بلغ الحديث عن سن جو بايدن ذروته بعد أدائه في المناظرة الرئاسية الأخيرة، لكن الاهتمام بهذا الموضوع لم يكن مفاجئاً، وذلك نظراً لأهمية المخاطر المرتبطة به على المستوى السياسي. ومع كثرة التكهنات حول صحتي الرئيس الجسدية والعقلية، وصحة دونالد ترامب الجسدية وعمره، يطالب المراقبون بالحصول على إجابات واضحة. هل أصبح المرشحان طاعنين في السن كثيراً لدرجة تعوقهما عن القيادة؟ هل يتمتعان بالسلامة العقلية؟ هل هما قادران على القيادة بفعالية؟
قد يتناول مؤلفون آخرون المخاوف المتعلقة ببايدن وترامب بصورة تفصيلية، لكن توفر لنا المناقشات الحالية فرصة أوسع لإعادة التفكير في قضايا الشيخوخة وانتقال القيادة في مجالات السياسة والأعمال، وهي عملية يقودها كل من أصحاب المصالح المهتمين بالموضوع والقادة أنفسهم.
لكن عند طرح أسئلة حول فعالية القادة الكبار السن، بما فيها وقت تنحيهم عن القيادة، نجد أن تلك الأسئلة تركز عادة على السن الفعلية للقادة، بدلاً من التركيز على كفاءتهم وقدراتهم وإنتاجيتهم. لماذا نفترض أن بلوغ الأفراد سناً معينة يفرض عليهم التنحّي؟ إن العوامل التي تؤثر في صحة الأفراد لا تعني بالضرورة أنها ستؤثر في نتائجهم، كما أن التوقعات المتعلقة بقدرة شخص ما على القيادة تتأثر غالباً بالتحيزات العامة.
خبرة كبار السن الواسعة
يتباين الأفراد في كل مرحلة عمرية من النواحي الجسدية والإدراكية والإبداعية والإنتاجية. وبالتالي، فإن التركيز المفرط على السن يعوق التركيز على الاختلافات الفردية الأخرى ويتجلى في مجموعة من الممارسات الفظة، بما فيها التقاعد الإجباري والسن المحددة للمشاركة في مجالس الإدارة وعضويات الشراكة وغيرها.
صعوبة تجاهل ظاهرة التحيّز ضد كبار السن
أشارت الرئيسة التنفيذية لجمعية أيه أيه آر بي (AARP)، جو آن جنكنز، إلى أن التحيز ضد كبار السن هو أحد أنواع التمييز الذي لا يزال يُمارسه الناس حتى الآن، ويؤثر على كبار السن بصورة خاصة؛ ويعكس هذا التحيّز الأحكام المسبّقة ووصمات العار والافتراضات السلبية حول المواهب والكفاءة والقدرة على التكيف والقيم. وهو قائم على تفضيل الشباب والتقليل من قيمة الخبرات والتجارب التي تتراكم مع التقدم بالسن. كما ينتشر التحيز ضد كبار السن في مختلف جوانب الحياة، وتُعززه السياسات والقواعد والأعراف الثقافية في أميركا ومختلف أنحاء العالم. وعلى الرغم من السعي الجاد من المؤسسات والناشطين إلى مواجهة ظاهرة التحيّز ضد كبار السن وإثبات قدراتهم على تقديم الإسهامات وأداء المهام، فمن المحتمل ألا تُسهم المناقشات حول الرئيس بایدن بدعم هذه القضية بطريقة فعالة.
في الواقع، إن طرح شكوك حول أعمار القادة السياسيين ليس أمراً جديداً؛ على سبيل المثال، تجنّب رونالد ريغان الإجابة عن المخاوف المطروحة بشأن لياقته العقلية خلال مناظرة رئاسية مع المرشح الديمقراطي والتر مونديل عام 1984. فعندما قال أحد المشرفين: "أنت أكبر رئيس في تاريخ الولايات المتحدة" وأعرب عن شكوكه إزاء قدرة الرئيس على تجاوز أزمة تتعلق بالأمن القومي، أجاب رونالد ريغان بأسلوب فكاهي: "لن أستخدم جانب العمر سلاحاً في هذه الحملة الانتخابية، ولن أستغل حداثة عهد خصمي وقلة خبرته لأغراض سياسية". وعلى الرغم من المخاوف بشأن سن رونالد ريغان وقدراته العقلية، ساعدته مهارته في المزاح على تحقيق فوز ساحق وكسب فترة رئاسية ثانية. وبعد 10 سنوات، أعلن رونالد ريغان في بيان خاطب فيه الشعب أنه يعاني مرض ألزهايمر. لا نعرف بالتأكيد إن كانت هناك علامات واضحة على المرض في أثناء فترة رئاسته، إذ لا يزال ذلك محل جدل.
وهذا الانتقاد عادل ومحق في الواقع، إذ يتّصف بعض القادة بالأنانية، في حين يتّصف بعضهم الآخر بالنرجسية. وقد يُطيل كثيرون منهم البقاء في مناصبهم خوفاً من التغيير أو التعرض للإهمال، أو خشية اتساع الفجوة بين هويتهم الشخصية وهويتهم المهنية، أو لشعورهم بعدم القدرة على التخلي عن الحكم والسيطرة. لكن قبل أن نقترح على جميع القادة الكبار في السن بأن الوقت قد حان للتنحي عن مناصبهم، علينا تذكّر أن نيلسون مانديلا انتخبه الشعب رئيساً لجنوب إفريقيا عندما بلغ من العمل 75 عاماً، وأن وارن بافيت لا يزال يدير واحدة من أعظم شركات أميركا بعمر الـ 93 عاماً، وأن مايكل بلومبيرغ لا يزال يواصل إنجازاته في مجالي ريادة الأعمال والأعمال الخيرية بعمر الـ 82 عاماً، وأن جانيت يلين لا تزال خبيرة اقتصادية وسياسية عالمية تتمتع باحترام واسع النطاق بعمر الـ 77 عاماً، وأن ميك جاغر يقود جولة جديدة لفرقة رولينغ ستونز (Rolling Stones) بعمر الـ 80 عاماً. كيف سيكون وضع الولايات المتحدة لو لم يؤد بنجامين فرانكلين دوراً مهماً في صياغة الدستور الأميركي في عقده الثمانين؟ كان قادراً على إحداث تأثير عظيم على الرغم من معاناته إعاقات جسدية نتيجة تقدمه في العمر.
في الواقع، ترتبط القيادة بالشخص نفسه، وليس بعمره، وينبغي عدم إجبار أي قائد جيد على التنحّي بصورة عشوائية، وألا يكون السن وحدها سبباً للإقصاء.
لنكن صريحين أيضاً، فالشيخوخة هي عامل الخطورة الرئيسي للإصابة بالأمراض المزمنة والأمراض العصبية التنكسية، وقد يكون كبار السن الأكثر عرضة للإصابة بظروف صحية تهدد فعاليتهم القيادية. وعلى الرغم من أن التدهور في الصحة يحدث في أوقات متفاوتة وبطرق متباينة، يبقى أمراً لا مفر منه في النهاية. وبما أن الزمن يتغير وتتطور معه احتياجات المؤسسات، يجب أن يحظى الأشخاص الأصغر سناً بفرص للنمو. وبما أن لكل شيء نهاية في هذه الحياة، يمتلك كبار السن فرصة تسليم السلطة والاستقالة بأسلوب يحفظ ماء الوجه.
قال الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال رانجاي غولاتي لصحيفة نيويورك تايمز في وقت سابق هذا العام: "لن يعرف معظم القادة الوقت المناسب للتنحي بأنفسهم"، وإدراك ذلك يمثل تحدياً بالفعل بالنسبة للأشخاص الذين يتمتعون بالطموح والدافعية. لكن يجب ألا نضع حدوداً زمنية للقيادة؛ ويجب على القائد الجيد الذي يتساءل إن كان الوقت قد حان لنقل السلطة أن يطرح الأسئلة الآتية على نفسه: "هل ما زلت القائد الشاب نفسه؟" "هل ما زلت أتمتع بالحماس نفسه؟" "هل مهاراتي ملائمة لمواجهة تحديات المستقبل؟" "هل أريد أن تتولى الإدارة عملية الانتقال أم أن أقودها بنفسي؟"
قد تفوق فوائد الاستقالة الكريمة عواقب التمسك بالمنصب لفترة طويلة، لكن ذلك يحتاج إلى تخطيط مسبّق ودعم كافٍ. ويُدرك القائد الجيد بالفعل مواطن ضعفه وقوته، ويهتم ببناء إرث يدوم طويلاً، بدلاً من الاهتمام بالسلطة والنفوذ الفوريين، ويؤمن بأهمية التعاقب الوظيفي، ويسعى إلى تمكين الجيل المقبل، ويجد الرضا في توجيه الآخرين ومساعدتهم على تحقيق النجاح.
إن التنحّي عن المنصب لا يعني فقدان الأهمية أو التأثير، بل على العكس من ذلك، إذ لاحظ الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال، بيل جورج، أن الفرص تبقى متاحة للقادة الذين يُنهون مسيراتهم المهنية بنجاح ويتربعون على عرش إنجازاتهم، ومنها الخدمة في مجالس الإدارة، والتدريس، والتعلّم، والكتابة، وتولي مناصب جديدة في القطاعين العام والخاص، أو شغل مناصب قيادية في المؤسسات غير الربحية؛ تتيح لهم هذه الفرص الإسهام بطرق هادفة من خلال بناء العلاقات والاستفادة من المواهب التي طوروها على مدى عقود.
والأهم من ذلك، يُعد التعاون مع فئة الشباب لضمان مستقبل أفضل للأجيال المقبلة أمراً مهماً بقدر أهمية أي تحدٍّ قيادي يواجه المؤسسات. وبحسب المثل اليوناني المعروف: "يغدو المجتمع عظيماً عندما يزرع كبار السن أشجاراً يعرفون أنهم لن يجلسوا تحت ظلالها أبداً".
يُشير سكوت فيتزجيرالد إلى أن القدرة على استيعاب فكرتين متناقضتين في الوقت نفسه هي علامة على الذكاء العالي والنضج الفكري. وبالتالي، فإن معارضة السياسات والممارسات المتحيزة ضد كبار السن لا تعني معارضة إجراء تقييمات نزيهة حول انتقال القيادة من جيل إلى آخر. كما أن التشكيك في قدرة القائد بناءً على العمر فقط هو سلوك خاطئ يتسم بالتحيز ضد كبار السن. لكن احتياجات العصر وصحة القائد وقدراته قد تعني أن الوقت حان للانتقال أحياناً.
ويجب ألا يؤثر النقاش الحاد والأسئلة المطروحة بشأن المنافسة الانتخابية بين بايدن وترامب في حكمنا حول متطلبات القيادة وصفات القائد، بل يجب أن يُقيّم كل قائد استناداً إلى جدارته الشخصية وفعاليته، بغض النظر عن سنّه، ويجب على كل قائد بدوره أن يسعى إلى اتخاذ الإجراءات التي تصبّ في مصلحة أصحاب المصالحة، فذلك سيخدم الصالح العام، ويُسهم في بناء إرث القائد ومستقبله أيضاً.