ذكر لي أحد الموظفين الإماراتيين في شركة حكومية، بأنه والعديد من زملائه تتم دعوتهم لحضور جلسات تدريب مع مدربين "أجانب" يتحدثون بالإنجليزية دون ترجمة. لأن الموظفين يفترض أن يعرفوا الإنجليزية بشكل ممتاز. لكنه كما قال يخرج هو والكثير من زملائه الذين يعرفهم "بنصف استيعاب" كما عبر لي. وهذا النصف استيعاب، خطير. لأنه يؤدي لمعرفة مشوهة.
وفي مثال آخر، روى لي صديق بروفيسور إيطالي يعمل مدرباً في دول الخليج، بأنه كثيراً ما يدرب موظفين وحتى طبقة المدراء المتوسطين في شركات حكومية وخاصة، ولكنه كثيراً ما يسمع منهم أنهم يريدون تدريباً بالعربي ليفهموا السياق أكثر. وكان يتحدث معي يوماً ما ليدعوني لمشاركته التدريب.
المشكلة ليست في التدريب بل في الإدارة وتنفيذ المشاريع وحتى الرعاية الصحية. عندما لا يفهم الموظفون ما يقوله المدير بشكل صحيح، أو العكس عندما يكون العمال من المتحدثين بالإنجليزية والمشرف عربي ذو إنجليزية ضعيفة. وكذلك في المستشفيات حيث تدعي المراكز الصحية أنها توفر المترجمين، لكنها في الواقع لا تقوم بذلك.
سأزودكم بقصص وأبحاث علمية من المنطقة تسلط الضوء علي هذه المشكلة المسكوت عنها.
سوء التفاهم
كثير من الشركات الخليجية، يقودها مدراء من ثقافات ولغات أخرى، ويجري التعامل بأن الإنجليزية هي اللغة الأولى للتواصل بين المدير والموظفين. ساعد على ذلك أن المدراء المتوسطين من العرب والخليجيين هم من ذوي التعليم العالي الذين اعتادوا التحدث بالإنجليزية، ما خلق لديهم تحيزاً بأن كل الموظفين من حولهم يفهمون الإنجليزية كما يفهمونها.
والقضية في الإدارة والعمل ليست مجرد أن تكون جيداً في اللغة، بل أن تفهم كل ما يقال بالسياق والسرعة والثقافة المحيطة بالموضوع.
وهكذا يتكرر المشهد ذاته: مدير أجنبي يعطي توجيهاته بلغة إنجليزية، والموظفون المحليون يهزون رؤوسهم. لكن هل فهموا فعلاً؟ في الإمارات والسعودية وقطر وغيرها من دول الخليج، يتولى آلاف القادة والمدراء الوافدين مناصب إدارية عليا، يحملون خبرات عالمية وشهادات مرموقة، لكنهم أحياناً يصطدمون بعائق غير متوقّع: التواصل البشري.
فرغم أن بيئة العمل الخليجية أصبحت دولية بطبيعتها، فإن اللغة والثقافة ما زالتا تتحكمان بجوهر العلاقة بين القائد وفريقه. وهنا تأتي أهمية دراسة من جامعة الإمارات، قدّمت نظرة ميدانية من الداخل، بعد مقابلات مع عدد من المدراء الأجانب العاملين في الدولة. كشفت عن مشكلات حقيقية مسكوت عنها في أداء العمل بسبب سوء التواصل مع الموظفين وسوء التفاهم بسبب اللغة.
السكوت ليس من ذهب
وفي السعودية تتكرر نفس المشكلة. دراسة من جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل في السعودية، دقّت ناقوس الخطر: حاجز اللغة هو العامل الثقافي الأخطر في مشاريع البناء، بمعدل خطورة (WARF) بلغ 4.21 على العمل وهو معدل خطورة كبير بحسب البحث. المشكلة ليست فقط في اللغة، بل في سوء الفهم الناتج عن اختلاف الثقافة، وضعف الثقة بالنفس، وغياب التدريب.
قطاع البناء يعتمد على عمالة متعددة الجنسيات، وغالباً ما يكون التواصل ضعيفاً، فتضيع التفاصيل بين لهجات مكسّرة وإنجليزية منقوصة. ووفقاً لمعهد إدارة المشاريع (PMI)، فإن أكثر من 55 من المشاريع لا تنجز بشكل صحيح بسبب سوء التواصل، و 40% من عمال البناء يشعرون بوجود فجوة في التواصل.
النتيجة؟ تأخير، أخطاء، وإجراءات سلامة غير مُتّبعة.
تخيل أن يسقط بناء أو تحدث مشكلة بسبب سوء التفاهم اللغوي. لا سمح الله.
لكن ما الحل؟ التدريب وحده لا يكفي. نحتاج إلى الترجمة، واستخدام أدوات توضيحية (كالرسوم)، وتمكين المشرفين من التواصل بلغات متعددة أو على الأقل استخدام لغة بسيطة ومفهومة.
في بيئة متعددة اللغات والثقافات، الصمت ليس ذهباً… بل مكلفاً وخطيراً.
إذا كنت مهتماً بمتابعة المزيد من أفكار الدكتور حمود المحمود، فإنه سيطلق قريباً نشرة بريدية موجهة للمدراء العرب والطامحين للقيادة، سجل على الرابط من هنا لتصلك النشرة عند انطلاقها.
تجارب عملية
ومن التجارب التي حاول بها المدراء الأجانب حل هذه المشكلة بحسب دراسة جامعة الإمارات، الحالات التالية:
1. المدير الذكي ثقافياً ينجح أكثر
من نجح لم يكن الأذكى أكاديمياً، بل الأذكى ثقافياً. أحد المديرين عدّل نظام التقييم الذي جاء به من الغرب، وأضاف إليه حوارات ودية قبل تسليم التقييمات. هذا التكيّف البسيط مع الثقافة المحلية زاد من تقبّل الموظفين، وفتح قنوات تواصل أكثر فاعلية.
2. كلمة "شكراً" تُحدث فرقاً في الخليج
في بيئات العمل الغربية، تُفضّل المكافآت المادية. أما في الخليج، فالكلمة الطيبة لها مفعول السحر. أحد المديرين لاحظ قفزة في أداء الفريق بعد أن بدأ باستخدام عبارات بسيطة مثل: "نثق بك"، "أحسنت". الاحترام العلني والتقدير اللفظي يشكّلان جزءاً أصيلاً من ثقافتنا.
3. اللغة قد تُفشل القرار الإداري
لكن التحدي الأكبر الذي رصدته الدراسة كان غياب التواصل الدقيق بسبب ضعف إتقان اللغة العربية. وفي قصة واقعية،تم توجيه الفريق لتنفيذ خطة ميدانية عاجلة، لكن الترجمة غير الدقيقة ضيّعت المعنى... فتأخر التنفيذ، وحدثت خسائر في الوقت والجهد.
لماذا يجب أن نهتم؟
في الخليج، حيث تُنفق الشركات والمؤسسات ملايين الدراهم على الاستشارات والتدريب الإداري، يُمكن أن تضيع هذه الاستثمارات لأن المدير ببساطة "لم يُفهم". وحين لا تُفهم القرارات، فإن الحماس يتراجع، والمبادرات تتجمّد، والعلاقات المهنية تصبح سطحية.
الحل؟ مزيج من التأقلم والتعلّم
لا أحد يطالب المدير الأجنبي أن يصبح متحدثاً فصيحاً بالعربية، لكن على الأقل عليه أن يتعلّم مفاتيح الثقافة، وأن يعرف متى تكون التشاركية أكثر فاعلية من الصرامة. كما أن المؤسسات الخليجية يجب أن توفّر دعماً لغوياً وثقافياً حقيقياً للمدراء الجدد، كي لا تتحول مهاراتهم إلى عبء بسبب "سوء الفهم".
في النهاية، القيادة ليست فقط أن تأمر وتوجّه، بل أن توصل الرسالة بوضوح… وباللغة التي يفهمها الفريق. أما في الخليج، فاللغة لا تعني فقط كلمات، بل أيضاً لهجة، واحتراماً، وإحساساً بالانتماء.
وأختم بأن الخطورة في سوء التواصل وسوء التفاهم في العمل والتي هي مشكلة خليجية لا بد أن نعترف بها، لا تقتصر على هدر الأموال لمدة 30 عاماً بسبب خطأ في الترجمة كما حدث في الكويت، حيث ظلت وزارة حكومية تعتمد معايير إنشائية خاطئة ثلاثين عاماً بسبب خطأ في الترجمة.
لكن الخطأ الأكبر عندما يصل الأمر إلى الصحة. فبحسب تقرير لصحيفة الخليج الإماراتية، يعاني 70% من المرضى من مشكلة عدم فهم الكادر الطبي والتمريضي بمعاناتهم بسبب حاجز اللغة؛ الكادر الطبي يتحدث الإنجليزية والمرضى من الإماراتيين والعرب يتحدثون العربية.