في 19 من مارس/آذار عام 2020، ومع انتشار جائحة كوفيد-19 في العالم، تحدّيتُ الجميع في شركة "فايزر" "لجعل المستحيل ممكناً" من خلال تطوير لقاح جديد بسرعة أكبر من سرعة تطوير أي لقاح سابق، وتحديداً في غضون 6 أشهر في الوضع المثالي أو قبل نهاية العام كحدّ أقصى. وقام الرئيس التنفيذي لشركة "بايونتك" (BioNTech) الألمانية التي تركز على تطوير العلاجات المناعية لمرض السرطان، أوغور شاهين، بالشيء نفسه مع فريقه.
وبعد أقل من 8 أشهر، في يوم الأحد 8 من نوفمبر/تشرين الثاني، اجتمعت مع بعض كبار المسؤولين التنفيذيين لمعرفة ما إذا تمكن علماؤنا ومنظمو التجارب السريرية والمصنعون وخبراء الخدمات اللوجستية مجتمعين من تحقيق الهدف. وكانت لجنة مستقلة لمراقبة البيانات مؤلفة من 4 مراقبين ستعقد اجتماعاً عن بعد لمراجعة النتائج الأولية لتجارب اللقاحات التي تجريها شركتانا. كانت هذه الدراسة مزدوجة التعمية، إذ لم يعرف أي من العلماء ومحققي التجارب السريرية والمرضى أنفسهم شيئاً عمن تلقى لقاحاً حقيقياً ومن تلقى لقاحاً وهمياً، لذلك كنا مستعدين لثلاث نتائج محتملة. فقد يقول لنا مراقبو البيانات إن علينا إيقاف التجارب لأنها فاشلة؛ أو الاستمرار بها لأن النتائج غير حاسمة؛ أو متابعة العمل وتقديم طلب فوري لترخيص الاستخدام الطارئ لأن اللقاح ناجح وآمن.
كان مراقبو البيانات سيجتمعون في الساعة 11 صباحاً، ولذلك عقدت مع مجموعة من القادة اجتماعاً في نفس الوقت. حضرت هذا الاجتماع مع كل من ميكال دولستن كبير الموظفين العلميين، ورود ماكنزي الرئيس التنفيذي للتطوير، وسالي ساسمن الرئيسة التنفيذية لشؤون الشركات، ويولاندا لايل رئيسة الموظفين، ودوغ لانكلر كبير المستشارين. وكان كبير علمائنا المختصين في مرض "كوفيد-19" الذي كان يعمل على مدار الساعة في منشأتنا الواقعة في ناحية بيرل ريفر بولاية نيويورك هو من سيتلقى الأخبار أولاً ليزفها بدوره إلينا. حاولنا شغل أنفسنا بمناقشة مسائل أخرى، لكن مستوى التوتر كان عالياً.
وأخيراً، قبل الساعة 2 عصراً بقليل تلقت يولاندا رسالة نصية مفادها أن النتائج قد صدرت وأن الباحثين في منشأة بيرل ريفر يرغبون بالاجتماع معنا عبر اتصال الفيديو على منصة "ويبيكس". وريثما تمكنّا من الاتصال بهم مرت علينا لحظات شديدة الثقل، قلْت فيها مازحاً إن هذا الانتظار الصعب هو عقوبة لي على الضغط الذي مارسته عليهم طوال الأشهر القليلة الماضية. لكن عندما ظهرت وجوه المراقبين على الشاشة أوحت لنا ابتساماتهم بأنهم يحملون أخباراً سارّة. وبالفعل، أوصت اللجنة المستقلة "بشدة" أن نسعى للحصول على تصريح باستخدام اللقاح، وبعد 10 دقائق تم إعلامنا سراً بأن فاعلية اللقاح قد بلغت نسبة مذهلة وصلت إلى 95.6% بالضبط.
وبحلول شهر ديسمبر/كانون الأول من العام 2020، تم تصنيع 74 مليون جرعة من لقاحنا وتوزيع 46 مليون جرعة، ونأمل أن تتوفر 300 مليون جرعة منه في العالم بحلول موعد نشر هذا المقال، وكل ذلك بفضل عملنا وعمل الشركات الأخرى التي حصلت على تصريح للقاحاتها أيضاً.
هذه قصتنا باختصار. لكننا نؤمن بأن القصة الأطول تستحق أن نرويها نظراً لما تعلمناه في كل خطوة منها. كان الأمر عبارة عن تحدّ مستحيل يتطلب التفكير خارج الأطر النمطية والتعاون بين الشركتين والتحرر من البيروقراطية، والأهم هو بذل جميع العاملين في شركتَي "فايزر" و"بايونتك" جهداً كبيراً لتحقيق ما أنجزناه في عام 2020. يمكن لجميع المؤسسات على اختلاف أحجامها وقطاعاتها استخدام هذه الاستراتيجيات من أجل التوصل إلى حلول لمشكلاتها وإنتاج عمل مهم يفيد المجتمع.
عقلية تضع المريض أولاً
بوصفي طبيباً بيطرياً حائزاً على شهادة الدكتوراه في التكنولوجيا الحيوية للتكاثر، انضممت إلى شركة "فايزر" في عام 1993 لأستلم دور المدير التقني في قسم صحة الحيوان في بلدي الأم، اليونان. وارتقيت إلى عدة مناصب في عدة دول أوروبية وصولاً إلى منصب رئيس المجموعة المشرفة على العمليات الدولية الخاصة بوحدة العمل من مقر الشركة في الولايات المتحدة. في عام 2014، أصبحت رئيس مجموعة المؤسسات الدولية للقاحات والأورام والرعاية الصحية الاستهلاكية، وبعدها بعامين استلمت قيادة مجموعة "فايزر إنوفاتيف هيلث" (Pfizer Innovative Health) حيث كنت مسؤولاً عن مراقبة البحث والتطوير في مؤسسة الرعاية الصحية الاستهلاكية ومجموعات العمل المختصة باللقاحات والأورام والالتهابات والأمراض المناعية والطب الداخلي والأمراض النادرة. وفي ذاك المنصب حاولت أن أعمل بعقلية المستثمر صاحب رأس المال أو مدير الأموال في شركة أسهم خاصة، وتبني أسلوب تخصيص أكبر الاستثمارات لأفضل الأفكار. وفي شهر يناير/كانون الثاني من عام 2018، حصلت على ترقية إلى منصب الرئيس التنفيذي للعمليات، وبعدها بعام واحد استلمت مكان إيان ريد في منصب الرئيس التنفيذي.
وفي أثناء عملي مع شركة "فايزر" على مدى 27 عاماً، تنقلت مع عائلتي بين 8 مدن و5 دول. ونظراً لتعرفي على كثير من الثقافات وخبرتي بوصفي عالماً وعملي في أدوار متنوعة لدى شركة "فايزر"، إلى جانب نشأتي في اليونان، كنت معداً لاستلام مسؤولياتي الجديدة. إذ تعلمت منذ صغري أن أدافع عما أؤمن بأنه صحيح وألا أستسلم أبداً.
وعلى مدى أعوام مسيرتي المهنية كنت أركز دائماً على مستهلكي منتجاتنا من الحيوانات ومن يعتنون بها والمستهلكين عموماً، وشجعت المؤسسة بأكملها على تبني نفس العقلية التي تضع المستهلك أولاً عن طريق قياس النتائج وفقاً لعدد الأشخاص أو الحيوانات التي تمت خدمتها، لا عدد العقاقير التي تم بيعها. وهذا يشمل قيادة العمل على إنشاء "مجموعة التأثير على المرضى والصحة" (Patient and Health Impact Group) المخصصة لرفع مستوى الابتكار وزيادة إمكانية الوصول إلى المستهلكين.
وعندما استلمت منصب الرئيس التنفيذي في شركة "فايزر"، كانت الشركة في وضع جيد، إذ نجح سَلَفي إيان في تجاوز موجة خسائر الإيرادات الكبيرة التي نتجت عن انتهاء مدة الاحتفاظ بحق براءة اختراع المنتجات. ربما كان الأهم هو أنه تمكن من تحويل قسم البحث والتطوير، ليرتقي من مستواه الذي كان متدنياً ويصبح أحد أبرز أقسام البحث والتطوير في القطاع. ففي أثناء فترة ولايته تمكن من الحصول على تراخيص لأول عقار مثبط لإنزيم الكيناز المعتمد على السايكلين (CDK inhibitor) المستخدم في علاج سرطان الثدي وأول عقار مثبط لإنزيم كيناز جانوس "جاك" (JAK inhibitor) المستخدم في علاج عدد من أمراض المناعة الذاتية، كما توسعت الشركة من العمل على تصنيع لقاح واحد إلى تصنيع عدة لقاحات وبيعها وأصبحت تملك مساراً قوياً لصناعة اللقاحات.
رغبت في إضافة نجاح جديد على هذا النجاح عن طريق التركيز على العلوم والمرضى. وكي نصل إلى المستوى التالي، كان ضرورياً أن نعثر على محور تركيز أفضل لمؤسساتنا الصحية الاستهلاكية وشركة "أبجون" (Upjohn)، واستكمال مجالات خبراتنا عن طريق شراء ابتكارات متطورة مثل علاج السرطان المستهدف والعلاج الجيني المستهدف. وكان ضرورياً أن نركز على جميع أصحاب المصلحة وليس المساهمين فقط كي نتمكن من خلق قيمة طويلة الأجل، فعلقنا صوراً لمرضى على جدران أبنيتنا في جميع أنحاء العالم كي نجعلهم محوراً لتركيز كبار مسؤولينا التنفيذيين وموظفينا. وأخيراً، كان علينا أن نجعل شركتنا عصرية أكثر عن طريق رقمنة البيانات في جميع أجزاء سلسلة القيمة.
ومن أجل تحقيق ذلك قمنا بتقوية فريق القيادة، فأدخلنا ليديا فونسيكا كرئيسة تنفيذية للتكنولوجيا والتحول الرقمي من أجل توسيع قدراتنا الرقمية وتطويرها، وأنجيلا وانغ كرئيسة مجموعة لوحدة الصناعات الدوائية الحيوية من أجل إعادة تخيل نموذج طرح المنتجات في الأسواق، وبايال ساهني كرئيسة تنفيذية للموارد البشرية من أجل تحفيز ثقافة الشجاعة والتفوق والمساواة والمرح، وبيل كارابيتزي كنائب تنفيذي للرئيس من أجل تحويل خدمات شركتنا. وما بين شهري يونيو/حزيران من عام 2019 وأبريل/نيسان من عام 2020 أضفنا 4 أعضاء جدد إلى مجلس الإدارة يتمتعون بخبرة علمية أو خبرة في الأعمال الدولية، وهم: سو ديزموند هيلمان، التي كانت الرئيسة التنفيذية في مؤسسة "بيل ومليندا غيتس فونديشن" ومسؤولة تنفيذية سابقة في شركة "جينينتيك"، وسوزان هوكفيلد وهي متخصصة في علم الأعصاب ورئيسة فخرية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وسكوت غوتليب وهو طبيب وكان مفوض إدارة الغذاء والدواء سابقاً، وجيمس كوينسي وهو رئيس مجلس الإدارة في شركة "كوكاكولا" ورئيسها التنفيذي.
انتشار الجائحة
رصدنا مرض كوفيد-19 لأول مرة في شهر يناير/كانون الثاني من عام 2020 عندما بدأنا نسمع عن إصابات شديدة ووفيات بمرض تنفسي في مدينة ووهان الصينية. ولفت هذا الأمر انتباهنا على اعتبار أن شركتنا تستثمر بكثرة في الأبحاث حول الأمراض المعدية ولقاحاتها. وبحلول شهر فبراير/شباط من عام 2020، أصبح جلياً أن هذا الفيروس سينتشر في الكثير من أجزاء العالم، وعلمنا أنه من الضروري أن يكون لشركة "فايزر" دور محوري في إيقافه.
كنا قد بدأنا بالفعل العمل مع شركة "بايونتك" لتطبيق تكنولوجيتها الأساسية، أي الحمض النووي الريبي المرسال "رنا المرسال" (messenger RNA)، على لقاحات الإنفلونزا. عادة، يبدأ صنع اللقاحات بتنمية نسخ ضعيفة من الفيروس، وهو أمر يستغرق عدة أشهر. ولهذا السبب استغرق صنع لقاح النكاف 4 أعوام ليتم توزيعه في الستينيات من القرن الماضي، علماً أنه يعتبر واحداً من أسرع اللقاحات التي تم تطويرها فيما مضى. في حين أن اللقاحات القائمة على تكنولوجيا "رنا المرسال" يتم تطويرها صناعياً باستخدام الشفرة الجينية لمسببات المرض، وهو أمر يمكن القيام به بسرعة أكبر بكثير.
أوغور شاهين وزوجته أوزليم توريتشي هما العالمان اللذان يعملان في فريق شركة "بايونتك"، وتوصلا على الفور إلى طريقة تطبيق تكنولوجيا "رنا المرسال" على لقاح كوفيد-19 وبدءا العمل على ذلك مع فريقهما. في الأول من شهر مارس/آذار اتصلا بكاثرين جانسن رئيسة فريق البحث والتطوير الخاص باللقاح لدينا، ليسألاها عما إذا كانت شركتنا مهتمة بمشاركتهما في اختبار اللقاحات المرشحة التي عملا على إعدادها، وكان عددها 20 لقاحاً. بالطبع هي مهتمة! كانت المشكلة الوحيدة هي أنه لم يسبق لأي لقاح قائم على تكنولوجيا "رنا المرسال" أن حصل على ترخيص للاستخدام الطبي.
وعندما بدأنا العمل التعاوني فيما بيننا كان المرض قد انتشر، وفي 11 من شهر مارس/آذار، أعلنت منظمة الصحة العالمية عن تسميته بالجائحة. وفي 13 من شهر مارس/آذار، كنا قد بدأنا بتحويل عملياتنا إلى النموذج الافتراضي التزاماً بإجراءات التباعد الاجتماعي المتبعة في جميع أنحاء العالم، وطرحنا خطة من 5 نقاط لتوجيه شركتنا والشركات الدوائية الكبيرة الأخرى في جهودنا التعاونية للتغلب على فيروس كورونا. اقترحنا أن نتشارك الرؤى والأدوات، كنماذج الفحص الفيروسي والنماذج الأخرى إلى جانب البيانات والتحليلات المشتركة؛ ونحشد موظفينا ومنهم المختصون في علم الفيروسات وعلم الأحياء والكيمياء والأطباء وخبراء الأوبئة وغيرهم؛ ونتشارك خبرات تطوير العقاقير مع شركات التكنولوجيا الحيوية الأصغر كما فعلنا مع شركة "بايونتك" من أجل مساعدتها على تجاوز تعقيدات الإجراءات الطبية والرقابية؛ ونقدم قدرات التصنيع لأي علاج أو لقاح يحصل على الترخيص؛ ونتواصل مع الوكالات الفدرالية من أجل بناء فريق من العلماء مختص بالاستجابة السريعة للأوبئة المستقبلية.
بحلول شهر فبراير/شباط من عام 2020، أصبح جلياً أن هذا الفيروس سينتشر في الكثير من أجزاء العالم، وعلمنا أنه يجب أن يكون لشركة "فايزر" دوراً محورياً في إيقافه.
في 16 من شهر مارس/آذار، اجتمع كبار مسؤولينا التنفيذيين واتفقوا على أن الوقت قد حان للعمل على تطوير هذا اللقاح بالتعاون مع شركة "بايونتك" إلى جانب تطوير علاج لمرض "كوفيد-19"، حتى وإن عنى ذلك إنفاق مبلغ يصل إلى 3 مليارات دولار. للعلم فقط، قد يستغرق برنامج تطوير اللقاحات 10 أعوام وتتراوح كلفته ما بين مليار دولار وأكثر من ملياري دولار. لم نرغب في أن يكون قرارنا مدفوعاً بالحاجة إلى الإيرادات المالية فحسب، بل كان إنقاذ الأرواح في أقرب وقت ممكن على رأس أولوياتنا.
ضغطت على الفريق ليعمل على تحضير اللقاح بحلول الخريف، أي عندما كان ارتفاع عدد الإصابات من جديد متوقعاً. كان الجميع يعلم أن هذه مهمة ضخمة وقد يكون تحقيقها مستحيلاً، لكن كنا جميعاً نعلم أننا مجبرون على السعي لتحقيقها.
بدء العمل
وقعت شركتا "فايزر" و"بايونتك" خطاب الإعلان عن النوايا في اليوم التالي، التزمت فيه الأخيرة بدمج تكنولوجيتها "رنا المرسال" في أبحاثنا وتنظيمنا وأعمال التصنيع وقدرات التوزيع لدينا، على أن نبحث في التفاصيل المالية لاحقاً. كان الوقت عاملاً أساسياً. لذلك قررنا العمل على عدد من اللقاحات المرشحة بالتوازي بدلاً من اختبار اللقاحات الواعدة واحداً تلو الآخر كما كان معتاداً، وكان ذلك ينطوي على مخاطرة مالية لكنه سيولد النتائج بسرعة أكبر. كما رفضنا التمويل الحكومي كي نحرر علماءنا من البيروقراطية ونحميهم من تباطؤ العمل غير الضروري.
بدأت مجموعة مشروع لقاح كوفيد-19 بعقد الاجتماعات عبر منصة "ويبيكس" أيام الاثنين والخميس، إلى جانب الاجتماعات الظرفية. وبحلول يوم 12 أبريل/نيسان قلصنا مجموعة اللقاحات المرشحة من 20 إلى 4 فقط على أساس علامات الكفاءة الجزيئية التي ظهرت في المختبر وعلى فئران التجربة. عادة، نجري الاختبارات على حيوانات أكبر قبل البدء بمرحلة الاختبارات على البشر التي تحتاج إلى ما بين 20 و100 مشارك وتستمر عدة أشهر، لكن نظراً للحالة الطارئة تمكنّا من الحصول على الموافقة من هيئة الغذاء والدواء الأميركية والهيئة الرقابية الألمانية المتمثلة بمعهد باول إرليخ (Paul Ehrlich Institute) للقيام بهذه التجارب بصورة متزامنة. وحصلنا أيضاً على الموافقة على طلب غير مسبوق لدمج تجارب المرحلة الثانية (التي تشمل مئات العينات الخاضعة للتجربة على مدى فترة تتراوح بين عام و3 أعوام).
بدأنا تجارب المرحلة الأولى في 23 من أبريل/نيسان، حيث تلقت مجموعة صغيرة من المتطوعين في ألمانيا الجرعات الأولى، وبدأنا بجمع البيانات عن كفاءة اللقاحات المرشحة الأربعة: هل حفز اللقاح استجابة في الجهاز المناعي؟ هل تسبب بأعراض جانبية خطيرة؟ وبحلول شهر مايو/أيار، قلصنا خياراتنا إلى لقاحين اثنين وبدأنا التجارب عليهما في الولايات المتحدة بجرعات متفاوتة.
وكانت النتائج الأولية واعدة، ولاحظنا أن اللقاحين كليهما يحتاجان إلى جرعتين بينهما فاصل زمني يصل إلى 3 أسابيع، لكننا لم نتمكن من تحديد الأفضل منهما على الفور. وأخيراً، في 23 يوليو/تموز، علمنا أنه على الرغم من أن اللقاحين كليهما يبدوان قادرين على توليد استجابة مناعية قوية، فإن أحدهما يتسبب بآثار جانبية أقلّ، كالحمى والقشعريرة. وأخبرنا إدارة الغذاء والدواء في اليوم التالي أننا حددنا اللقاح الذي سينتقل إلى المرحلة التالية التي سندمج فيها تجارب المرحلتين الثانية والثالثة.
وفي هذه الأثناء، كان فريق التصنيع بقيادة مايك ماكديرموت رئيس مجموعة التوريد الدولية يعدّ العدّة لتسليم عشرات آلاف الجرعات التجريبية ومئات ملايين الجرعات النهائية في العالم بمجرد أن يصبح اللقاح جاهزاً. لم يسبق لشركة "فايزر" إنتاج لقاح بتكنولوجيا "رنا المرسال"، لذلك كانت بحاجة إلى بعض المعدات والعمليات الجديدة. فقمنا بشراء آلات جديدة لصياغة الحمض النووي الريبي المرسال وركبناها في معاملنا، بدءاً من ميشيغن وماساتشوستس وصولاً إلى بلجيكا، وابتكرنا أساليب جديدة لتسريع نتائجنا النهائية، بدءاً من التخزين في حقائب تستخدم مرة واحدة بدلاً من الصناديق الفولاذية وصولاً إلى حلول النقل والتخزين المبردين. واجهتنا مشكلة واحدة كبيرة متمثلة في أنه من الضروري تخزين جميع اللقاحات المرشحة في حرارة أدنى من الصفر للحفاظ على استقرارها وفاعليتها، فبدأ مهندسونا العمل على صنع صناديق حرارية للشحن والتخزين تتسع لآلاف الجرعات من أجل إرسالها إلى المستشفيات والمراكز الطبية وأعدوها بالفعل بحلول شهر يوليو/تموز، وزودوها بأجهزة قياس لدرجة الحرارة يمكن مراقبتها عن بعد وأجهزة تتبع قائمة على نظام تحديد المواقع (GPS).
وما أن حددنا اللقاح النهائي، بدأنا بإنتاجه بصورة استباقية معتمدين على التجارب الناجحة، وبحلول شهر سبتمبر/أيلول، كان لدينا 1.5 مليون جرعة جاهزة ومجمدة ومعدة للشحن، لكن لو فشل اللقاح كنا سنضطر لإتلافها جميعها بالطبع.
على الرغم من المجهود الكبير الذي بذله علماؤنا وفرق التصنيع في سبيل إنهاء العمل وفق الجدول الزمني المعجّل والضغوط السياسية والشخصية الهائلة التي تعرضنا لها جميعنا، فقد كنا ندرك أمراً واحداً بوضوح، وهو أننا لن نتمكن من التحرك إلا بالسرعة التي يسمح بها العلم. في إحدى مكالماتي مع أليكس غورسكي رئيس مجلس إدارة شركة "جونسون آند جونسون" ورئيسها التنفيذي، اتفقنا على البدء بتوقيع تعهد يشمل القطاع كله باتباع الإجراءات العلمية ومعايير الأمان الصارمة في بحثنا الجماعي لصنع لقاح كوفيد-19. وقررنا إشراك جميع الشركات التي كانت تعمل على تطوير اللقاح، فاتصلت بنصفها واتصل أليكس بالنصف الآخر، وفي غضون 48 ساعة وقعت 7 شركات أخرى للصناعات الدوائية الحيوية على التعهد. كانت السرعة عاملاً حاسماً، لكن ليس على حساب الالتزام بالدقة العلمية.
حقائق وبيانات مالية:
فايزر
بطبيعة الحال فإن شركة "فايزر" هي شركة ضخمة تضم قرابة 79,000 موظف وحاضرة فيما يزيد عن 125 دولة، ولديها كثير من الأمور التي تشغلها إلى جانب لقاح كوفيد-19. كانت بعض مجموعات البحث الأخرى لدينا تعمل بجدّ على صنع علاجات تساعد على تخفيف أعراض الإصابة بفيروس كورونا، وشملت هذه المبادرات تطوير مركّبات مضادة للفيروس ودراسات على تفاعل كوفيد-19 مع التهاب الرئة واستخدام عقار أزيثرومايسين.
وفي حين كانت مجموعة العمل على اللقاحات في شركتنا منشغلة بصنع لقاح كوفيد-19، استمرت بالعمل على صنع لقاحات لأمراض منهكة أخرى، مثل الفيروس المخلوي التنفسي والتهاب السحايا الدماغية. وعلى الرغم من أني كنت أكرّس 70% من وقتي لأعمال الاستجابة للجائحة، فقد عملنا على تعزيز وحدات العمل الخمسة الأخرى كي تستمر بجهودها المهمة التي أثمرت بالفعل. مثلاً، تمكنت مؤسسة الصناعات الدوائية الحيوية من رفع إيرادات الشركة بنسبة 7% على أساس تشغيلي في أثناء الأشهر التسعة الأولى من العام.
تمت تصفية البيانات ببطء في بداية فصل الخريف، وكان علينا تجنيد مزيد من المتطوعين لتجربة اللقاح والذهاب إلى المناطق التي كانت تشهد ارتفاعاً كبيراً في أعداد الإصابات. وبحلول شهر نوفمبر/تشرين الثاني، مرض 94 شخصاً فقط من أصل 43,538 متطوعاً ممن أعطيناهم اللقاح المرشح واللقاح الوهمي، ما أثار اهتمام المراقبين المستقلين الذين زفوا إلينا هذه الأخبار السارة في 8 من نوفمبر/تشرين الثاني. كان جميع الذين أصيبوا بمرض كوفيد تقريباً من مجموعة المتطوعين الذين أعطيناهم اللقاح الوهمي؛ أما مجموعة اللقاح المرشح فقد كان المتطوعون فيها محميين من المرض بصورة كاملة على الرغم من احتمال تعرضهم للفيروس. وما أن قدمنا البيانات إلى الجهات التنظيمية وحصل اللقاح على الترخيص، أصبح بالإمكان البدء بتوزيعه أخيراً.
كانت المملكة المتحدة هي أول الدول التي سمحت باستخدام لقاحنا، وتلقت مارغريت كينان أول جرعة في 8 من ديسمبر/كانون الأول من عام 2020، ثم تبعتها الولايات المتحدة، وكانت ساندرا ليندزي أول أميركية تتلقى اللقاح في 14 من ديسمبر/كانون الأول. واجهنا بعض الصعوبات، لا سيما في تأمين المواد الخام، لكننا استطعنا إنتاج 74 مليون جرعة ووزعنا أكثر من 45 مليون جرعة بحلول نهاية عام 2020، وكنا نستعد لإنتاج أكثر من ملياري جرعة في عام 2021.
الدروس المستفادة
ما الذي تعلمناه في شركة "فايزر" في عام 2020 المحموم؟
أول وأهم درس هو أن النجاح هو وليد العمل الجماعي، فكل شخص في شركتنا وفي شركة "بايونتك" له دور مهم في تطوير لقاحنا، بدءاً من كبار المسؤولين التنفيذيين وصولاً إلى موظفي التصنيع والنقل. ولم يكن هذا النجاح سيتحقق لولا التضحيات الهائلة التي قدمها أفراد الفريق الذين تخلوا عن أيام عطلهم وإجازاتهم وقضوا شهوراً من دون رؤية أسرهم وبذلوا جهداً أكبر وعملوا ساعات أكثر من أي وقت مضى. يعجز لساني عن وصف عظمة ما حققه جميع هؤلاء الموظفين، وأنا ممتن لهم جداً.
ثانياً، من المجدي أن نضع الهدف أولاً، إذ لم يتحقق الأثر المالي الإيجابي للقاح كوفيد-19 على شركة "فايزر" إلا لأنها لم تفكر على الإطلاق بالعائد على الاستثمار، بل بدأنا العمل واضعين مهمتنا نصب أعيننا. ومع ذلك، حتى وإن لم نتمكن من تطوير لقاح فعّال بدرجة مثيرة للإعجاب وتوزيعه بهذه السرعة واسترداد تكاليفنا، فإن قرارنا بفعل الأمر الصائب جدير بكل هذا الجهد بالنسبة لي ولموظفينا وللقطاع بأكمله. يحمل القطاع الخاص مسؤولية المساعدة في حلّ أكبر مشكلات المجتمع، وإن لم يلتزم بها فلا مستقبل لأيّ منا.
كان التحدي المستحيل الذي يتماشى مع الهدف الصحيح بمثابة حافز لنا. عندما اقترحت أول مرة تطوير اللقاح في غضون 6 أشهر شكك علماؤنا بإمكانية تحقيق ذلك.
ثالثاً، كان التحدي المستحيل الذي يتماشى مع الهدف الصحيح بمثابة حافز لنا. عندما اقترحت أول مرة تطوير اللقاح في غضون 6 أشهر شكك علماؤنا بإمكانية تحقيق ذلك، لكنهم عملوا مع فريق شركة "بايونتك" وحققوا الهدف في الوقت المحدد تقريباً. وكذلك الأمر بالنسبة لمجموعة التوريد التي كلفنا أفرادها بالعثور على طرق لإنتاج ملايين الجرعات من اللقاح الذي لم يكن العمل على صنعه قد انتهى بعد ونقلها في درجات حرارة متجمدة. كانوا يعتقدون أن تحقيق ذلك غير ممكن، لكنهم توصلوا في نهاية المطاف إلى طريقة لجعل المستحيل ممكناً.
رابعاً، عندما تحدد هدفاً ضخماً، يجب أن تشجع التفكير خارج الصندوق لأنه ضروري لتحقيق هذا الهدف. فما كان ناجحاً في الماضي لن يبني لك واقعاً جديداً. في ربيع عام 2020، قدمت عدة فرق لي ولكبار القادة عدداً من الأفكار لحلّ مشكلات محددة: "لدينا الخيارات 1 و2 و3، هذا ما كنا نفعله من قبل". واصلنا طلب خيارات أخرى، وتمكن أفراد الفرق من التوصل إليها بطرق مبتكرة. وبعد عدة أشهر، أصبحت هذه عادة لديهم، وأصبحوا يعقدون جلسات لتوليد الأفكار حول الخيارات من تلقاء أنفسهم.
ثمة عامل خامس ساهم في نجاحنا، وهو أننا عزلنا علماءنا عن المخاوف المالية وحررناهم من البيروقراطية الزائدة. تقبل مجلس إدارتنا أن هذا العمل ينطوي على مجازفات كبيرة، لكنه فهم أهمية النجاح فيه ومنحنا الحرية لننفق حسبما تقتضيه الحاجة، ولم يكن على موظفينا القلق بشأن أهداف الميزانية التي حددناها في عام 2019 أو تحقيق التوقعات السنوية للعائد على السهم. ولأننا لم نأخذ الأموال من الحكومتين الأميركية والألمانية، لم يكن علينا تقديم تقارير أو توضيحات بشأن قراراتنا، ولم نخضع لمراقبة أحد سوى السلطات الرقابية المعهودة.
والدرس الأخير هو ضرورة تبني العمل التعاوني لا سيما في الأزمات. وكما ذكرت، فقد بدأنا العمل مع شركة "بايونتك" من دون عقد نهائي. في الحقيقة، لم نتوصل إلى اتفاق بشأن تفاصيل شروط هذه الشراكة إلا بعد نهاية العام، لكننا قمنا بالاستثمارات وتبادلنا المعلومات السرية في شهر مارس/آذار لأننا عملنا معاً فيما سبق ونتبع المعايير الأخلاقية الرفيعة ذاتها ونتفق في رغبتنا بالتحرك بسرعة لنحقق أمراً ذا قيمة.
وبالمثل، شجعني ما شهدناه من مشاركة متزايدة للمعلومات والخبرات بين الشركات والدول مع تقدم الجائحة، ولو كانت علوم اليوم أبسط لتمكن كل منا من العمل بصورة مستقلة والمراهنة على أفكاره الخاصة. لكن من أجل دحر أمراض مثل كوفيد-19 والسرطان يجب علينا اعتبار أنفسنا مساهمين في نظام عمل علمي وشبكة ابتكار واسعَي النطاق، وعالم الأعمال قادر على المطالبة بذلك والإصرار عليه.
في بعض الأحيان يكون التواصل الشخصي حاسماً في هذا الخصوص. في شهر فبراير/شباط، عندما أظهرت عقاقير "ريمديسيفير" (remdesivir) التي تصنعها شركة "غلياد ساينسز" (Gilead Sciences) نجاحاً أولياً في علاج كوفيد في الصين، اتصلت هاتفياً بقائد الشركة وعرضت عليه المساعدة عن طريق مشاركة قدرات التصنيع الكبيرة التي تملكها شركتنا في الصين إذا كان بحاجة إليها، وهذا ما كان في نهاية المطاف ولكن في الولايات المتحدة. وعندما اضطررنا نحن وشركة "بايونتك" إلى إقناع شركة توريد نمساوية صغيرة نسبياً بإيقاف جميع أعمالها والتفرغ لصنع مركّب أساسي في لقاحنا، سافرت مع أوغور إلى النمسا للتحدث مع رئيسها التنفيذي وجهاً لوجه وأخبرناه أن هذه فرصته للمساعدة في إنقاذ العالم، ووافق.
مستقبل مشرق
كانت الجائحة الاختبار الأكبر لمصداقية قطاع الصناعات الدوائية وأهميته، وأرى أن القطاع نجح بالفعل وحقق انتصاراً كبيراً. وعلى الرغم من أن الجمهور كان يذم القطاع في السنوات الأخيرة ويتهمه بالتركيز على المنتجات الخاطئة والمبالغة في تسويق العقاقير غير الضرورية ورفع الأسعار والاهتمام بالمبيعات أكثر من اهتمامه بدعم المرضى، فقد أثبتنا أننا مجموعة حيوية من الشركات تملك الاستعداد والقدرة اللازمين لحشد قوة عاملة تتمتع بمواهب استثنائية وتكريس جميع الموارد الأخرى لحلّ مشكلة خطيرة تمثل مسألة حياة أو موت. تمكنت عشرات الشركات من تطوير علاجات ولقاحات فعّالة، ولا تزال شركات أخرى مستمرة في العمل على ذلك، ونحن الآن نعمل معاً للاستعداد لمواجهة الفيروس أو المرض التالي.
كما أني أرى مستقبلاً مشرقاً لشركة "فايزر"، فتكنولوجيا "رنا المرسال" قادرة على صنع ثورة في صناعة اللقاحات ونملك مع شركة "بايونتك" ميزة تنافسية فيها. أضف أن وحدات العمل الأخرى في شركتنا مستمرة بالازدهار. مثلاً، تملك مؤسسة الالتهابات والأمراض المناعية أحد أقوى مسارات تطوير مثبطات أنزيم كيناز جانوس "جاك" المستهدفة في القطاع؛ ومؤسسة الأمراض النادرة رائدة في العلاج الجيني وتعمل على 3 برامج بمراحل متقدمة؛ كما تملك مؤسسة الأورام عدداً من العلاجات الرائدة للأورام الميلانينية وأورام الثدي والبروستات وتعمل على تقديم الجيل التالي من العوامل السرطانية المستهدفة والعلاجات المناعية. ستساعد ثقافة "فايزر" التي تتبنى عقلية القدرة على العمل والتوجه نحو المهام في الارتقاء بالابتكار إلى مستويات جديدة.
على مدى مسيرتي المهنية في شركة "فايزر"، شاهدت الأعمال الاستثنائية التي يقوم بها موظفونا عندما يكون لديهم دافع قوي. لا يمكننا معرفة ما نستطيع فعله إلا عندما نواجه أصعب المهمات، وعملنا في عام 2020 هو أحدث وأعظم مثال على ذلك. لذا، عندما يقول أحد الموظفين في المرة القادمة إن القيام بأمر ما مستحيل، أتوقع من زملائه قول: "انظر إلى ما حققه فريق لقاح كوفيد-19. بما أنهم تمكنوا من النجاح في ذلك، فسنتمكن نحن أيضاً من النجاح في هذا الأمر".