصال عن شركة "بومباي أويل" يحتّم علينا أن نميّز بسرعة العلامة التجارية لشركة "ماريكو"، ليس فقط باعتبارها شركة رائدة في مجال السلع الاستهلاكية المعبأة، بل باعتبارها أيضاً شركة جاذبة للمواهب المتميّزة. وفي ظل امتلاكنا موارد محدودة، كان علينا أن نلجأ من جديد إلى الابتكار. وقد طلبتُ من وكالتنا التسويقية تطوير حملة إعلانية مُصغَّرة ولكنها لافتة وجذابة للإعلان عن ولادة شركتنا. كانت الحملة تتألف من 3 مقالات تحاكي المقالات الإخبارية. كان أولها بعنوان: "200 موظف يغادرون شركة بومباي أويل"، وقد أشار المقال إلى أنهم فعلوا ذلك لتدشين شركة "ماريكو". وكان المقال الثاني بعنوان: "القضاء على قاتل خطير"، ويوضّح بالتفصيل إسهام منتجات "صافولا" (وفقاً للبيانات الطبية المتوافرة في ذلك الوقت) في تقليل مخاطر الإصابة بأمراض القلب. فيما جاء المقال الثالث تحت عنوان: "ليلي تاجي تقاطع زيت جوز الهند"، وتناول قصة شخصية خيالية لربة منزل مشهورة في الهند تهتم بالجودة والتكلفة وترفض أي زيت جوز هند بخلاف زيت "باراشوت". أثارت هذه الإعلانات ضجة بين المستهلكين الهنود ولاقت قبول المدراء الشبان الصاعدين. وهكذا كنا شركة جديدة ومثيرة على استعداد لتجربة أفكار مبتكرة.

كما أنني كنتُ واضحاً بشأن المؤسسة التي أريدها؛ مؤسسة تمارس عملية صناعة القرار بطريقة لامركزية وتضم مهنيين أكفاء في كافة المناصب الوظيفية بفريق العمل، بدايةً من المناصب القيادية وصولاً إلى موظفي الخطوط الأمامية. كنتُ أعلم أن أول موظف يجب أن أهتم بتعيينه في شركة "ماريكو" هو مدير الموارد البشرية الذي يُفترَض به أن يثري استراتيجية التوظيف لدينا ويضفي عليها جواً من المصداقية. فاستعنا بخدمات الرئيس التنفيذي لشئون الموارد البشرية الجديد، جيسوانت ناير، الذي شاركني رغبتي في بناء مؤسسة تحرص على تمكين العاملين من الابتكار، واستطعنا بمساعدته تعيين فريق قوي على وجه السرعة يتشكّل من خبراء يمتلكون معرفة تفوق بكثير ما كنتُ أعرفه شخصياً عن مجالات تخصصهم. وطلبتُ منهم جميعاً، بداية من المسؤولين التنفيذيين وصولاً إلى العمَّال، أن ينادوني "هارش".

ونجحنا خلال بضع سنوات في تطوير علامتنا التجارية وثقافتنا استناداً إلى 3 ركائز أساسية: العنصر البشري والمنتجات والأرباح. كنا نعلم أن العنصر البشري، أي أعضاء الفريق والعملاء والشركاء التجاريين، يشكّلون أعظم نقاط قوتنا. ويمكننا معاً صناعة منتجات عالية الجودة. وستقيس أرباحنا مدى قدرتنا على تلبية احتياجات الأسر الهندية، وستتم إعادة استثمارها في الأعمال التجارية لتحسين منتجاتنا الحالية وابتكار منتجات جديدة والحفاظ على اندماج العناصر البشرية في هذه العملية. كانت دائرة إيجابية. وقد حدَّدنا من خلال هذه العدسة أعمال التطوير الضرورية التي طال انتظارها، مثل تحديث مصانعنا ومصافي التكرير، إلى جانب تحسين منهجيات الإدارة، ربما بطريقة سابقة لعصرها، بحيث تضمّنت التخلي عن متطلبات الحضور والانصراف وتحميل العاملين ببساطة مسؤولية تحقيق النتائج المنشودة.

والأهم من ذلك أننا شجعنا الأفكار الجديدة والتجريب والمخاطرة المحسوبة والتشكيك في الفكر السائد. فقد كان الجميع يعلم أن الأخطاء مقبولة إذا أسفرت عن دروس من شأنها أن تزيد من احتمالية نجاح المبادرات التي سيتم تدشينها في المستقبل. وهكذا فإن الأعمال التجريبية لا تسفر أبداً عن تكبُّد خسائر، بل تؤدي إلى دروس مستفادة. ومن هذا المنطلق أجرينا في أوائل التسعينيات بعض التحركات غير المتوقعة. كان أهمها افتتاح مصنع على أحدث طراز في ولاية كيرالا، المصدر الأساسي لزيت جوز الهند. وقد عرضتُ أرضاً منخفضة التكلفة وعاملين تلقوا تعليماً عالياً، لكن كان يُنظر إلى الولاية على أنها ولاية طاردة للصناعة لأن نقاباتها العمالية كانت قوية للغاية. وقد نجحنا من جديد لأننا ابتكرنا وأنشأنا مؤسسة تُعطي الأولوية لمصالح العمال والمجتمع بأجور عادلة وتوفّر التدريب ومتطلبات التطوير. وشهد المشروع على مدار عقد من الزمان تحقيق عائدات تزيد على تكلفته بمقدار 10 أضعاف وأصبح نموذجاً للإنتاج المتميّز.

وقد تواصلت أعمال ابتكار المنتجات وطرائق التعبئة التغليف على قدم وساق طوال الوقت. وطرحنا مُنتَج "هير آند كير" (Hair & Care) من شركة "ماريكو"، وهو زيت ممتاز ومُعطَّر للعناية بالشعر، كما طرحنا مُنتَج "ريفايف" (Revive)، وهو مسحوق لتنظيف الملابس سريع التحضير وقابل للذوبان في الماء البارد. ولكي نُحبِط محاولات تقليد منتجات "باراشوت"، ابتكرنا غطاءً يصعب تقليده ومقاوماً للسرقة. وفيما يخص منتجات "صافولا"، فقد صنعنا عبوة على شكل قلب يسهل صب الزيت منها، وخلطات جديدة ومبتكَرة وملح طعام منخفض الصوديوم ومزيجاً من الدقيق الغني بالألياف.

فقد كان الجميع يعلم أن الأخطاء مقبولة إذا أسفرت عن دروس من شأنها أن تزيد من احتمالية نجاح المبادرات التي سيتم تدشينها في المستقبل.

وفي عام 1996، تضاعفت مبيعات شركة "ماريكو" 4 مرات وتضاعفت الأرباح مرتين. وقد دخلتُ أنا وعمي، كيشور، في مفاوضات مع أفراد أسرتنا الآخرين لشراء أنصبتهم خلال 18 شهراً بعد تحديد قيمتها بواسطة خبراء تثمين ينتمون إلى طرف ثالث. وفي النهاية كان علينا أن نكون مبدعين في تمويل أعمال الشركة وقررنا طرح أسهمها للاكتتاب العام الأولي في البورصة. وقد شكك البعض في قدرة شركة هندية محلية كشركتنا على جذب المستثمرين في حقبة كانت فيها سوقنا تقع تحت هيمنة شركات السلع الاستهلاكية المعبأة متعددة الجنسيات. لكننا نجحنا. وقد تم تسعير الأسهم المدرجة في عملية الاكتتاب بأسعار جيدة في ظل سوق الأسهم المتداعية، وكان الطلب عليها أكثر من العرض. وقد بعتُ أنا وعمي بعض أسهمنا، لكننا احتفظنا بنسبة 65% من حصتنا واستطعنا جمع رأس المال الذي كنا في أشد الحاجة إليه.

آفاق جديدة

كنا بحاجة إلى مزيد من الابتكار لتحقيق قفزة كبيرة من شركة تعمل في مجال السلع الاستهلاكية المعبأة في حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي إلى جهة فاعلة في هذا القطاع في العقد الأول من الألفية الثالثة وما بعده. وبدأنا تخصيص 20% من الأرباح السنوية لصالح صندوق استراتيجي لتطوير عوامل نمو جديدة، وذلك من خلال العمل مع نجم الإدارة الشهير رام تشاران. واستطعنا بهذه الطريقة الحفاظ على استمرارية خط إمداد المنتجات والعلامات التجارية والأعمال التجارية الجديدة. وكان أحد أبرز النجاحات التي تحققت خلال تلك الفترة هو التوسُّع الهائل في منتجاتنا من زيت الشعر قبل الغسل وبعده بمكونات مختلفة، وحرصنا على توافرها في مجموعة متنوعة من الأحجام، بما في ذلك الأكياس ذات الاستخدام الواحد، التي روجنا لها بحملات إعلانية مدروسة بعناية تتمحور حول المناسبات الخاصة، مثل مهرجان هولي للألوان وعيد ديفالي. وفي عام 2019، استطاعت شركة "ماريكو" الاستحواذ على حصة تُقدَّر بنحو 25% من هذه السوق سريعة النمو، وسرعان ما طرحنا علاماتنا التجارية للتوسُّع في منتجات أخرى للعناية بالشعر والبشرة، مثل جيل تثبيت الشعر والكريمات والأمصال (السيروم).

ومن خلال العمل مع علامة "صافولا" التجارية، جرَّبنا الوجبات الخفيفة المخبوزة المصنوعة من الحبوب الغنية بالألياف، ولكن سرعان ما أدركنا أن العملاء يتوقعون أن تكون الأطعمة الترفيهية لذيذة بالدرجة الأولى، وهي إحدى الرؤى الثاقبة التي تولّدت لدينا نتيجة الفشل في إحدى تجاربنا، وقد أخذناها في الاعتبار لإنجاح علامة تجارية أخرى: "صافولا أوتس" (Saffola Oats). فقد بدأنا بحبوب الشوفان السادة غير المُتبَّلة التي اشتهرت بها العلامات التجارية الأميركية، مثل "كيلوغ" (Kellogg) و"كويكر" (Quaker)، وسرعان ما استطعنا الاستحواذ على حصة سوقية تُقدَّر بنحو 15% من هذه السوق. لكن الابتكار الحقيقي كان في النكهة. إذ كنا نعلم أن المستهلكين الهنود يفضّلون وجبات الفطور المُتبَّلة، ومن ثم فقد عملنا على تطوير منتجات تلبي مختلف الأذواق الإقليمية، مثل الشوفان بالطماطم وشوفان بونغال وشوفان ماسالا والشوفان بالليمون والفلفل، ووجدنا طريقة جديدة لتقديمها، وذلك من خلال آلات البيع في المطارات والمكاتب والصالات الرياضية والمستشفيات. وقد حققت هذه المنتجات نجاحاً كبيراً، وتستحوذ شركة "صافولا" الآن على 80% من سوق حبوب الشوفان المُتبَّلة.

وقد حققنا انتصاراً آخر بعدها بفترة من الزمن من خلال الابتكار في نموذج عملنا الذي يقوم على بيع الخدمات وكذلك المنتجات. حيث أصبحت عيادات إزالة الشعر تحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وكنا نعتقد أنها ستلقى قبولاً واسعاً بين المستهلكين الهنود أيضاً. لكننا لم نُرد الدخول في مجال عمل تجاري يمكن استنساخه بسهولة وتحويله إلى سلعة تسهل محاكاتها. لذا بدأنا عمليات البحث وإعداد نماذج أولية لعيادة راقية تعتمد أحدث أدوات التكنولوجيا الفائقة، بحيث تقدِّم باقة من علاجات العناية بالبشرة. واشترينا المعدات وعيّنا طواقم العمل وجهّزنا نسخة تجريبية في مقرنا الرئيسي في مومباي، وطلبنا متطوعين للحضور وتجريب خدماتنا تلك. وهكذا وُلِدت شركة جديدة تابعة لشركة "ماريكو" تحت اسم شركة "كايا" (Kaya) متخصصة في مجال التجميل. واستطعنا في خلال عام واحد افتتاح 3 عيادات في مومباي و3 عيادات في دلهي. وسرعان ما افتتحنا عيادات في أماكن أخرى في الهند والشرق الأوسط. وفي تطور مثير للاهتمام، أصبحت "كايا" فيما بعد منصة لطرح مجموعة من منتجات العناية بالبشرة، التي يتم بيعها بالتجزئة من خلال العيادات والقنوات الأخرى. ولدينا الآن 95 عيادة في 31 مدينة في الهند والشرق الأوسط و62 منتجاً من منتجات "كايا" تحقّق عائدات سنوية تبلغ 4.2 مليار روبية (51.3 مليون دولار أميركي).

وأخيراً، فقد حرصنا على التوسُّع في أعمالنا التجارية بشكل إبداعي لتشمل مناطق جغرافية جديدة، مستهدفين الهنود في الشرق الأوسط والمستهلكين المشابهين لهم فكرياً في بنغلاديش من خلال منتجات شركة "ماريكو" العريقة مع الاستحواذ على علامات تجارية في الأسواق الآسيوية والإفريقية الناشئة الأخرى. وتمثل إيراداتنا الدولية الآن ما يقرب من ربع إجمالي إيرادات شركة "ماريكو".

الطريق نحو المستقبل

في عام 2014، سلَّمتُ مقاليد الأمور في شركة "ماريكو" لمسؤول قدير (وليس أحد أفراد الأسرة)، وهو سوغاتا غوبتا. ومنذ ذلك الحين، قاد الابتكار في الشركة، على الرغم من أنني ما زلت أقدم النصح والإرشاد بصفتي رئيس مجلس الإدارة. وأقضي اليوم معظم وقتي في محاولة نشر مبادئنا في عالم الأعمال الهندي من خلال "مؤسسة ماريكو للابتكار" ومؤسسة "أسنت فاونديشن" (Ascent Foundation)، إلى جانب الإشراف على المبادرات، بما في ذلك برامج البحث والتدخل، وفعاليتنا نصف السنوية ذات الشهرة الواسعة على مستوى الهند التي تُقام تحت اسم "جوائز الابتكار من أجل الهند" (Innovation for India Awards) للتعرُّف على المبتكرين المبتدئين وتكريمهم، وبرنامج "تنمية المهارات" (Scale-Up) الذي يوفّر دعماً مجانياً لرواد الأعمال، بما في ذلك الوصول إلى شبكات روّاد القطاع الذين لا يكتفون بتقديم خبراتهم حول ما يجب فعله، ولكنهم يسهمون أيضاً في التعريف بكيفية فعله. وعلى مدار الأعوام الثمانية عشر الماضية، كانت رسالة "مؤسسة ماريكو للابتكار" تقوم على اكتشاف الابتكارات الثورية التي تعزز القيمة الاقتصادية والاجتماعية في الهند ورعايتها والإسهام في تطويرها، وقد دخلنا في أكثر من 100 مشروع عبر قطاعات متنوعة.

وعندما يسألني الشباب عن الدروس المستفادة خلال 5 عقود من تأسيس شركة "ماريكو" وقيادتها، فإن أول ما يتبادر إلى ذهني هو "التركيز". إذ يجب أن تعرف نقاط قوتك الفردية والمؤسسية والبناء عليها لتحقيق العمق والتميُّز. ويجب أن تكون في الوقت نفسه على دراية بما يحدث من حولك ومنفتحاً عليه. وهناك دائماً مؤشرات تدلُّ على تغيُّر العقليات والفرص المتاحة. وإذا بقيت متيقظاً لها ونفّذتَ مخاطر محسوبة في الوقت المناسب، يمكنك أن تقدح شرارة النمو. وحتى إذا لم تحقق النتيجة التي تريدها، فسوف تخرج من هذه العملية بدروس قيِّمة لا تقدَّر بثمن.

ويتمثل أحد المكوّنات الرئيسية لنجاح القيادة في فهم أن دورك لا يقتصر على اتخاذ القرارات، ولكنه ينطوي أيضاً على بناء ثقافة مؤسسية تسمح بالتدفق الحر للأفكار والتجريب. وقد يأتي الابتكار من أطراف غير متوقَّعة بالمرة، ولكنك لن تستطيع إدراكها إلا إذا أرهفت السمع وساويتَ بين الجميع في إتاحة فرص النجاح أمامهم وشجَّعتَهم على الالتفاف حول هدف مشترك.

قد يأتي الابتكار من أطراف غير متوقَّعة بالمرة، ولكنك لن تستطيع إدراكها إلا إذا أرهفت السمع وساويتَ بين الجميع في إتاحة فرص النجاح أمامهم وشجَّعتَهم على التكاتف.

والأهم من كل ذلك أن تتبنى الابتكار وترعاه في كل جوانب المؤسسة. ولا يُشترَط أن ينطوي الابتكار دائماً على طرح مُنتَج جديد أو خدمة جديدة، فقد يرتبط الابتكار في بعض الأحيان بحل مشكلة مستعصية في آلية العمل أو تطوير طريقة أكثر ذكاءً للتعرُّف على رؤى المستهلكين أو بناء فريق أكثر قوة وتنوعاً. وعندما توسِّع عدسة الابتكار، فسوف تُضاعِف فرص نجاح مؤسستك. هذه هي الطريقة الوحيدة لتحقيق قفزات نوعية في النمو المهني أو المؤسسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي