عملت مرة في مجلس إدارة أحد المؤسسات غير الربحية مع مجموعة من السيدات والرجال الذين أكنّ لهم تقديراً كبيراً. كانت اجتماعات مجلس الإدارة متعة مستمرة. وحتى المؤتمرات الهاتفية كانت فرصة للمشاركة العفوية والتواصل الشخصي وحلّ المشاكل بإنتاجية. كانت بيئة مثالية. لكن دوام الحال من المحال.
لدى تغيّر تركيبة المجلس، تغيرت أيضاً تجربتي. أصبح المجلس أكبر. واحتل كبار المتبرعين مقاعد في مجلس الإدارة، جالبين معهم ما لديهم من معارف وموارد مهمة إلى جانب الكثير من الغرور والسياسات. عندما كان أحد أعضاء مجلس الإدارة المتميز بكلامه الكثير يُسهب بالحديث عن نفسه بدرجة مزعجة من التفصيل، كان الآخرون ينظرون بتعجب ثم يحوّلون أنظارهم إلى حواسيبهم. وعندما كان الأعضاء الأقوياء والأغنياء يُلقون نكاتاً سخيفة تمجد ذواتهم كان الأعضاء التنفيذيون الآخرون يضحكون طويلاً وبقوة. كانت القرارات تعكس رغبات أشخاص معينين مهما كان مضمونها. وجدت نفسي أتجنب جلسات العشاء واللقاءات الاجتماعية الأخيرة وحتى أنني كنت خارج الاجتماعات أنتقد المستوى الوضيع لهذه التجربة.
لم تمض سنوات في هذا المنزلق إلا وأدركت أنّ اللوم في إحداث تغيير يقع علي مثلما يقع على غيري.
تعكف الكثير من مقالات الإدارة (بما فيها مقالات كتبتها) على تهدئة أولئك المتضايقين من أفعال الآخرين. فترى الكتّاب يخاطبونك في مقال ما بتواطؤ مستتر: يصفون أفعالاً خسيسة، ثم يغدقون عليك بالنصيحة حول كيفية إصلاح شخص ما. فتكون في ذلك إشارة ضمنية بأنني أنا وأنت أشخاص جيدون، لكن علينا أن نعرف كيف نتعامل مع أولئك السيئين.
على كل حال، لا تتوقع مني نصيحة كهذه. في ثلاثين سنة أمضيتها أتصيّد أخطاء المؤسسات، توصلت إلى أنّ من يقضون معظم وقتهم يلعنون قوى الظلام هم أنفسهم الذين نادراً ما تراهم يضيئون شمعة لهزيمته.
أنا بالتأكيد لم أكن أحسّن الأمور في مجلس الإدارة الذي كنت أعمل فيه. لكن بما أنني كنت "خبيراً" في المؤسسات، كنت ماهراً في حصر مواطن القصور ضمن المجلس. وكان بإمكاني وضع قائمة بأدلة متخفية على صراعات مستترة من أجل المكانة والسلطة والموارد.
- بناء المكانة: كنت أنكمش في مكاني لدى رؤية الآخرين يتحدثون ويتصرفون لكسب الاحترام بدلاً من بناء المؤسسة. مثلاً، استغرق أحد الأعضاء المتأخرين على الاجتماع ثماني دقائق يشرح خلالها كيف أنّ وصوله متأخراً كان نتيجة لا يمكن تجنبها للعديد من "حالات تصفية الشركات" التي كان عليه حضورها في الصباح.
- الإمساك بالسلطة: كنت أمتعض عندما يُشير زميل إلى الشخص الداعم للفكرة بدل الإشارة إلى حسناتها ذات الصلة برسالة المؤسسة. فكان الأمر أشبه بقولك: "يعتقد نجيب أنّ علينا النظر أكثر إلى شرق أفريقيا كموطن تركيزنا التالي".
- المنافسة على الموارد: أثار اشمئزازي تحويل قرارات وضع الميزانيات إلى اختبارات للولاء. "هل تفضل استراتيجية رولا القائمة على الاستدانة أم الصندوق الاستثماري لرامز؟".
يبدو أنّ السلطة والشخصية والنفوذ تنامت أيضاً بينما أصبحت رسالة المؤسسة ثانوية.
قبل 50 عاماً، توصّل عالم نفس المؤسسات فريد فيدلر الأسترالي المولد إلى اكتشاف مذهل، حيث أجرى فريد استبياناً للموظفين طلب منهم فيه أن يصفوا "زميلهم الأقل تفضيلاً" بناء على مجموعة من المقاييس: من "عدائي" إلى "داعم" ومن "غير صادق" و"صادق". استهزأ بعض الأشخاص بزملائهم الأقل تفضيلاً بأقسى النعوت القاسية، في حين قدّم آخرون آراء أكثر وضوحاً واعتدالاً. وكانت المفاجأة، وجد فيدلر أنّ قوة الانتقاد كانت تتوقف على الشخص المستجيب للاستبيان أكثر منه على الزميل. وإلى يومنا هذا، لا زالت أداة "الزميل الأقل تفضيلاً" طريقة موثوقة لدعوة الزملاء غليظي القلب للتعريف عن أنفسهم بغير دراية منهم على أنهم الأشخاص الذين يُعتبر التعامل معهم أصعب ما يكون.
ما أوضحه فيدلر (وهو ما أصبح واضحاً لي ولتجربتي في مجلس الإدارة) هو أنّ للأمر علاقة قليلة يفعله الآخرون وعلاقة أكبر بكيفية استجابتك. فسياسات المكتب واقع لا مهرب منه، وهي سياسات خطرة. وتماماً كما أنّ هناك ما يبرر الأحكام القاسية التي يُطلقها البعض على زملائهم، فإن سياسات السلطة في المؤسسات يمكنها التسبب بعائق مؤسساتي وقرارات غبية وضرر بالمسار المهني. ما أحاول قوله هو أنّ استجابتك للدسائس الحقيقية والمتخيلة على حد سواء هي التي تضخّم أو تخفف من هذه العوائق.
وتساعدك الاستجابة بنزاهة بدل تعقيد الأمور (بالانفتاح والتواصل الواضح والمباشر) لتراقب وتقلل احتمال أن تكون مساهماً في المشكلة.
مبدأ الانفتاح
يقوم السلوك السياسي على افتراض عدم الثقة. مثلاً، تقوم إحدى أعضاء مجلس الإدارة باتصالات قبل الاجتماع لتجنيد فردين مقربين ليقفا معها في إحدى القضايا. ألاحظ في الاجتماع مدى انسجام مواقفهم وأشك في مؤامرة. بعد اجتماع مجلس الإدارة، أطلب من عضو آخر في أن ينضم إلي لتناول القهوة لاستخلاص معلومات، ونتحدث عمّا نشك بحدوثه في الاجتماع ونستعد في الخفاء للاجتماع التالي.
لاحظ كيف أنّ سياسات المكتب تزدهر في الخفاء. يمكننا التقليل، إن لم نقل إنهاء، الممارسات ضيقة الأفق من خلال الممارسة الماهرة للانفتاح الصادق، وذلك لأن الأنانية والتلاعب اللذان يُعتبران مبدئين أساسين في السياسة لا يمكنهما الازدهار في ظل الشفافية.
تخيل لو أنني قلت بشفافية لدى وصولي متأخراً إلى الاجتماع: "كي أجعلكم تعتقدون أنني أهم منكم، سوف أشرح الآن بإسهاب كم من المال جنيت هذا الصباح". ستفقد مناورتي تأثيرها في الحال. إذ أنّ الطريقة للتأكد بأنّ انفتاحك صادك ليس باستخدامه بل بالتمرن عليه، فيصبح الأمر عادة عندما تطبقه على نفسك، متفحصاً وكاشفاً عن دوافعك أولاً، ومن ثم على الآخرين.
عد إلى الواقع
ارتبطت بعض السلوكيات الأكثر سياسة في مجلس الإدارة لدينا بمخاوف تتعلق برئيس مجلس الإدارة. كان الموظفون يظهرون الود له في العلن لكنهم كانوا في الخفاء غاضبين من بعض سلوكياته. وقام بعض أعضاء المجلس الآخرين بتشكيل مجموعات ضغط ونشروا الشائعات خارج الاجتماعات كمناورة لتجاوز ضعفه. وبرر الجميع انخراطهم في اللعبة بالإشارة إلى صلات رئيس مجلس الإدارة بداعمين مهمين. ولعبت أنا الدور المناسب.
لاحقاً، نظرت في المرآة وأدركت أنّ سلوكي كان نسخة طبق الأصل عن أولئك الذين كنت أراهم أدنى شأناً أخلاقياً مني. لهذا، وبعد أن تقبلت الأمر بصعوبة، قررت اللجوء إلى الانفتاح الصادق، وقمت بالتغييرات التالية.
1- ابدأ من القلب
أخضعت دوافعي للتدقيق فيها. سألت نفسي: "ما الذي تقوله أفعالي عمّا أريده؟ "وما الذي أريده فعلاً؟" أظهر سلوكي أنّ غروري وسمعتي ومنصبي أصبحت أموراً أكثر أهمية لديّ من رسالة مؤسستنا. عزمت على تغيير ذلك. أردت أن أكون رجلاً أقدّره، وأقدم مساهمة للرسالة التي أقدّرها. فأصبحت عند ذلك جميع الاعتبارات الأُخرى ثانوية.
2- ابتعد عن التآمر
أولاً، ألغيت كل ما كنت أضمره من مؤامرات مع الموظفين ومجلس الإدارة. وأعلمتهم أنني لم أكن أحب الطريقة التي تصرفت بها، وأنني أردت أن أكون صادقاً مع رئيس المجلس حيال هواجسي. وطلبت الإذن لسرد هذه الهواجس. عندما رفضوا منحي الإذن، أخبرتهم أنني أنوي مشاركة ما تراكم لدي من آراء، بما في ذلك آراء ربما يكونون هم شاركوها معي. وحرصت على استمرارية التزامي الجديد بالإعلان عن أنّ قاعدتي الجديدة ستكون: "إذا أقنعتني بشيء فعليك الافتراض أنني سوف أعمل بمقتضاه". لن اشترك بعد الآن مطلقاً في محادثات لا تنطوي على تحمل للمسؤولية.
ثانياً، انفتحت على رئيس مجلس الإدارة. جلست معه في اجتماع منفرد وطلبت منه الإذن لمشاركة بعض الآراء الحساسة. أجاب بقبول مبدئي. وصفت له السلوكيات التي كانت تقوّض رسالتنا وصحة مؤسستنا. عبّرت عن امتناني الصادق لتأثيره على رسالتنا. ثم ختمت بمشاركة رأيي بأنّ الاستقالة سوف تكون تعبيراً صادقاً عن أنه يقدّم التزامه بالرسالة على غروره. لم أكن مرتاحاً في البداية عندما بدأت الكلام، لكن الثقة تنامت لدي عندما ربطت ما أقوله بمعتقداتي.
3- حاول قيادة الاجتماع
أصبحت قاعدتي الجديدة في اجتماعاتنا "سأتحدث بما يعبّر عن تصرفاتي". بعبارة أُخرى، إذا بدأت الأفكار أو الأحكام أو المشاعر تظهر بجلاء في سلوكي، فسوف أراجع حدسي وأعلن ما أشعر به على الملأ. تصرفت كما لو كنت المؤسس الشريك لاجتماعاتنا بدل كوني ضحيتهم. وعندما كان يحدث تماس بين أعضاء المجلس، كنت أطالب بتركيز الانتباه على ما كان يحدث وأطلب بتهذيب من العضو أن يعود إلى الموضوع. وعندما بدا أننا كنا نناقش موضوعاً حساساً، كنت أجد طريقة ذكية للفت الانتباه لضرورة تجنبه. ومع أنني كنت أُلقي أحياناً ملاحظات معارضة وبعدها يستمر الاجتماع في مساره، لكن الحاضرين كانوا في معظم الأحيان يتفقون مع تعليقاتي كما لو كانت تعبّر عن معاناتهم.
بدأت الأمور تتحسن. استقال رئيس مجلس الإدارة. لكن مودتنا السابقة حل مكانها جمود جليدي. لم يعد هناك ذلك العالم المثالي. لكن بدأت المؤسسة على أية حالة تقوم بتحركات جريئة أكثر تماشياً مع رسالتها. وبدأت أنا أصبح أكثر تفاعلاً مع الرسالة، كذلك فعل الآخرون.
يمكن القول أننا نصبح متورطين في المناخ السياسي الذي نمقته عندما نشارك فيه بدل مواجهته. والخطوة الأولى نحو التعامل مع السياسة في المكاتب تكون بإجراء تفحّص ذاتي. فمن غير المعقول توقع أن تتصرف مؤسسة بمستوى من الأخلاق أعلى من المستوى الذي تتمسك به أنت نفسك.