ملخص: إذا انتابك شعور الملل أو عدم القدرة على تحقيق ذاتك في وظيفة كانت تمثل لك مصدراً للشعور بالرضا ذات يوم، فربما تنزلق شيئاً فشيئاً إلى حالة يسميها العلماء الاعتياد؛ أي ميل عقولنا إلى التفاعل بوتيرة تتراجع تدريجياً مع أشياء لا تتغير، بحيث يتحول ما كان مبعثاً للبهجة والمعنى في نفسك بمرور الوقت إلى مجرد شيء روتيني رتيب لا يثير فيك أي مشاعر. وهنا، يكون التنوع طوق النجاة من هذه الحالة، وهو ما يشمل حياتك العملية وحياتك الشخصية على حدٍ سواء، إذ تبين أبحاث عديدة أن الأشخاص يكونون أكثر تفاعلاً ورضا عن النفس عندما يتعلمون أشياء جديدة. وبمقدور المؤسسات تشجيع موظفيها على تنويع تجاربهم وخبراتهم، ومن ذلك أن تعمد إلى تدوير الموظفين بانتظام خلال تنفيذ مشاريع مختلفة أو بتعيينهم في مناصب جديدة. وللأفراد كذلك القدرة على الفكاك من حالة الاعتياد هذه بإيجاد فرص عمل مختلفة، أو دراسة مهارات مختلفة، أو ممارسة هوايات جديدة.
هل تشعر بعدم الرضا عن وظيفة كانت في السابق مصدراً لسعادتك ورضاك عن ذاتك؟ الأرجح أنك بحاجة إلى تغيير جذري؛ مثل العمل تحت إمرة مدير أفضل، أو ضمن فريق أكبر، أو في تنفيذ مشروع جديد، أو تولي منصب مختلف، أو ربما الانتقال إلى شركة أخرى. أو أنك ربما تنزلق شيئاً فشيئاً إلى حالة يسميها العلماء الاعتياد؛ أي ميل عقولنا إلى التفاعل بوتيرة تضعف تدريجياً مع أشياء لا تتغير، بحيث يتحول ما كان مبعثاً للبهجة والمعنى في نفسك بمرور الوقت إلى مجرد شيء روتيني رتيب لا يثير فيك أي مشاعر.
فأنت، على سبيل المثال، عندما تستخدم عطراً جديداً، تكتشف بسهولة رائحته المميزة في بدايات استخدامك له. ولكنك تعتاده ولا تكاد تشعر بتميزه هذا مع تكرار استعمالك له. وهو ما يحدث في أثناء مزاولتك مهام العمل وأدوارك الوظيفية، وما تشعر به فِرق العمل والشركات، وحتى من هم في مجال عمل رفيع المستوى جدير بالاهتمام. فهذه، على سبيل المثال، باحثة في مجال السرطان أمضت أعواماً في العمل على إيجاد سبل علاج جديدة، ولكن تبين لها أن إحساسها بالهدف والغاية يتضاءل، وحل الملل محله، أو هذه المراسلة السياسية التي كانت تحب تغطية الحملات الرئاسية، ولكنها الآن تمارس عملها بكل ضجر وتعب.
ومن حسن الحظ أن هناك ترياقاً ناجعاً لحالة الاعتياد هذه؛ ألا وهو التنوع. عندما تحدث تغييراً في روتين يومك المعتاد بإدراج أنشطة مختلفة، سواء داخل بيئة العمل أو خارجها، تجبر نفسك على التخلص من الاعتياد، وبالتالي رؤية الأشياء بمنظور جديد. وقد يكون ذلك في صورة ممارسة هواية جديدة، أو التعرف على زملاء جدد، أو المشاركة في أداء مهمة خارج نطاق مهامك المعتادة، أو أن تسلك ببساطة طريقاً مختلفاً إلى مقر عملك، ولكن في هذا التنويع حافز للتعلم والتغيير والتطور. وربما تجد شيئاً من المشقة في بداية اتباعك هذا النهج، ولكنه سيعود عليك بمزيد من السرور والرضا عن الذات في نهاية المطاف.
ومن أسباب أن التنويع مبعث على البهجة هو أنه يجتذبك إلى حالة تعلم، والتعلم تجربة مفيدة في جوهرها. ولنمعن النظر هنا في بحث أجراه في لندن عالما الأعصاب، باستيان بلين وروب روتليدج. فعندما طلبا من المتطوعين أن يلعبوا لعبة ما وأن يفصحوا عن مشاعرهم كل بضع دقائق، وجدا أن سعادة المشاركين عند تعلمهم أسرار اللعبة كانت أكبر من سعادتهم عند ربحهم قدراً كبيراً من المال في أثناء اللعب. وفي دراسة أخرى، وجدت أندرا جيانا وفريقها البحثي في جامعة برينستون أن من يلعبون إحدى ألعاب الكمبيوتر ويمتلكون كل المعلومات اللازمة لممارستها بدرجة مثالية لا يستمتعون بذلك على الإطلاق. فما السبب في ذلك؟ السبب هو أن الملل ينال منهم سريعاً! ولكن درجة تفاعلهم تتزايد إلى حدٍ كبير ما إن يُطلب منهم لعب لعبة جديدة تتطلب منهم تعلم أسرارها بينما يلعبونها. وعلاوة على ذلك، فعندما أتيحت لهم فرصة تغيير اللعبة، كانوا يفضلون الانتقال من اللعبة التي يعرفونها تمام المعرفة إلى تلك التي ما زالوا يتعلمونها، ويستمرون في ممارستها.
فالتغيير يفضي في الغالب إلى التعلم، ويعزز الرفاهة. وهي علاقة ظهرت جلية في بحث أجراه الاقتصادي ستيفن ليفيت من جامعة شيكاغو. فقد دعا أفراداً كانوا يفكرون في إحداث تغيير في حياتهم إلى الاستعانة بقرعة رقمية بالعملة المعدنية لحسم مسألة الإقدام على التغيير؛ بحيث تعني ظهور الصورة الشروع في التغيير؛ أما ظهور وجه العملة الذي عليه الكتابة فيعني التمسك بالوضع القائم. وعندما تابعهم بعد بضعة أسابيع، وجد أن أولئك الذين ظهرت لهم الصورة كانوا أكثر ميلاً بنسبة 25% لإحداث تغيير، والأهم أن أولئك الذين أحدثوا التغيير كانوا أسعد في المتوسط من أولئك الذين لم يتغيروا، وهو الفارق الذي استمر لستة أشهر بعد إلقاء العملة. وهو ما ينبئنا بضرورة أن يدرج الناس التغيير والتنوع في حياتهم بدرجة أكبر مما يفعلون في الواقع.
وبمقدور المؤسسات تشجيع موظفيها على تنويع تجاربهم وخبراتهم، ومن ذلك أن تعمد إلى تدوير الموظفين بانتظام في إدارات مختلفة، أو أن توكل إليهم تنفيذ مشاريع مختلفة، أو أن تطلب منهم تجربة أفكار أو أدوات جديدة. ويجري في حكومة الولايات المتحدة الأميركية أحياناً "انتداب" موظفين من وكالتهم أو إدارتهم (وكالة حماية البيئة على سبيل المثال) إلى وكالة أو إدارة أخرى (البيت الأبيض مثلاً)، ويرجع ذلك جزئياً إلى الحاجة إلى خدماتهم هناك وكذلك لأن في هذا التعيين إثراء لخبراتهم وتحسين لمستوى أدائهم عند عودتهم إلى عملهم الأساسي. وفي الأوساط الأكاديمية، غالباً ما يحصل أعضاء هيئة التدريس على إجازة تفرغ علمي كل بضع سنوات؛ أي فصل دراسي يُعفون فيه من أداء واجبات التدريس المعتادة، ويكونون أحراراً في العمل في أي مكان آخر. وخلال هذا التفرغ، قد يضعون كتاباً، أو يزورون جامعات أخرى، أو يعملون في جهة حكومية أو في قطاع بعينه، وهو ما يضفي تنوعاً على حياتهم العملية، وبالتالي يعزز لديهم الرضا المهني ويرتقي بملكات التدريس والبحث لديهم.
وحتى إن كنت لا تعمل في شركة تساعدك على تنويع حياتك العملية، فما يزال بوسعك اتخاذ خطوات تتجاوز بها هذا الاعتياد. فربما تسافر إلى مكان جديد عليك وتقضي به بضعة أسابيع، أو حتى تقرر العيش في منطقة مختلفة لفترة إذا سنحت لك الفرصة. وقد تفضل اكتساب مهارة جديدة كلياً، أو تعلم لغة أخرى، أو ممارسة هواية مختلفة، أو الالتحاق بدورة تدريبية في مجال مختلف عن مجال عملك.
وأنت تعلم الآن أن من شأن تجارب التعلم هذه أن تزيد من سعادتك. ولكن هذا ليس كل شيء. ومع عودتك إلى عملك المعتاد، سوف تتناوله من منظور مختلف. وعندئذ، ربما تلاحظ في شركتك جوانب دون المستوى الأمثل وترى أن بمقدورك تحسينها (ربما في آلية صنع القرار، أو في تخطيط مساحة العمل، أو في مرات انعقاد اجتماعات فرق العمل). ويمكنك كذلك إعادة اكتشاف جوانب إيجابية لم تعد تنتبه إليها بسبب اعتيادها (مثل حسن سلوك زملاء العمل أو تلك الإطلالة الجميلة عبر نافذة مكتبك).
والأرجح أيضاً أن يكتسب تفكيرك في عملك الفعلي وتنفيذه صبغةً ابتكارية أعمق، فيثمر ذلك نتائج أفضل. وخلال عقود قليلة مضت، على سبيل المثال، درس اقتصاديون وباحثون قانونيون وقادة أعمال جوانب علم النفس، ونتيجة لذلك، أضحوا قادرين على التعامل مع مشاكل طالما كانت قائمة، مثل كيفية تشجيع السلوك المسؤول، بأساليب أكثر إبداعاً مقارنة بما كان عليه الأمر قبل انخراطهم في تلك الدراسات.
ونحن بدورنا جربنا التنويع في حياتنا الخاصة. التحقت تالي بدورة تدريبية في الإخراج السينمائي، وكانت تجربة ممتعة وثرية، وكذلك مهدت لها الدرب إلى باب معرفة جديد (طريقة بناء القصص، على سبيل المثال) ساعدها في مجال التواصل العلمي. ووجد كاس أن فترة انتدابه في الحكومة الأميركية غيّرت نهجه في الكتابة والتدريس الأكاديمي، بعد أن اكتسب منظوراً جديداً في التعامل مع الواقع العملي والقيود المؤسسية التي تعوق التغيير.
ولا ريب في أن التنويع مسعىً لا يخلو من مشقة، ولكن ثماره مفيدة مبهجة. أو كما قالت المغنية شيريل كرو: "قد يفيدك أن تتغير".