تُعتبر المواضيع التي اجتذبت مناقشات إدارةالمواهب بشكل مكثف قليلة أكثر مما فعل موضوع اكتشاف القدرات الكامنة. وأثّر هاجس التنبؤ بمن يكون نجم المستقبل أو القائد الأعلى التالي في الشركة على البحوث الأكاديمية وممارسات الموارد البشرية على حد سواء. ولكن إلى أية درجة نحن جيدون في تقييم القدرات البشرية الكامنة؟ الجواب هو: الأمر ضبابي. فمن ناحية أولى، منحنا العلم أدوات صلبة ونظريات قوية لقياس المؤشرات الرئيسية للنجاح المهني والأداء الوظيفي، والفعالية القيادية في المستقبل. ومن ناحية أُخرى، في عالم العمل الحقيقي، ما تزال الممارسات التنظيمية متخلفة، إذ نجد أنّ 40% من المعيّنين بالأصل على أنهم موظفين ذوي إمكانيات عالية لا يبلون بلاء حسناً في المستقبل، كما نرى أنّ واحداً من كل مديرين قياديين يُعتبر مخيباً للآمال، أو خارجاً عن سكة النجاح أو فاشلاً في إظهار مستويات عالية من المشاركة والأداء الجماعي.
يمكن القول أنّ السبب الرئيسي وراء هذه الحالة القاتمة هو أنّ السياسة التنظيمية للشركات تؤثر سلباً على ترشيحات الموظفين الذين يُنتظر منهم أن يكونوا ذوي إمكانات عالية مستقبلاً. ولكي نكون أكثر دقة، يمكننا القول أنّ هناك ست ديناميكيات تمنع الشركات من تحديد وتعزيز وتطوير الأشخاص المناسبين لأدوار قيادية، وهي:
سياسة الحدس
يكمن السبب الرئيسي لفشل برامج اكتشاف الموظفين الواعدين بإمكانات كامنة عظيمة في عدم الاعتماد على العلم، إذ بدونه يستحيل تقريباً تقييم الإمكانات. يحبّ الناس حدسهم ويثقون به، ولكن عندما تعتمد تقييماتنا على أحكام مستندة إلى الحدس، فإنها تكون جاهزة لتضيع في غياهب المجهول من خلال التحيز والاتجاهات السياسية الخفية. تعتمد معظم الشركات على الرأي الشخصي لقائد الشركة لتحديد الإمكانيات النسبية للمرشحين، ولكن لا يستطيع القادة عادة قياس الأداء بموضوعية، وحتى عندما يكونون قادرين على القيام بذلك، فإنهم يميلون إلى التركيز على الأداء السابق، وهو ليس مؤشراً جيداً للأداء المستقبلي عندما يتغير السياق المحيط والدور المطلوب. على سبيل المثال، لا يُعتبر غالبية الأفراد المساهمين بقوة في دفع عجلة الأمور في الشركات (أي الخبراء التقنيين) مدراء جيدين، كما أنهم لا يستمتعون بإدارة الآخرين.
سياسة المصلحة الذاتية
عادة ما يكون أولئك المسؤولون عن اكتشاف الإمكانات الواعدة أكثر اهتماماً بمسيرتهم المهنية شخصياً دون غيرهم، ويميلون إلى إدراك التكلفة الشخصية الباهظة التي يمكن أن يدفعوها إذا نهضوا بالأشخاص الذين يمكن أن يصبحوا أحد الركائز الأساسية في الشركة، خاصة عندما يكون هؤلاء الأشخاص أفضل من هؤلاء المسؤولين. على سبيل المثال، يرأس سامح (وهذا ليس اسمه الحقيقي) قسم البحث والتطوير في شركة دوائية خاصة. وهو يسير وفقاً للبيانات ويحدد أهدافاً واضحة لفريقه. ومع ذلك، عندما طُلب منه تسمية نجومه الصاعدة، اتخذ قراراً واعياً باستبعاد صاحبة الأداء الأعلى، لمى. ولمى هي موردة مساعدة لا مثيل لها بالنسبة إلى سامح، ولكن ترشيحها لتكون شخصاً واعداً من خلال ما تملكه من إمكانات من شأنه أن يزيد احتمال حصولها على منصب أعلى وتترك فريقه، ما قد يجبر سامح للقيام بكل العمل بنفسه. وعلاوة على ذلك، يستمتع سامح بصحبة لمى، لذلك فهو لا يريد لها أن تترك فريقه، فحتى لو كان بديلها على قدم المساواة معها من حيث الإنتاجية، إلا أنه سيفتقد إلى لمى. وماذا لو ساعدت هذه الترقية في إطلاق المسيرة المهنية للمى إلى حد خطف الأضواء من سامح؟
سياسة التجنّب
في بعض الأحيان، تدفع السياسة المدراء لترشيح أشخاص مزيفين لا يحملون من القدرات الكامنة شيئاً وذلك كي يتجنبوا المواقف المزعجة. على سبيل المثال، تشغل لين منصب مدير متوسط المستوى في قسم التسويق ضمن شركة برمجيات كبيرة. وهي محبوبة بشكل عام من قبل فريقها، لكنها تكافح من أجل التواصل مع من يوجه لها انتقادات سلبية. ومن جهة أُخرى نجد جواد، وهو مصمم جرافيكي طموح في فريقها، مدرك لليونة لين، وهو يستغلّ هذا الأمر في مواجهتها بشأن الترقية وزيادة الراتب. وعلى الرغم من أنّ لين ليست معجبة بشكل خاص بعمل جواد، حيث صنّفت أداءه تصنيفاً سيئاً في بعض تقاريرها، إلا أنها لا تريد الصراع، لذا قررت منح جواد ما يطلبه ويسعده. وكما هو متوقع بالطبع فإنّ زملاء جواد يعتبرونه متلاعب ومتسرع، لكنهم يقررون عدم إثارة القضية على أمل أن تقدّر لين موقفهم وتكون إنجازاتهم هي من تتحدث عنهم. ولكن للأسف، كانت استراتيجيتهم أقل فعالية بكثير من استراتيجية جواد التي أدت إلى المزيد من التقارير التي تتطاول على لين في محاولة منه للتنمّر عليها كي ترشحه للحصول على ترقية.
سياسة المحسوبية
عادة ما يختلف حجم المعلومات التي يحصل عليها القادة بشأن موظفيهم، ما يؤدي ببساطة إلى اختيار المرشح الذي يعرف المدير عنه أكبر كمّ من المعلومات عوضاً عن المرشح الأفضل، إذ أنه بعد كل شيء، "شيطان تعرفه أفضل من شيطان تتعرّف عليه". على سبيل المثال، كانت سامية شريكة في قسم الموارد البشرية في أكبر الأقسام لإحدى الشركات العملاقة لمنتجات الأطعمة. وعندما صدرت توصية بترقيتها لتكون الرئيس القادم لقسم الموارد البشرية للشركة، جاءت المعارضة من المدير العام الإقليمي، الذي قال إنه لكونه جديد على هذه المنطقة، سيحتاج إلى مزيد من الوقت "لتقييم" إمكانات سامية والتعرّف عليها بشكل أفضل. ومع ذلك، بدلاً من محاولة تقييم سامية، قرّر المدير العام ترشيح ممدوح، رئيس قسم الامتثال الذي كان يعمل معه لعدة سنوات. في بعض الأحيان، تفقد إنجازات الموظفين مغزاها إذا لم يراقبها المسؤولون عن اكتشاف الأشخاص الواعدين في المستقبل.
سياسة العمر
على الرغم من أنّه نادراً ما يتم مناقشة هذه القضية، إلا أنها تشكّل أحد العوامل الكامنة وراء السياسات الخاطئة في اكتشاف الكفاءات الواعدة في الشركات. على سبيل المثال، ينبري معظم القادة لعملية اختيار المرشحين لقيادة المبادرات الرقمية. أراد مؤسس مجموعة أعمال متنوعة إنشاء قسم من شأنه أن يتولى المبادرات الرقمية لشركاته في الهند. كانت أعمار رؤساء جميع وحدات الأعمال الأُخرى في الخمسينات بعد أن تجاوزت خبرتهم في مجال الأعمال التجارية ما يزيد على عقدين أو أكثر. وبدأ العديد منهم حياتهم المهنية مع المؤسس وأثبتوا ولائهم على مرّ السنين. كان القسم الرقمي مبادرة استراتيجية أوصت بها الشركة الاستشارية التي عملت مع المجموعة في العام الماضي. وأوصت الشركة الاستشارية بفريق من ثلاثة قادة في أوائل الثلاثينيات من أعمارهم. ولكن كان قرار المجموعة أنه من الأفضل توظيف "قائد أكثر خبرة" (شخص ما في الخمسينات من عمره أيضاً) من خارج الشركة لأن المرشحين الداخليين ربما لن يكونوا مقبولين من قبل رؤساء الأقسام الآخرين. وبطبيعة الحال، يمكن أن يؤدي السن الكبير إلى نتيجة معاكسة أيضاً. على سبيل المثال، إذا كان عمرك يتجاوز الـ40 عاماً، فمن المستبعد جداً أن يتم اختيارك في أحد برامج اكتشاف القدرات الكامنة الواعدة، كما أنّ بروز دور التكنولوجيا جعل المدراء والقادة يبدون وكأنهم أصغر سناً وأقل خبرة.
سياسة الجنس
تشير التقارير المتسربة من شركة "بي دبليو سي" إلى أنّ عدداً كبيراً من النساء يتركن العمل عندما يصبحن من ذوي الخبرة، في منتصف مسيرتهن المهنية، ويشغلن مناصب ذات مستوى مدير/مدير أول. وكثيراً ما يتجاهل صانعو القرار (الذين غالباً ما يهيمن عليهم الذكور) النساء عند اختيار الأشخاص الواعدين ليتم ترشيحهم إلى ترقية. كانت شركة خدمات تقنية نعرفها تخطط لإلغاء خط تجارة التجزئة من أولوياتها لأنه دائماً ما يعود بالخسائر على الشركة. واقترح المجلس عوضاً عن ذلك تعيين امرأة في منصب القيادة كمحاولة تجريبية. وفي غضون عامين، استطاعت سارة أن تحوّل قسم التجزئة إلى القسم الأسرع نمواً والأكثر ربحية في الشركة. ومع ذلك استمر المجلس في التقليل من شأن مساهمتها، قائلاً إنّ الوضع كان سيئاً جداً قبل استلامها منصبها لدرجة أنه لا يمكن أن يسوء أكثر لذا بدا أنه يتحسن، وكان الوضع سيتحسن بطبيعة الحال. وعمد زملاؤها للتقليل من أهمية إنجازاتها بالقول إنّ النساء يملن إلى البراعة في التسوق وأية مهمة ذات صلة به، ولكنهن غير جاهزات بما فيه الكفاية لممارسة القيادة الاستراتيجية. وبعد عام، عندما تم الإعلان عن المناصب العليا الجديدة، لم تجد سارة اسمها في القائمة. وبعد ذلك بفترة قصيرة، غادرت الشركة وأطلقت نشاطاً ناجحاً في مجال تجارة التجزئة، حيث كانت المؤسس والمدير التنفيذي.
باختصار، يمكن للسياسات المتبعة في اختيار الأشخاص الواعدين ضمن الشركات أن تمنع الشركات من رفع مستوى مواهبها القيادية وجعل القرارات التي تعتمد على البيانات شذوذاً بدلاً من أن تكون هي القاعدة. لقد رأينا في كثير من الأحيان كيف يتم تعيين المرشح المفضّل للرئيس التنفيذي من خلال تقييم شكلي ببساطة كوسيلة لتأكيد قرار سبق أن تمّ اتخاذه مسبقاً، وليس بدافع الجدارة. لا تكتفي مساعدة الناس غير المناسبين في الوصول إلى أدوار قيادية بالإضرار بأصحاب الكفاءات فحسب بل يسبب ذلك الضرر للشركة بأكملها أيضاً.