بدأ بحثنا بسؤال بسيط حول سياسات التحرش في المؤسسات حول العالم: إذا كان لدى 98% من المؤسسات في الولايات المتحدة سياسات حول التحرش، لماذا لا يزال التحرش مشكلة مستمرة ومدمرة في مكان العمل في أميركا؟ كما يتضح من العناوين الأخيرة المتعلقة بالتحرش المستمر سواء في وكالة "ناشيونال بارك سيرفيس" (National Park Service)، أو شركة "أوبر" (Uber)، أو القناة التلفزيونية "فوكس نيوز" (Fox News)، يبدو أن تلك السياسات حول التحرش، المصممة لمعاجلة المشكلة، لم تفلح في ذلك.
سياسات التحرش في المؤسسات
زودتنا مجموعتان من الأبحاث، بطريقة معقولة، استطعنا من خلالها اكتشاف العلاقة بين سياسات التحرش والنتائج الفعلية. أولاً، يجادل الباحثون، بطريقة مقنعة، أن التحرش هو جزء لا يتجزأ من ثقافة المؤسسة. وبعبارة أخرى، يؤدي التحرش وظيفة ثقافية مهمة في بعض المؤسسات. وكما يعلم أي مسؤول تنفيذي حاول قيادة التغيير الثقافي، أن ثقافة المؤسسة قد لا تكون قابلة للتغيير.
اقرأ أيضاً: لماذا تعطي برامج مكافحة التحرش نتائج عكسية؟ وكيف يمكن حل هذه المشكلة
ثانياً، تندمج ثقافات المؤسسات هذه في ثقافة وطنية أكبر يُمنح فيها الرجال، مثل العادة، امتيازات أكثر من النساء. ولا يتطلب الأمر تحليلاً عميقاً للتعرف على هذه الحقيقة. فعادةً تحصل النساء على أجر أقل، بغض النظر عن تعليمهن أو مؤهلاتهن أو عدد سنوات خدمتهن. والدليل على ذلك أننا نجد أن عدد الرؤساء التنفيذيين الذين يقودون الشركات الكبرى أكثر من الرئيسات التنفيذيات الإناث. إن طبيعة ثقافتنا الوطنية المتمحورة حول الذكور منتشرة إلى درجة أن العديد من النساء يتمركزن حولها، إذ قد ينحزن إلى الرجال للفوز بامتيازهم في أثناء محاولتهن (عادةً دون نجاح) تجنب المساحة المنتقصة التي تشغلها النساء في مكان العمل.
كل هذا يعني أنه يمكن لكل من الرجال والنساء التفاعل مع التحرش من خلال إلقاء اللوم على النساء الأخريات بسبب "إثارة المتاعب"، أو "تحمل السلوك السيئ"، أو حتى عن طريق الإيحاء بأن النساء اللاتي تعرضن للتحرش يجب أن يستقلن، دون التفكير في أنه ربما يجب على الجناة ترك المؤسسة بدلاً من هؤلاء النساء. هذه المواقف لها عواقب حقيقية. على سبيل المثال، انظر إلى قضية التحرش في "فوكس نيوز"، إذ تلقى الجناة المزعومون تسويات أكبر من الضحايا. وهكذا تُضفى الشرعية على ثقافات التحرش من خلال الاعتماد على الثقافة الأكبر التي تمنح الرجال امتيازات أكثر من النساء.
في هذا المستنقع الثقافي المشحون تدخل وثيقة حسن النية: سياسة التحرش. وسعياً منّا لمعرفة كيف فسر الموظفون هذه السياسات، أعطيت أنا وزميلي مارلو غولدستين هود 24 موظفاً في مؤسسة حكومية كبرى نسخة من سياسة المؤسسة عن التحرش، وطلبنا منهم قراءتها، ثم سألناهم التحدث عنها في مجموعات، وفيما بعد قابلناهم على انفراد.
لقد وجدنا أن الكلمات الفعلية لسياسة التحرش لا تشبه إلا القليل من تفسيرات الموظفين لها. وعلى الرغم من أن السياسة ركزت بوضوح على سلوكيات التحرش، فقد ادعى المشاركون تقريباً أن السياسة ركزت على تصورات سلوكية. علاوة على ذلك، على الرغم من أن السياسة نفسها أوضحت أن سلوكيات التحرش هي تحرش بغض النظر عن الجنس أو التوجه لمرتكب الجريمة أو الهدف، فإن الموظفين ركزوا بشكل شبه حصري على التحرش بين الذكور والإناث. هذا التحريف يبدو صغيراً ولكنه مهم. فيما يتعلق بالمشاركين، فقد كانوا ينظرون إلى السياسة على أنها تهديد، لأن أي سلوك يمكن أن يكون تحرشاً لا أخلاقياً إذا كان الموظف (عادةً يكون أنثى) غير عقلاني. وبحسب هذا السيناريو المربك إلى حد ما، يمكن للمسة بسيطة على الذراع أو تعليق بسيط لكن غير لائق على المظهر أن تعرّض الموظفين (عادةً الذكور) إلى الاضطهاد على النحو المنصوص عليه في السياسة. ونتيجة لذلك، تم النظر إلى سياسة التحرش التي تنتهجها المؤسسة على أنها غير عقلانية للغاية، وتستهدف الموظفين الذكور. غيّر الموظفون معنى هذه السياسة بحيث توضع النساء المستهدفات بالتحرش ضمن إطار الجناة، ويوضع الجناة الذكور ضمن إطار الضحايا الأبرياء.
اقرأ أيضاً: امنحوا الصلاحيات للمدراء لكي يوقفوا التحرش
لإنجاز هذا التحريف في المعنى، استند الموظفون إلى افتراضات أن المرأة غير عقلانية وعاطفية للغاية، وأن الرجال عقلانيون وأكفاء. ومن خلال هذا التشابك بين سياسة المؤسسة وثقافتها والثقافة الوطنية، عكَس الموظفون معنى سياسة التحرش، مما يجعلها أداة غير فاعلة في مكافحة السلوك العنيف في مكان العمل.
ويتجلى هنا سؤال مهم: كيف يمكن للمؤسسات مكافحة إعادة التفسير الخاطئة لسياسات التحرش؟ وتبرز أهمية هذا السؤال خاصةً عندما ندرك أن سياسات التحرش هي أسس ثابتة في معالجة السلوكيات المؤذية بنجاح.
كيفية تشكيل سياسات التحرش في المؤسسات بطريقة صحيحة
تذكر أن سياسات التحرش ليست مجرد وثائق قانونية. وإنما هي مهمة أيضاً على المستوى الثقافي، إذ إنها مستندات تفسير المعنى التي يجب أن تلعب دوراً في تعريف التحرش، والوقاية منه، وكبحه في أي مؤسسة. وتشير نتائج دراستنا إلى لغة محددة للغاية قد تكون مفيدة في سياسات التحرش:
-
ضمِّن اللغة المناسبة ثقافياً والمحمّلة بالعواطف في سياسات التحرش
تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أنه إذا لم تضف هذه اللغة، فسيضيف أعضاء المؤسسة لغتهم الخاصة بهم. على سبيل المثال، إضافة لغة مثل "التحرش هو شكل من أشكال السلوك المفترس الذي يستهدف فيه شخص ما الموظفين الآخرين" تحدِّد السلوك، بحيث تكون التفسيرات البديلة أكثر صعوبة. يمكن أن يؤدي استخدام مصطلحات مثل "المفترس" بدلاً من "الجاني"، و"الهدف" بدلاً من "الضحية" إلى تشكيل منهج يفسر من خلاله أعضاء المؤسسة السياسة. على الرغم من أن السياسات تميل إلى أن تكون مجردة من العواطف، فمن الضروري أن يدرك مصممو السياسات أن وضع السياسة هو أحد أكثر الأنشطة المحملة بالعواطف التي يُطلب من قادة المؤسسات إنجازها. ونظراً لأن التحرش هو موضوع مفعم عاطفياً، فإن وضع سياسات التحرش يصبح أكثر تحدياً على المستوى الوجداني.
-
يجب أن تتضمن سياسات التحرش تدخلات من الشهود العيان باعتبارها استجابة مطلوبة للسلوك المفترس
تضع معظم السياسات مسؤولية الإبلاغ عن التحرش حصرياً على "الهدف"، مما يضعها في وضع ضعيف. إذا أبلغوا عن السلوك، فمن المحتمل أن ينظر إليهم بريبة من زملائهم، وغالباً ما يعزلون اجتماعياً عن زملائهم في العمل. من ناحية أخرى، إذا لم يبلغوا عن التحرش، فمن المرجح أن يستمر بلا هوادة، مما يؤدي إلى إلحاق ضرر لهم، علاوةً على اضطرابات مؤسسية أوسع. إن تكليف المارة (الشهود العيان) بالتدخل يمكن أن يخفف عن "الهدف" مسؤوليته الوحيدة للإبلاغ عن السلوك المفترس وقمعه، ويضع بصدق مسؤولية خلق ثقافة مؤسساتية صحية على جميع أعضاء المؤسسة.
اقرأ أيضاً: إقناع الرؤساء التنفيذيين بجعل منع التحرّش أولوية
التحرش معقد. إذ كان الأمر عبارة عن مشكلة بسيطة تنطوي على شخصين فقط، لحللناه منذ عقود. لكن التحرش مشكلة معقدة ومتأصلة. تخبرنا نظرية النظم أن سياسات التحرش في المؤسسات والحلول يجب أن تضاهي تعقيد المشكلة. فقد أظهرت دراستنا أن كتابة السياسة معقدة. لكنها أيضاً مجرد بداية. لا توجد سياسة، بصرف النظر عن مدى صياغتها، تمنع التحرش من تلقاء ذاتها، ولن تغيِّر ثقافة التحرش. السياسة هي الخطوة الأولى التي يجب اتباعها من خلال التدريب المستمر، والرغبة في الاستماع إلى الأهداف، والاستعداد لإقالة الموظفين الذين يتنمرون لا أخلاقياً على موظفين آخرين - بغض النظر عن مدى أهمية هذا المتنمر في المؤسسة.
اقرأ أيضاً: لماذا ما زال التحرش سلوكاً سائداً وكيف يمكن للشركات وقفه؟