كانت قيادة الأعمال خلال النصف الثاني من القرن العشرين مهنة نخبوية يهيمن عليها مدراء يديرون مؤسساتهم من القمة إلى القاعدة وفق تسلسل هرمي صُمم على غرار الفِرق العسكرية، بتأثير من الحربين العالميتين الأولى والثانية وأزمة الكساد الاقتصادي، مضيفين إليها هياكل سلطة متعددة المستويات لتحقيق السيطرة الكاملة من خلال تطبيق القوانين والإجراءات. فسعى الموظفون إلى الحصول على ترقيات لكسب السلطة والمكانة الاجتماعية والمال والامتيازات. وهو سلوك تطرّق إليه كلّ من وليام وايت في كتابه الكلاسيكي الصادر في عام 1956 بعنوان “رجل المؤسسة” (The Organization Man) وسلون ويلسون في الرواية التي نُشرت في عام 1955 بعنوان “صاحب البدلة الرمادية (The Man in the Gray Flannel Suit)”.

ومع تسارع تغيرات سوق الأسهم في الربع الأخير من القرن العشرين، عمد قادة الشركات إلى التركيز على الأرباح الربع الفصلية القريبة المدى على حساب تحقيق النمو البعيد المدى. فشهدنا في بدايات القرن الحالي تفاقماً كبيراً في قضايا الأخلاقيات والأزمات المالية، مثل الفضائح الأخلاقية في شركتي إنرون (Enron) ووورلدكوم (WorldCom) وانهيار وول ستريت المالي. فقد الناس ثقتهم في قادة الأعمال وأصبحوا يشككون في قدرتهم على بناء مؤسسات مستدامة تخدم المجتمع بدلاً من التركيز على مصالحهم الشخصية ومصالح المساهمين القصيرة الأجل.

ما الذي حدث؟ لم يعد نهج القيادة القائم على التراتبية فعالاً؛ فقد حلّ نموذج المؤسسات التعليمية التي تعج بموظفي المعرفة الذين لا يستجيبون للقيادة التوجيهية من القمة إلى القاعدة محلّ نموذج “الحرفي والمتدرب”، وأصبحت فئة الشباب اليوم تتطلع إلى تحمّل مسؤوليات قيادية بسرعة من دون انتظار 10 سنوات للحصول على ترقية ما، ولم يعد تحقيق الربح المادي هدف الموظفين، بل أضحوا يتطلعون إلى الشعور بالرضا الحقيقي والامتنان من أعمالهم. على سبيل المثال، يستلهم موظفو شركة ميدترونيك (Medtronic) حافزهم من رسالة الشركة المتمثلة في “إعادة بناء الأرواح والأجساد في سبيل عيش حياة صحية ومستقرة”.

واستجابة لهذه التحديات والتغيرات الحالية في عالم الأعمال، برز جيل جديد من القادة الذين يطبّقون نهجاً جديداً في إدارة الشركات العالمية الرائدة؛ فحلّ القادة الحقيقيون الذين يركزون على العملاء محلّ قادة التسلسل الهرمي الذين يركزون على خدمة المساهمين ذوي المصالح القصيرة الأجل. يتشارك هؤلاء القادة بوجهة نظر عبّر عنها الرئيس التنفيذي لشركة يونيليفر، بول بولمان، لصحيفة فايننشال تايمز قائلاً: “أنا لا أعمل لأجل المساهمين، بل أعمل لأجل المستهلكين والعملاء”.

سيركز أكثر القادة نجاحاً في القرن الحادي والعشرين على مواصلة الأداء المتميّز عن طريق مواءمة الموظفين مع رسالة المؤسسة وقيمها، وتمكين القادة في مختلف المستويات، والتركيز على خدمة العملاء والتعاون بين مختلف الأقسام في المؤسسة.

المواءمة

تتمثّل أصعب مهمة للقائد في مواءمة الموظفين مع رسالة المؤسسة وقيمها المشتركة، وهي مهمة أصعب بكثير من تحقيق أرباح قصيرة المدى. وتزداد صعوبة المواءمة في المؤسسات العالمية الواسعة الانتشار تحديداً، إذ يكون ولاء الموظفين المحليين لثقافاتهم الأصلية أكبر من ولاء أصحاب الشركات التي يعملون بها، وخاصة فيما يتعلق بممارسات الأعمال.

ظنّ القادة التقليديون أنه بالإمكان حلّ هذه المشكلة بفرض مجموعة من القوانين وتطبيق برامج التدريب وأنظمة الامتثال، لكنهم فوجئوا بإحجام الموظفين عن الالتزام بها، إذ ينبع التزام الموظفين الذين يتواءمون مع رسالة المؤسسة وقيمها من رغبتهم في المشاركة في تحقيق هدف سامٍ. وتُعتبر شركة جونسون آند جونسون مثالاً شائعاً لمؤسسة موجّهة بالقيم تستخدم مجموعة مبادئ لتوجيه قرارات موظفيها في جميع أنحاء العالم.

التمكين

يمنح القادة في المؤسسات القائمة على التراتبية موظفيهم صلاحيات محدودة بغية الحفاظ على السيطرة. وعلى العكس من ذلك، يمنح قادة القرن الحادي والعشرين الصلاحيات لموظفيهم في جميع المستويات، ويضعون أنظمة مساءلة متطورة لضمان التزامهم.

ويُعتبر قادة الخطوط الأمامية الذين لا يتولّون الإشراف على مرؤوسين مباشرين أهم هؤلاء القادة. قابلت مثلاً قائدة تتمتع بصلاحيات وضع معايير الأداء الجيد لبقية الموظفين في منشأة إنتاج صمامات القلب التابعة لشركة ميدترونيك، وهي مهاجرة من مدينة لاوس، وقالت لي: “أصنع صمامات قلب تنقذ حياة الناس، وأختبر جودة المنتجات بطريقتي لأنه إذا احتوى أحد الصمامات التي أصنعها على عيب ولو بسيط فسيسبب وفاة شخص ما. وعلى الرغم من أن نسبة الجودة في شركة ميدترونيك تصل إلى 99.9%، وهي نسبة جيدة جداً، فإنني لا أحتمل فكرة أن يؤدي عملي إلى وفاة شخص ما، وأكتسب شعوري بالرضا من حقيقة أن 5,000 شخص على الأقل ما زالوا على قيد الحياة اليوم بفضل الصمامات التي صنعتها.

الخدمة

يشير بول بولمان إلى أن أول التزام للقائد يجب أن يكون تجاه العملاء وليس تجاه المساهمين، فالرؤساء التنفيذيون الذين يهتمّون بتلبية مطالب المستثمرين في وول ستريت يعرضون أنفسهم لمخاطر تجاهل أهم أصحاب المصلحة لديهم، ألا وهم العملاء. بعبارة أخرى، يجب أن تكون قيمة ما تقدمه المؤسسة للعملاء أعلى من القيمة التي يقدمها المنافسون لئلا تواجه خطر الخروج من السوق. وفي الواقع، تحفز خدمة العملاء الموظفين في العمل بدرجة أكبر مقارنة برفع أسعار الأسهم، فهي تشجعهم على الابتكار وتقديم خدمة عملاء متميزة، فالعملاء الراضون والموظفون المحفَّزون عنصران أساسيان للحفاظ على نمو الإيرادات وبالتالي القيمة السهمية.

التعاون

التحديات التي تواجه الأعمال في الوقت الحالي معقدة جداً بحيث يتعذّر على الأفراد أو المؤسسات الفردية حلها، وهو ما يؤكد أهمية التعاون داخل المؤسسة ومع العملاء والموردين، وحتى مع المنافسين للتوصل إلى حلول مستدامة. يجب أن يشجع القادة على روح التعاون بين أعضاء المؤسسة ويتخلصوا من النزاعات الداخلية والسياسات العقيمة، ويركزوا على تعزيز التعاون الداخلي. بعد أن تولى سام بالميزانو منصب الرئيس التنفيذي لشركة آي بي إم (IBM)، عمد إلى تحويل نهج البيروقراطية القائم منذ أمد طويل إلى “شبكة عالمية متكاملة”، إذ غيّر نهج القيادة نحو “القيادة بالقيم” وألغى عقلية الصومعة التي كانت تعوق التعاون بين الموظفين.

أهم معيار لفعالية القادة هو القدرة على مواصلة تقديم نتائج متفوقة على مرّ الزمن، والمؤسسات التي تتمكن من مواءمة موظفيها مع هدفها وتمكينهم وتحفيزهم على التعاون والتركيز على خدمة العملاء ستتفوق دائماً على المؤسسات ذات الهيكل الإداري الهرمي. قد يحقق القادة الذين يتبعون نهج قيادة من القمة إلى القاعدة نتائج على المدى المنظور، لكن تحفيز المؤسسة بأكملها لتحقيق أداء متميّز على المدى الطويل هو نهج لا يتقنه إلا القادة الحقيقيون،

ونحن بحاجة إلى مثل هؤلاء القادة لنعيد بناء الثقة التي فقدناها في النظام الرأسمالي.